فضاءات

نبيل الحيدري يرافق رهين المحبسين الى المقهى الثقافي العراقي في لندن / عبد جعفر

فيلسوف المعرة في بغداد، كان عنوان أمسية للمقهى الثقافي العراقي في لندن وهو يدشن عامه الرابع، والتي استضاف فيها الباحث والكاتب الدكتور نبيل الحيدري وذلك يوم 26-4-2015
وفي بداية الأمسية وقف الحضور دقيقة حداد على روح الراحل الفنان الكبير خليل شوقي.
وقال الدكتور عبد الحسين الطائي في تقديمه لقد تعددت وتنوعت مزايا الشعر، ولكن هناك ميزة لا يكون الشاعرُ شاعراً إلا بنصيب منها، أي الطبيعة الفنية التي تجعل فن الشاعر جزءاً من حياته، ضمن جدلية العلاقة بين الحياة والشعر.
فمن يطلع على نتاجه الشعري والأدبي والفلسفي يدرك عمق ثقافته وسعة إطلاعه.
مضيفا أن شعره يدل على أنه كان عالماً بالأديان والمذاهب وعقائد الفرق. وله إطلاع واسعٌ في معرفة التاريخ والأخبار.
ندد بالخرافات التي تمارسها الأديان، حيث كان يعتقد بأن الدين (خرافة إبتدعها القدماء). ولهذا وقف بالضد من الخلفاء الذين إستغلوا الدين كأداة لتبرير أعمالهم السيئة وتدعيم سلطتهم، وكذلك أنتقد وعاظ السلاطين الذين يطبلون لهؤلاء الحكام.
وقال أن (أبو العلاء المعري) هو الشاعر، والمفكر الحر والأديب والفيلسوف من شعراء العصر العباسي ولد في 973م، 363هـ في معرة النعمان في سوريا. لقب برهين المحَبسين، لسببين أولاً: محَبِس/رهين العمى، لأنه فقد بصره وهو في الرابعة من عمره لأِصابته بمرض الجدري. وثانياً: محَبِس/ رهين البيت لأنه أعتزل الحياة بعد عودته من بغداد، التي أحبها وفي نفسه حنين لم ينقطع إليها. حيث عاش زاهداً في الدنيا معرضاً عن لذاتها، حتى توفي في 1057م، 449هـ، عن عمرٍ يناهز 86 عاماً ودفن في منزله في معرة النعمان.
أول مجموعة شعرية ظهرت له هو ديوان سقط الزند، والمجموعة الثانية الأكثر ابداعاً لزوم ما لا يلزم أو اللزوميات. ومن أعماله المعروفة رسالة الغفران (وهي رحلة خيال إلى العالم الآخر، ألبسها لباساً سماوياً)، شغلت الكثير من الباحثين لما رأوا من ملامح الشبه بينها وبين الكوميديا الإلهية لدانتي (1256-1321). لقد تم قطع رأس تمثال المعري مؤخراً، بينما مازال تمثال دانتي شامخاً في ايطاليا. هكذا هو الغرب يكرم مبدعيه بمختلف الطرق، بينما قوى الظلام والإرهاب في مجتمعاتنا تدمر الإرث التاريخي، وتبدع في تقطيع وتهشيم تماثيل عظمائنا.
مشيرا الى أن أكثر مؤلفاته مثيرة للجدل، وقد ترجم الكثير من شعره إلى غير العربية، وكتب الكثير من الباحثين آراء حول طروحاته وفلسفته.
وفي تعريفه للمحاضر أشار الى أن له مجموعة من الإبحاث والدراسات والكتب باللغتين العربية والإنكليزية. صدر له حديثاً كتاب: (التشيع العربي والتشيع الفارسي)، وجدل التفكير والتكفير.
وفي حديثه، عن أبي علاء المعري، أكد نبيل الحيدري أن المعري عملاق إستطاع أن يسطر بإبداعه وفكره جدلا من أقصى اليمين الى أقصى الشمال.
إن شاعرنا كان من المتميزين شعرا وفكرا وأدبا وفلسفة ومعارف في العصر الذهبي للأدب والفكر والجدل والترجمة والسجالات المختلفة، ولازالت آثاره تدل على روعته خصوصا اللزوميات ورسالة الغفران وسقط الزند وعبث الوليد والفصول والغايات وزجر النابح وملقى السبيل ورسالة الصاهل والشاحج ورسالة الملائكة والرسالة السندية ورسائله المختلفة.
وأوضح الحيدري أن سفر المعري الى مناطق عديدة وإطلاعه على الكثير من المعارف والأديان قد كون إتجاهه الفكري وفلسفته إتجاه الحياة ونقده للدولة والدين والناس.
وكتب عن المعري الكثير مثل طه حسين، وعباس محمود العقاد، وبنت الشاطئ، وأمين الخولي، وهادى العلوي، وعبد الله العلايلي، ولويس عوض، ويوسف البديعي، وعمر رضا كحالة، وعلى كنجيان، ويوحنا قمير، وياقوت الحموي، ويوسف سركيس، ويوسف أسعد داغر، والقفطي، وإبن العديم وغيرهم. كما اهتم به العديد من المستشرقين مثل نيكلسون، ووليم واط وماركليوث، وغولدزيهر، وبوشه، وأغناطيوس، وكريمر، وهيار وسلمون، وأوخو، وبروكلمان، وماسنيون، وبلاسيوس.
وترجمت أعماله مثل اللزوميات إلى الإنكليزية والفرنسية والألمانية والإسبانية والروسية وغيرها.
وتناول المحاضر كتابات طه حسين عن المعري منها (في تجديد ذكرى أبي العلاء) و (مع أبي العلاء في سجنه). ورأى أن الأزهر كان متخلفا في نظرته الى المعري، ورأى في المعري قمة في الإبداع وخصوصا رثائه وحكمته التي أصبحت مضرب الأمثال.
وأنعطف بحديثه عن توجه المعري الى بغداد، حيث قصدها عام 398 هجرية وهو في منتصف الثلاثينات من عمره.
ذاكرا أن بغداد كانت وقتها مدينة العلم ودار الخلافة وحاضرة الإسلام ومركز الحضارة وتلاقح الفكر وملتقي الأشراف والتجار والأدباء والمثقفين، أذ كانت مثل باريس اليوم كما يقول طه حسين، فلا ترى شابا أتم الدرس في بلده إلا كان يتحرق شوقا الى الرحلة الى بغداد ودراسة العلم فيها.
و بغداد كانت أيضا مقصد صيادي الثروات من المرتزقة بالشعر عند أبواب الخلفاء والامراء، ولكن المعري كان عفيف النفس، زاهدا لم يرتزق بشعره، ولقد رد شعرا على من غمزه بمظنة السؤال قائلا:
أنبئكم أني على العهد سالم ... ووجهي لما يبتذل بسؤال
وأني تيممت العراق لغير ما ... تيممه غيلان عند بلال
وأحب المعري بغداد كثيرا وقد دعاه البغداديون إليها، بعد أن ظلمه أمير حلب.
مضيفا أن وجود المعري ببغداد كان سببا في الكثير من الإحداث والمنازلات الشعرية والأدبية والمذهبية والفكرية في جو المدينة المحتقن أصلا بشتي المدارس والنزعات الأدبية والعقائد الفكرية والتيارات المختلفة.
لقد صادف يوم وصوله موت الشريف الطاهر والد الشريفين الرضي والمرتضي، وحصلت قصص ووقائع منها إنشاد الأشعار في المتوفي شاعرا بعد آخر، حتى قام أخيرا المعري بقصيدته الرائعة ومطلعها:
أودى فليت الحادثات كفاف
مال المسيف وعنبر المستاف
وما أن سمع الشريفان قصيدته التي هزت كيانيهما حتى نزلا اليه إجلالا سائلين: لعلك أبا العلاء المعري.
قال نعم ،فأكرماه وقدماه ورفعا مجلسه ثم استأثرا به.
مع ذلك كله كانت بغداد تمتحن الوافدين، كان الإمتحان صعبا لكن المعري نجح بتفوق وتميز. واصبح عاشقا لبغداد
وقال فيها :
شربنا ماء دجلة خير ماء
وزرنا أشرف الشجر النخيلا
وذكر الحيدري قصصا عديدة عن شدة ذكاء المعري وقوة ذاكرته، وحكمه الكثيرة التي صارت مضربا للأمثال.
ولما رأيت الجهل في الناس فاشيا
تجاهلت حتي ظن أني جاهل
فوا عجبا كم يدعي الفضل ناقص
و وا أسفا كم يظهر النقص فاضل
وذكر الحيدري أن المعري جالس الأدباء وحاور الفلاسفة وأصحاب الملل والمذاهب ولم يكن يكتفي بالقراءة عنهم.
وتناول المحاضر محنته في بغداد وتركه لها، أذ بقي المعري عاشقا لهذه المدينة متأسفا على تركها. وقال فيها:
يا لهف نفسي على أني رجعت
الى هذي البلاد ولم أهلك ببغدادا
وعند خروجه من بغداد خرج معه الكثير من البغداديين لتوديعه
وبقي يذكر بغداد ويري انها لا تقارن بغيرها من العواصم
و اشار الى أن خيلاء المعري أوقدها ضجيج عاصمة الدنيا وتزاحم الخلق والأهواء والمهارات. وقال مفتخرا وهو في بغداد:
إني وأن كنت الاخير زمانه
لأت بما لم تستطعه الأوائل
ولعل هذا التفاخر والنزعة لإستعراض النفس والبراعات اللغوية التي لا تجاري هي من دفعت أبا العلاء الى بغداد لينازع أدباءها شرف البلاغة وينتزع منهم وهو الأعمى الإعتراف بقدراته التي تفوق قدرات المبصرين.
ولكن ما أن رجع الى سوريا، حتى حبس نفسه الى آخر حياته العمى والبيت، بالأضافة الى التشاؤم. وأصبح رهين ثلاثة محابس و يقول:
غير مجد في ملتي وإعتقادي
نوح باك ولا ترنم شاد
وشبيه صوت النعي أذا قيس
بصوت البشير في كل ناد
أبكت تلكم الحمامة أم غنت
على فرع غصنها المياد
إن حزنا في ساعة الموت
أضعاف سرور في ساعة الميلاد
وعلى صعيد سلوكه الشخصي كان يتقاسم أكله مع الخادمة، ويتصدق على المحتاجين، كما حرم على نفسه أكل لحم وإيذاء الحيوان. وقال في ذلك:
فلا تأكلن ما أخرج الماء ظالما
ولا تبغ قوتا من غريض الذبائح
ولا تفجعن الطير وهي غوافل
بما وضعت فالظلم شر القبائح
ودع ضَرب النحل الذي بكرت له
كواسب من إزهار نبت صحائح
وهناك مقولته المشهورة عندما وصف له الطبيب عند مرضه فروجا فقال أستضعفوك فأكلوك.
وأشار المحاضر الى أنه على الرغم أن المعري لم يتزوج ألا أنه كتب قصائد في الغزل، وهو بهذا يفند ادعاء البعض ان له موقف من المرأة.
واكد الحيدري لعل تباين نفسية أبي العلاء في مقامه في بغداد وإنفتاحه وزهوه وإفتخاره وتفاؤله وبين عزلته في بلدة صغيرة مثل المعرة، مادة خصبة لعلماء النفس ليدرسوا تأثير البيئة على مزاج الإنسان وعاداته اليومية بل وعلى معتقداته الدينية والفكرية، خصوصا إذا كان ذا إعاقة جسدية كالعمى الذي إبتلى فيه منذ صغره و الإبتلاءات والمحن الأخرى التي عاناها.
وعلى الرغم أن المحاضرة إفتقدت المنهجية في الطرح، وعدم تناول الجوانب الإساسية في فلسفة المعري وكيف تجلت في شعره وفي كتاباته ورسائله وعلاقاته . ومع ذلك أثارت هذه الندوة العديد من الأسئلة والنقاشات بين المحاضر و زبائن المقهى.