فضاءات

في رحلة التشكيلي رائد نوري الراوي / كمال يلدو

حتى وإن غادروا تلك الأرض، أو اختاروا "عشاً " آخرا ووطناً جديداً، فإن رائحة العراق تبقى فوّاحة وتشـي عن نفسها فيهم، فتتلمسها في احاديثهم وامنياتهم وحتي في احلامهم ومجمل تأملاتهم، اولئك هم الأبناء النبلاء للعراق، اولئك هم النجوم التي زيّنت ومازالت، سـماء ثقافتنا الوطنية، ومابرحت تمدها بالضياء والمحبة الدائمة. ولد في مدينة بغداد عام 1955، وفيها أكمل دراسته الأولية والجامعية، قبل أن يتنقل بين صحفها رساماً للكاريكاتير. في العام 1980 قرر ان يزور احد اصدقائه الدارسين في الولايات المتحدة الأمريكية وأمتثل الى نصائح الأهل وألاصدقاء في التريث بالعودة للعراق لحين ما تضع الحرب مع إيران أوزارها. لكن نيران الحرب غارت عميقا في الجسد العراقي، وتلاشى حلم العودة. عمل مصمما في إحدى دور النشر، وواصل نتاجه الإبداعي، كما راح يدّرس الرسم والكاركتير بشكل خاص في احد المعاهد بولاية - نورث كارولاينا. إنه الفنان رائد نوري الراوي الذي إستضافه منتدى الرافدين للثقافة والفنون، في أمسية أقامها لأستذكار الفنانين الراحلين نوري الراوي و مكي البدري .
كيف عشت الغربة لعقود أربعة؟
لم تكن الغربة خياراً بل إضطراراً، هرباً من جحيم الحروب ومضايقات النظام وسياسة التبعيث القسري وغياب الحريات. وأبرز ما ألمني مقتل صديقي (منعم الزهاوي) في الحرب، والضغط الذي مورس ضد أهلي لأعود.. كانت تلك الأيام اياماً صعبة حقا، لكني نجحت في أن أتجلد أكثر مع مشاعري وحنيني.
كيف؟
بالرسم! كنت أرسم السكيتشات، كنت ارسم اي شئ، المهم ان ارسم حتى اهدأ وترتاح روحي. فقد احسنت توظيف (عقوبة) الكبت والكآبة، الى الأنتاج الأبداعي. اما حينما اتذكر تلك الأيام، فكم اتمنى لو كنت امتلك (عقلية اليوم، بروح الماضي) لكان تعاملي مع الحدث بشكل افضل، اما تحويل المعاناة الى رسم، فلم اجد تفسيرا له إلا كوننا اناسا قادرين على تحويل أكبر الكوارث الى حالات ابداعية فذّة!
وماذا عن دور والدك الفنان الرائد نوري الراوي في حياتك؟
ربما اكون من المحظوظين في نشأتي مع هذه العائلة، فقد كان بيتنا مليئا بالكتب واللوحات الفنية إضافة لمرسم متكامل. كما كنّا نمتلك (كرامافون) يسمعنا أبي من خلاله أروع المعزوفات الموسيقية الكلاسيكية كل يوم جمعة، أي كنت أتابع والدي وهو يقضي معظم وقته بين الكتابة والقراءة وبين الرسم والموسيقى! كما كان بيتنا ملتقى لكبار المبدعين من أصدقائه، منير بشير وحافظ الدروبي وراكان دبدوب وخالد الرحال وغيرهم. أحببت رسوم (مايكل انجيلوا) كثيرا، وبدأت مسيرتي بعمل تخطيطات لوجوه معظم اصدقائي. ثم تملكت نوعا من الفكاهة انعكست على الرسوم، ومع نهاية عقد الستينيات صرت ارسم الكاريكاتير، ونشر اول رسم لي بشكل رسمي في الصفحة الأخيرة من مجلة الف باء عام 1971.
وبمن من رسامي الكاركتير تأثرت في بداياتك؟
في المقدمة منهم تأتي رسوم الأستاذ "بسام فرج"، وبعدها رسوم وموضوعات الراحل "مؤيد نعمة"، ثم جاءت التأثيرات الأخرى عبر مشاركتنا في (معرض كَابروفو) الدولي للكاريكاتير العالمي في بلغاريا عام 1975، فأنفتحت على عالم رائع من رسوم تتميز بالبساطة والبساطة فقط! عدت ودرست الأمر مع نفسي، وأخترت منذ تلك الفترة طريقاً للرسم مازلت لليوم مطيعا له، الا وهو: الرسم البسيط والأبتعاد قدر الأمكان عن التعليق، متعمدا ان اترك الرسم يتحدث عن نفسه، وأن أمنح فرصة للقارئ (المشاهد) لكي يخرج بالحصيلة.
وماذا عن صداقات تلك المرحلة؟
لقد خدمتني التكنولوجيا كثيراً، حيث ساعدتني على إعادة التواصل مع الكثير من الأحبة الذين افتقدتهم نتيجة الغربة وظروف الوطن الصعبة، إذ صرت اتواصل مع اصدقائي الكثيرين ومنهم الفنانين فيصل لعيبي ورضا رضا وكفاح محمود وأمير تقي وأخيراً علي إبراهيم الدليمي. حين أنشر بعض رسوماتي عبر صفحتي، وتأتيني التعليقات من العراق و اوربا، أعود طفلا صغيرا يحن الى أهله وأصدقائه وإلى عشرتهم الجميلة. وما يزيدني فخرا، فأن الكثيرين مازالوا يتذكرون (جماعة الكاريكاتير)، ومن الطريف ان أذكر بأني وبعد كل هذه السنين، استلمت دعوة من (امانة بغداد) يطلبون فيها معلومات عن سيرتي الذاتية وذلك بغية ضمها الى كتاب ينوون اصداره عن مجموعة المفكرين والرسامين، والأطرف من ذلك، بأن الكتاب يشير اليّ وليس الى استاذي نوري الراوي!
• متى كان لقاؤك الأخير مع الوالد، وماذا حدث لأرثه الفني الكبير؟
أول لقائي به وبالأهل كان بعد 24 عاما من الغربة، اما آخر لقاء فكان عام 2010، حينما أقمنا معرضا تشكيليا مشتركا أنا وهو على قاعة الأورفلي في العاصمة الأردنية عمّان ، وكان تحت عنوان (معرض الثمانين عاما) وتشرفت بعمل دليل المعرض آنذاك. لقد ترك الراحل الكثير الكثير، وتقوم الغالية شقيقتي (ســـحر) الآن بتصفية تلك التركة وبما يليق بمسيرة الوالد، علما انها كانت قد تبرعت بقسم من الرسوم الى (جمعية الفنانين التشكيليين) وقسم آخر الى (وزارة الثقافة العراقية) والقسم الأخير مازالت تحافظ عليه رغم ظروف البلد الأمنية الصعبة.
•كلمة أخيرة؟
لم اتمكن من مغادرة هموم الأنسان العراقي التي تراها في كل الخطوط والرسوم ، وأحاول تقديمها ليس للمشاهد العربي فقط بل للقارئ الأمريكي، اذ رسمت ضد الطائفية والفساد والظلم والفقر والجوع ومازلت. أُمنيتي أن يعم السـلام والأمان الوطن وأن يبقى موحداً مثلما كان أيام طفولتي!