فضاءات

تمثلات المحسن تحرك مياه البحث الثقافي العراقي الساكن


عبد جعفر
تمثلات النهضة والحداثة في الثقافة العراقية، الموضوع الشيق والمهم للخلاصة البحث الدؤوب والشاق والمتفرد للباحثة والكاتبة د. فاطمة المحسن الذي قدمته للزبائن المقهى الثقافي العراقي في لندن في أمسية يوم 015-5-31
وأثارالموضوع المطروح، نقاشات ومداخلات عديدة ومهمة إمتدت حتى الى ما بعد إنتهاء الأمسية.
ويذكر أنه صدر للباحثة كتابان هما (تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث) عام 2010 و (تمثلات الحداثة في ثقافة العراق) عام 2015.
وقال الشاعر والإعلامي فاضل السلطاني في تقديمه :
(يبدو التاريخ العراقي حركة متعرجة في منعطف كبير ليس فيه من القطع إلا هنيهات قليلة لا تعد بعمر الزمن الثقافي). إنه تشخيص دقيق تسجله لنا الباحثة فاطمة المحسن في كتابها «تمثلات النهضة في ثقافة العراق الحديث». وهو يكشف، في الوقت نفسه، مقدار الجهد الكبير والرائد، الذي بذلته الباحثة، أكاديميا وزمنيا، في إلتقاط تموجات هذه الحركة، وإخضاعها للدرس والتحليل، وكشف البؤرة المركزية في مستويات الواقع المتداخلة، بل المتناقضة لحد التصادم، وتعبيراتها الثقافية، بالمعنى الشامل للكلمة، أي طرق التفكير والسلوك، والممارسة الاجتماعية، بالإضافة إلى القيم الجمالية والفنية.
وأضاف لقد كتب الكثير عن محاولات التحديث العراقي، وتحديدا في بداية القرن العشرين، وخاصة في أدبيات اليسار العراقي، الذي أسهم إسهاما فعالا في تلك المحاولات عبر رموزه الثقافية. ولكن هذه الكتابات ظلت متناثرة وغالبا ما كانت تركز على تناول أحد جوانبه، مهملة الجوانب الأخرى، وبذلك إفتقدنا الصورة الكلية لتلك السنوات العاصفة، ومقدماتها، ومساراتها، وبالتالي نتائجها. ومن هنا أهمية هذا الكتاب الجامع، الذي تجنب، في الوقت نفسه، مطبات التجميع والتعميم في كتب مثل هذه، وركز على دور الفرد، «كنموذج ثقافي تنعكس فيه صورة الجماعة.
وتسأءل كيف نظمت أفكار هذه التيارات، وأي أنساق فكرية قد اتخذت؟ وهل ارتفعت إلى مستوى المنظومات الفكرية؟ لا يبدو أن الأمر كذلك، فلم يكن العراق بالطبع، وقد بدأ بالتشكل كمجتمع ودولة لتوه، قادرا على إنتاج أي معرفية منهجية، وهي الشرط الأساسي لأي نهضة حقيقية. ولم يفت ذلك على الباحثة التي أشارت إلى أن استخدام هذا المصطلح، وليس التنوير كما في الغرب.
وأكد أن القضية الأخرى المهمة التي يطرحها، أن «النهضة العراقية» ذات خصوصية خاصة. لأنها قدمت نفسها «كمشروع من خلال أصوات الشعراء الذين استكملوا مهمة الشاعر والمفكر، بل المهتم بالعلوم الحديثة»، وليس كما في بلاد االشام، ومصر.
مضيفا أن الثقافة العراقية لم تكن عربية صرفا، بل هي، كما تشخص فاطمة المحسن بحق، «نتاج ثقافات شعوب مختلفة تتساكن داخل جغرافيته، وهذه الشعوب لها حضارتها التي تتفاوت أزمنة التجديد والنهضة فيها».
ومشيرا الى إن أسئلة النهضة التي يطرحها البحث، لا تزال هي أسئلة العراق المعاصر، الذي لا يبدو أنه مهيأ للتبصر فيها، وطرحها على نفسه بشجاعة، هذا إذا لم نقل إن ذلك الماضي المحتدم، الذي جمع بين الشاعر ورجل الدين، والكردي والعربي، وبغداد والموصل والنجف، في هم وطني واحد - يبدو ماضيا ذهبيا حقا قياسا بالراهن، رغم مرور قرن كامل من الزمن العراقي.
وأكد أن منهج الباحثة قاد إلى تطبيقات صحيحة سواء في جزئها الأول، أو الجزء الثاني. فلم توجد نهضة ولا حداثة في العراق، بل هناك تمثلات لهما.
للأسف، كثير من الدراسات العربية تفهم الحداثة وكأنها الحداثة الشعرية أو الأدبية عموما، كما إن كثير من باحثينا لا يميزون بين الجديد New وبين الحديث Modern
فالحداثة هي ظاهرة اجتماعية- ثقافية.. إنزياح كامل لقيم اجتماعية- ثقافية قديمة لتحل محلها قيم جديدة، وعلى المستوى الأفقي، وليس العمودي. هذا الفهم الصحيح قاد فاطمة إلى تطبيقات صحيحة في اقتفاء الأثر الشعبي في رصد المتغيرات الثقافية للعراق الحديث، والأثر الشعبي هو ملمح أساس من معالم الحداثة.
ومن جانبه أعطت المحسن شرحا وافيا لدوافع بحثها الذي أخذ منها الكثير من الجهد والوقت، متناولة بدايات النهضة في أوروبا وما تبعتها من نهضة علمية، وحركة تنويرية تزامنت مع الثورة الصناعية وتفكك الأقطاع وصعود البرجوازية كطبقة تقدمية، وما أعقبتها من إحتلالات بالقوة.ولكنها حملت معها بذور النهضة، كما حدث في حملة نابليون على مصر عام 1798
وحول النهضة في العراق اشارت الى أنه شهد أول نواة النهضة في زمن داود باشا ( الذي حكم العراق (1817-1831) وكان يرغب أن يؤسس حكم الخديوية على طريقة محمد علي في مصر.
وقد أعده محمد مهدي البصير عراب النهضة الأول، لأنه أدخل الكثير من الإصلاحات حتى قيل أن بغداد صارت تضاهي إستانبول في بعض النواحي.
وهناك من يرى أن عهد مدحث باشا رغم قصره، هو البداية الحقيقية للنهضة العراقية (1867- 1870).
ويعد مدحت باشا من أكبر المثقفين السياسيين في الإمبراطورية العثمانية.أذ احدث تغيرات كبيرة من توطين العشائر وإصلاح التعليم وسن قوانين عصرية وجلب أول مطبعة .
أما النهضة الأخرى التي شهدها العراق تمثلت بإعلان الدستور عام 1908 في تركيا الذي كان له تأثيره على حياة الطبقة المتعلمة العراقية.
وترى الباحثة فاطمة المحسن أن النهضة الحقيقية التي شهدها العراق هو مع تأسيس الدولة العراقية بعد الإحتلال البريطاني.
ولقد تحققت في عهد الملك فيصل الكثير من الإنجازات ومنها مجانية التعليم وبناء المدارس حتى في الأرياف القصية.
فغدت سيرورة التحضر تسير بقوة الدفع الجماعي، والشراكة بين المثقف والسياسي وأن إختلف المثقف مع السلطة في الطريقة التي حاولت فيها إدارة المجتمع وفي تحديد مفهوم الإستقلال.
وتناولت أراء وأفكار المثقفين العراقيين في ذلك الوقت ومنها طروحات الزهاوي والرصافي تجاه الدين وموضوع تحرير المرأة الذي حرك الكثير من الجدل في العراق مع القوى الرجعية.
وأشارت الى المفاهيم الجديدة التي خلقتها حركة المجتمع ومنها موضوع القومية والأمة وهي الفكرة التي طرحها الملك فيصل الأول وظهور الإتجاه الماركسي والأراء التنويرية شكلت ألآطار العام للنهضة.
بعد ذلك تناولت المحسن موضوعة الحداثة مع نمو البرجوازية والرأسمالية في العالم وظهور العواصم الثقافية:نيويورك ولندن وبرلين وباريس.
مشيرة الى أن التنافس الرأسمالية على الأسواق ومناطق النفوذ،خلق الحداثة في المناطق التي إستعمرت رغم أنها جاءت بالقوة والقتل وخلقت الكثير من المرارات.
وعلى صعيد العراقي، ظهرت تمثلات النهضة بإتصال المثقف بالغرب من خلال تعلم اللغة الأنكليزية وإرسال البعثات، و بروز الأكاديميين والكليات العلمية والأدبية. وبروز المعمارين والمطالب بتحرر المرأة وظهور السافرات ، بحيث أزدهرت بغداد، وأصبح فيها كل شيء جديد منذ بداية الثلاثنيات.
ومؤكدة أن هذه التطورات ولدت موضوع الإغتراب عند المثقف بسبب واقعي أو بسبب تثاقفي. كما خلقت هذه التطورات ظهور المثقف الليبرالي، وبروز الأهتمام بالقضايا الشعبية سواء في الرسم أوالقص. وشكلت هذه التراكمات تحولات نوعية من خلال دعوة المثقف الى الثورة وعدم التفاهم مع السلطة وتزامن مع بروز الحزب الشيوعي العراقي الذي قاد المظاهرات الجماهيرية، حيث أصبحت الشيوعية (روح العصر) عند الكثير من المثقفين. وقد واجهت السلطات هذا التحرك بالقمع وإعلان الأحكام العرفية.
وعلى صعيد أخر برزت الحركة الوجودية في العراق في الضد من المد الشيوعي.
مشيرة الى أن علامات الحداثة في الأربعينات والخمسينات إرتبطت بحراك المجتمع القلق وغدت السلطة موضع نقد متزايد من قبل الجماعات المثقفة التي كانت تسعى الى التمايز عنها ولكنها تشترك معها في موضوع التحديث.
وأشارت الى حالة الفصام عند المثقف وهي حالة من حالة الإغتراب عن محيطه الشعبي. بسبب الازدواجية التي يشعربها في حياته بين الإنتماء الى الجماهير والإنفصال عنها بتطلعه الى حياة حديثة.
وأنعطفت المحسن بحديثها عن 14 تموز التي جعلت الثقافة اكثر سعة وشملت جماهير واسعة. وخلقت تغييرات بنوية في الثقافة العراقية ومن ضمنها مفهموم الثقافة الشعبية وعلاقتها بالثقافة العارفة أو ثقافة النخبة.
وأعدت الباحثة فترة الستينات، نقلة نوعية في مسيرة الأدب العراقي وهي مرتبطة بالتحولات التي شهدها العالم خلال تلك الفترة من الثورة الطلابية في المانيا وفرنسا. مشيرة الى أن الستينات تميزت بأسئلتها التي تتعلق بجدل تمثلات الواقع وكيف تنظر خلف وما وراء الواقع. وهي لم تنعكس في الثقافة فقط بل شملت المجتمع بأسره.
وقد برزت خلال هذه الفترة بعد إنقلاب 8 شباط 1963 الدعوات لإشعال الثورة ضد السلطة منها خط أحمد زكي وحركة عزيز الحاج و أمين الخيون.
وقد أشارت الباحثة في معرض ردودها الى أنها لم تحاول أن تغرق بالجزئيات، ورؤيتها لا تشمل كل شيء، فمجال المعروف مفتوح، ولكنها حاولت قدر الأمكان تلمس الموضوعية والحيادية في الطرح.
وخلقت هذه الأمسية بحق فضاء للنقاش وإثارت الأسئلة الطاردة للكسل الفكري والركون الى المسلمات، وأن كانت مداخلات البعض (مغتربة) بإستعلايتها والخضوع لفكرة ثقافة المركز التي يروج لها منظرو الغرب (الإمبريالي) التي لا ترى في ثقافة (الأطراف) ما يستحق الحديث .