فضاءات

شهادة وذكريات */ رسمية محمد هادي

أحييكم بحرارة وتأثر. انتم جميعا الذين قررتم التجمع هنا من أجل احياء الذكرى السادسة والستين لاعتلاء قادة حزبنا الشيوعي الاماجد، فهد السكرتير العام ومؤسس الحزب، ورفيقاه صارم وحازم عضوا المكتب السياسي أعواد المشابق دفاعا عن المثل والمبادئ النبيلة. مفتتحين طريق البطولة الذي سارت عليه من بعدهم قوافل متعاقبة، والثائرون ورثة الثائرين في كل عصر. يستشرفون الآتي يستكشفون الماضي، وفي الحاضر يستنبطون الحياة.
ان احتفالنا بذكرى يوم الشهيد الشيوعي ليس مناسبة تقليدية، تأبينية وحسب، بل هي نقطة انعطاف مصيرية في وضعنا الفكري والسياسي الراهن. فهي تمثل نقلة نوعية في المجابهة الفكرية والسياسية مع ممثلي السلفية المتوحشة. فنحن نشهد حالة هجوم فاشي ضد العقلانية من جانب أكثر ممثلي اللاعقلانية تخلفا، سواء لبست لبوس لاهوت سلفي، أم لبوس فاشية متحضرة. حيث يتحول الارهاب الراهن، الذي يمثل تنظيم الدولة الاسلامية المعروف حتى الان باختصار اسمه السابق (داعش)، رأس الحربة فيه، الى قوة ثالثة في النظام العالمي.
واصارحكم القول في هذه المناسبة الكبيرة، ان الكتابة عن عزيز غائب عمل حزين، فكيف اذا كان غيابه غياب موت. هكذا تهاجمني الاشجان حين استرجع ذكرياتي مع شقيقتي الشهيدة ام سعد. أشجان من نوع خاص. أشجان رقيقة شفافة لا تشبه الاحزان المتداولة. واكاد اقول اشجان تنشر حولها من العذوبة ما يدفع الى البسمة الهادئة حتى لكأنها مسرات. كان حلمها هو بناء عالم من أجل الانسان في كل ارض الإنسان عالم لا يتحرر فيه الانسان من قيود الفقر الاقتصادي فحسب، بل من قيود الفقر الروحي التي ولدها الاغتراب. ان ايمانها مازال يحركنا وايمانها مازال يوجهنا لتجاوز فرديتنا نحو مستقبل مشرق، مستقبل تضيؤه الديمقراطية والحرية والعقل والحب والخيال والجمال. واذا كانت عزيمتنا تفتر احيانا في اوضاع مثيرة للإحباط، واذا كانت بوادر الياس تطالنا احيانا فأن رسالتها هنا لتنفح فينا روح الصلابة والمجابهة الضرورية لمتابعة النضال. هذا النضال الذي هو نضالنا جميعا . وفي ذلك يأخذ احياء الذكرى كل معناه. فاحياء الذكرى ينبغي ان يكون فعلا نضاليا شعاره التمثل لا الامتثال، تمثل الواقع علميا، وتحطيم القيود المكبلة للعقل لا الامتثال لاصفاد اللاعقلانية.
أراها في سيرة نضالها تختط حياتها ضد قوى القهر وأفكار القهر، منذ يفاعتها الى يوم استشهادها بأيد قوى النظام الفاشي المباد. واود ان اشهد لهذه الهوية المميزة لهذا التطابق الكامل بين خيارات فوز الفكرية والسياسية وخياراتها الحياتية، في استقامة نادرة الصراحة. وبأمانتها الاخلاقية هذه كانت تناضل في صفوف حزبها بكل قواها ولاتقبل لنفسها أي تهرب او تساهل. كانت ماسوف تكون شيوعية حتى قبل ان تنتمي الى حزبها . وهذه الاستقامة هي بالضبط ما قادها الى الاستشهاد.
تعلمنا منها في حياتها، قبل أن نستنتج ذلك بعد موتها، ماذا يعني موقف الانسان الوطني من قضايا شعبه وامته. وتعلمنا منها في حياتها، قبل أن تحتاج الى تأكيد ذلك بـأستشهادها، الحس العالي بالمسؤولية حيال الوطن والشعب. وتعلمنا منها في حياتها الجلد والصبر اللذين لاحدود لهما في مقاومة الطغاة. لقد واجهت رصاص السلطات الرجعية وهي تتصدر المضاهرات الاحتجاجية وتجوب اثنائها شوارع المدينة حافية القدمين. وبذات البسالة والاقدام خاضت غمار العمل السري في اعتى الظروف كما واجهت سياط الجلادين في المعتقلات لمرات عديدة ، فلقنت الجلادين دروسا في التضحية ونكران الذات.
تتحدث العائلة عن تبلور حسها الانساني والاممي منذ طفولتها الباكرة في الخمسينات ابان تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر - حينذاك كانت محنة الشعب المصري محنتها الخاصة تقض مضاجعها كل الوقت، لتستيقظ في ساعات متأخرة من الليل وهي تصرخ بابا لماذا يقتلون المصريين ؟. وبالرغم من محدودية دخل العائلة المادي كانت تتبرع بقسم كبير من دخلها المتواضع للناس المعوزين. كنت اقتدي بها منذ كنت طفلة فحذوت حذوها من خلال تبرعي بيومياتي الى الشحاذين، لكنها اوضحت لي ان يومياتي لاتحل مشاكل الشحاذين، ولما سألتها ماذا يحل مشاكلهم؟ اجابتي ان الاشتراكية هي الحل، والاشتراكية تتحقق من خلال العمل في صفوف الحزب الشيوعي العراقي.
باكرا حددت موقفها في حقل الثقافة الوطنية وفي حقل السياسة ، فكانت أول فتاة في محافظتها تعتلي خشبة المسرح الشعبي لتكون باكورة أعمالها المسرحية، مسرحية (خبز وكرامة)، ومسرحية(اني امك يا شاكر). وبقدر ماشغفت بالمسرح شغفت كذلك في الشعر والأدب والسينما. كانت تشركنا في مطالعاتها الادبية خاصة الادب الروسي ونتناقش معا في سيرة ابطال الروايات الثورية، وكنا ننجذب اليها في حديث هادئ عن بلاد السوفيات وعن ان النصر لنا في حركتنا الوطنية بقدر ماهو لنا في حركتنا الأممية كانت تؤمن ان الكلمة الصادقة لاتقل اهمية عن الطلقة الموجهة الى صدور الاعداء . كانت تذكر ان الكلمة تعبئ الناس، تبرز امكانياتهم، تزيد وعيهم تجعلهم اكثر شجاعة واحتراما. لذلك حرصت ام سعد اثناء اعتقالي أن تدس لي من خلال الاكل كتاب (تحت أعواد المشنقة).
غابت جسدا، ام سعد، كما غابوا شهيدات وشهداء الحزب والشعب، لكنهم انزرعوا في ارض الوطن الى الأبد وانزرعوا في وجدان الناس وضمائرهم وعقولهم. لن يعودوا ، لانهم لم يتركونا أصلا ، لانهم باقين معنا باستمرار، انهم يتجددون في كل عقل نير وكل ضمير حي ، ويتجسدون بالآلاف من تلاميذهم، والذين يتزايدون كل يوم.
* القيت في حفل مدينة مالمو بالذكرى السادسة والستين ليوم الشهيد الشيوعي.