فضاءات

قراءة في "اوراق من ذلك الزمان"الحركة الانصارية / حميد حسن جعفر

(1)
ما بين التسجيل والتوثيق، وقوة الشاهد التاريخي يتحرك السارد / المدون الشخصية الرئيسة بين مجموعة شخصيات لا تقل أهمية. والسارد / القاص هنا / النصير، مدرس اللغة الانكليزية. والذي يعمل على ترجمة بعض فصول كتاب رأس المال، واعني به - علي محمد - ابو سعد وذلك على صفحات كتابه التوثيقي الذي يتابع ويلاحق تحركات مفارز الانصار التابعة للحزب الشيوعي العراقي، ابان نهاية السبعينات وطيلة الثمانينات من القرن العشرين. حيث صعود نجم الكفاح المسلح لمواجهة استبداد السلطة الحاكمة/ السلطة الصدامية.
يتحدث علي محمد - مؤلف كتاب "اوراق من ذلك الزمن" عن مجموعة شخصيات استطاعت ان تتواءم مكونة خلية متعددة المنتجات تنتمي الى فكر واحد والى وعي متقدم. والى صيغة متماثلة من التضحيات. في الصفحات (123 - 137 وتحت عنوان - جسر مارينا - يقدم المؤلف نفسه على انه كاتب قصة قصيرة - وقد تم نشرها سابقا على صفحات مجلة "الثقافة الجديدة" في العدد (225) ايلول 1990. واصفاً اياها بالقصة التسجيلية. غير ان القارئ الذكي لابد من انه قد وضع يده على كائن قصصي ان الصفحات المائة وعشرين والتي سبقت نشر قصته (جسر مارينا) كافية لكي تقدم كاتباً متميزا قادرا على صناعة غواية القراءة. استطاع الكاتب ان يقدم نفسه ينتمي الى جيل الروائيين الذين استطاعوا ان يوثقوا الكثير من الاحداث والوقائع. حيث المعارك والحروب واللحظات الحرجة والموت والتضحية في لحظات اقامة الثورات والانتفاضات. اولئك الروائيون الذين استطاعوا ان يحولوا الاحداث الدقيقة البعيدة عن العين المراقبة الى مجموعة من البؤر المحركة لمجمل الوقائع التاريخية. اولئك المراسلون الحربيون الذين تمكنوا من الوصول الى الجبهات الامامية للجيوش المتحاربة.
حركة الأنصار التي قد لا تختلف عن مثيلاتها للكثير من الاحزاب الشيوعية التي اضطرت لحمل السلاح لمحاربة الدول الاستعمارية خلال الحربين العالميتين، خاصة في دول اوربا الشرقية. وكذلك في العديد من دول امريكا اللاتينية، ودول اوربية قد تكون اسبانيا اكثرها وضوحاً. تلك الحركات التي كان لها اكثر من دور فعال في صناعة الثورات والحركات التحررية، وخلخلة ثوابت الانظمة الاستبدادية.
لقد كانت تجربة الكفاح المسلح للعديد من الفصائل اليسارية في جنوب البلاد وشماله. في اهواره وجباله وصحاريه، هذه التجربة التي وفرت الكثير مما تحتاجه القواعد المتقدمة للمقاتلين. كان الانصار الشيوعيون يمثلون فصيلا متقدماً من فصائل المواجهة مع الطغمة الفاسدة. مع الافكار الاستبدادية التي يقف وراءها فكر ينتمي الى الغاء الآخر عدم الاعتراف بحقوق الطوائف والاقليات وطموحاتها على المستوى الديني والعرقي.
(2)
علي محمد، كان اكثر من أمين على المبادئ والقيم التي آمن بها. والتي تمكن عبرها من ان يخرج من آتون المعارك والمواجهات كسواه من المناضلين الشيوعيين "الانصار اكثر حكمة واعمق وعياً وتجربة وايمانا راسخاً واشد مراساً". لقد استطاع الكاتب ان يجند قلمه وقدراته الابداعية في صناعة مدونة تشكل اضافة جميلة ورائعة لمجمل عمليات الكتابة. عن حركة الانصار فالمواجهات وسط جغرافيات مختلفة. وتحت طقوس واجواء لم يجد المقاتل نفسه في فضاءاتها من قبل، وسط فضاءات بعيدة عن البذخ والترف فالالم والجوع والمرض والترقب، وعدم الاستحمام والقيام بالواجبات من الطبخ وغسل الاواني والملابس والحراسات والقيام بكل المتطلبات وسط شتاء قاس حيث الامطار والثلوج وانخفاض درجات الحرارة والكهوف (الشكفتات) حيث لا علاج متوفرا ولا طعام كافيا.
ان الانسان الذي لم يتشكل وفق وعي خاص ولم يتكون وفق مفاهيم الصلابة والتحمل والمقاومة. ان انسانا كهذا لا يمكنه ان يصمد بوجه سلطة الجغرافيا او سلطة الدولة المعادية. او سلطة التقشف سوف ينهار عند خط الشروع. متخلياً عن كل الطموحات والاحلام. فمقاتلو الانصار كانوا يشكلون اكثر من مجموعة بشرية اعتيادية. لقد كانوا يعتمدون في تشكيل مفردات حياتهم الجديدة هذه على مجموعة مرتكزات حياتية استطاعت ان توفر لهم الكثير من القناعات من ان المقاومة والسلاح قادران على صناعة ثغرة في جدار السلطة، ثغرة يتمكن من خلالها المواطن من الوصول الى الكثير من الحقائق التي تؤكد خواء الحكومات. وخواء افكار القيادات التي تقود البلاد. وان المواجهة هي وحدها التي تشكل الفعل المضاد لافكار الحزب الذي كان يمسك بالسلطة والذي كان يعتمد في سياساته القمعية على تدمير الآخر دون رأفة. القارئ لـ "اوراق من ذلك الزمن" لن يجد نفسه خارج فعل السرد. سواء اراد الكاتب هذا الفعل / الوجود ضمن حالة من القصدية، ام لم يرد. ورغم ان - علي محمد - سوف يكشف الكثير من اوراقه الخاصة من خلال كتاباته التي تنتمي الى الفعل السردي، سواء شاء ذلك ام أبى. امكانات الكاتب ضمن عملية الوعي والفكر. وكذلك ضمن عملية المعرفة ، وفرت للكاتب اولا وللقارئ ثانياً مساحاتٍ واسعة من فن القص. وابعدت عن النص ثوابت الجمود والجفاف. والتطرق الى الكثير من الخيارات حيث تتحول الافعال الرفاقية من - لزوم ما لا يلزم - الى شيء من الانفتاح الذي لا يمكن ان يضر الفعل الجماعي للمفرزة او الكمين او المراقبة او تنفيذ فعل هجومي. لقد كانت قصة - جسر مارينا - التسجيلية تمثل اكثر من شاهد على ان الفكر الذي يحمله النصير لا يمكن قهره. رغم ان البيشمركة يمثل اكثر من مفصل قتالي الا ان الفن / الابداع وفي اللحظة نفسها / المكان كان يشكل اكثر من دافع للتضامن والمواجهة.
الفن / السلاح الذي لا يمكن ان يتخلى عنه المقاتل. واذا ما كانت البندقية تمثل القوة المرتبطة بالجسد. فأن القصة، وكل صنوف الابداع تمثل القوة المتصلة بالروح. لذلك كانت هناك اكثر من تجربة لانتاج المجلات - الدفترية -- الثقافية والتي عملت على اشاعة روح التضحية والالتزام والمحبة والاستمرار بالعطاء وتجاوز حالات الضعف والتردد. وهذا كثيرا ما يؤكد عليه الفكر العلمي الذي يستند على حركة المجموع غير بعيد عن الاسباب والنتائج فالثقافة والمعرفة هما الفضاء الذي يتنفس من خلاله المقاتل مما يشيع في الروح الاحساس بوجود حركة التناسق مع الآخرين. فالمعرفة والثقافة توفران اكثر من معادل موضوعي للطرف الآخر دائماً فقلة الطعام وتقنينه، وضعف توفر العلاجات وشحة الحاجات الضرورية؛ الملابس، الاحذية، الاغطية، التدفئة. فكان المقاتل يتسلح بما يوفر للروح حالة من التداخل مع الآخرين؛ التعاون، التكامل، حيث تتكون التشكيلة الاساسية للتكوينات المجتمعية. ويبرز على سطح العلاقات ما ينتمي الى تشكيلة العائلة الواحدة.
لقد كانت حركة الانصار/ الكفاح المسلح في العراق واحدة من اهم حركات النضال في الوطن العربي والعالم الثالث استطاعت ان تشكل مواجهة متميزة قادرة وضمن حركة علانية/ جمعية مع آخرين -من الاكراد خاصة - من اجل تكوين جبهة قوية استطاعت ان تجد لها اكثر من موضع قدم في هذه الجغرافيات، سكان الجنوب/ الاهوار، سكان الشمال/ الاكراد او الذين لم يكونوا بعيدين عن استهداف السلطات. فكان سكان تلك المناطق يشكلون اكثر من قاعدة يتمكن النصير من الحراك ضمن حالة من الامان. بعيداً عن اعين السلطة القمعية الضاربة، التي تمتلك جميع انواع الاسلحة.
( 3 )
كان الادب وما زال يشكل مفردة / وسيلة مهمة من مفردات تثقيف الانسان الملتزم يسارياً، بل ان معظم المنتجين للادب (شعراء، روائيون، مسرحيون ينتمون الى اليسار، بسبب قدرة الافكار اليسارية/ التقدمية على الكشف وعلى نقل الكائن البشري من حالة العمى الى الابصار/ الرؤية. حيث الاحساس بمفردات الحياة وصناعة الجمال. وتخطي التردد والاحجام. من اجل تجاوز الاخفاقات واعادة تشكيل المسيرة. لذلك كان الدرس الثقافي بأنواعه بشكل مفصل لابد منه لتحويل التردد الى اقتحام. التجربة القتالية لليسار العراقي متمثلة بفصائل الانصار كانت تشكل دعوة للتغيير، رغم الالم ووحشة المكان. الا ان عنصر التعويض كان يتمثل بالعلاقات الرفاقية التي عملت على توفير علاقات تنتمي الى التماسك والتفاني بين افراد العائلة الواحدة المنضوية تحت لواء فكري واحد، فكر ثوري ووعي متقدم قادر على توفير فرص حياتية بديلة. ان وجود اكثر من نص قصصي / قصة قصيرة (جسر ماريا ص123، وعين الحديد ص 165، تلك التي اطلق عليها تسمية - قصة تسجيلية - ما يؤكد للقارئ ان الكاتب قد وضع في حساباته التدوينية انه يكتب نصاً/ نصوصاً كتابية تقترب او تحاذي او تتداخل بهذا الشكل او ذاك مع فن الكتابة الروائية او النص السردي. وان قدرات كهذه لابد لها من صناعة القارئ الذي سيجد نفسه وسط احداث رغم انها تمثل تاريخاً جمعياً. ألا انها بعيدة عن المنهج التاريخي في كتابة التاريخ، بعيدة عن تاريخ الملوك والولاة والسلاطين والحكومات.
- محمد علي - في كتاباته هذه يتابع حركة الجماهير، حركة الرفض من خلال انشطة المجاميع الانصارية/ البيشمركة. هذه المجاميع الممثلة لجماهير الشعب، انه تاريخ الشعب لا تاريخ السلطات. انه التاريخ الذي لن تكتبه السلطات وثوابتها.
ان وجود اكثر من اصدار لأكثر من مجلة (النصر، طريق النصر، قنديل، الخابور، الجبل الابيض، فجر النصير، النصير الثقافي) وجود لهكذا اعداد من الاصدارات يبرهن على ان الثقافة المنتجة للوعي، تشكل اكثر من هاجس قتالي للعديد من القيادات والمقاتلين. وان القراءة من الممكن ان تكون من مرادفات البندقية، وبالتالي لابد من توفير ما يمكن ان يسمى الغذاء الروحي للمقاتل ليتمكن بالتالي من الاحساس بالكثير من الانتماء للوطن والفكر وللتنظيم الحزبي.
استطاعت سرايا المقاتلين من الانصار ان تصقل اكثر من موهبة ابداعية تنتمي الى الجندي الحزبي من جهة والى الجندي المثقف من جهة ثانية. لذلك جاءت "اوراق من ذلك الزمن" تؤرخ وتؤرشف لفترة نضالية مهمة من عمر تنظيمات الحزب الشيوعي العراقي. حين لم يجد امامه سوى رفع البندقية لمواجهة طغمة الاستبداد البعثي. بل ان الفعل الاعلامي كان يعمل على ان يستحوذ على اكثر من اهتمام لذلك عمل مقاتلو الاعلام/ الانصار على صناعة ما ينتمي الى الجبهة الاعلامية المتكونة اعلامياً ما بين الانصار. واعلام الحزب الديمقراطي الكردستاني واعلام الحزب الاشتراكي الكردستاني. وكذلك مساعدة الحركة الآشورية في اصدار جريدتهم المركزية - بهرا - وفي توحيد الجهود الاعلامية من اجل اصدار جريدة مركزية وباشراف المكتب العسكري للحزب باسم نهج الانصار الجبهوية.
ولان اليسار عامة، والحزب الشيوعي العراقي لم يكن حزباً ذكورياً، لأن الفكر والوعي والمعرفة لم يكن اي منها حكرا على الرجل / دون المرأة فقد كانت حركة الانصار تنظيماً قتالياً غير بعيد عن دخول المرأة كرفيقة ومقاتلة، كزوجة وأم. رغم كثرة المواقف المضادة لهكذا فعل متجاوزاً الكثير من الثوابت، فقد كان المجتمع والفكر الديني كثيرا ما يحولان المرأة الى تابع / ملحق. بعيداً عن استقلالها اقتصادياً وثقافياً واجتماعياً. الا ان تنظيمات اليسار استطاعت ان تبرهن على ان المرأة كانت وستظل النصف الآخر المنتج للحياة ولديناميكيتها. والذي من الواجب ان يفعل. وأن تأخذ دورها في البقاء ومقارعة السلطات الحاكمة الى جانب شريكها الرجل ودفعه الى ان يكون بمستوى اكثر المسؤوليات سطوعاً وقدرة على الصمود والمجابهة لقد كانت التضحية تمثل اكثر من هدف للرجل/ النصير وللمرأة النصيرة من اجل اثبات قدرة الحزب على الوقوف بمواجهة السلطة المستبدة والطاغية. ان وجود العشرات من النصيرات لا يمكن الا ان يشكل اضافة ذات ثقل واضح وسط تيار اليسار العراقي.
(4)
وكما يحاول الروائي المتخفي تحت معطف - علي محمد - ان يتخلص من سلطة الراوي العليم. وذلك عبر ما يسميه النقاد تعدد الاصوات يعمل الكاتب/ القاص/ الاعلامي - علي محمد - ابو سعد على دفع عملية الحكي الى شخصيات النص النسوية لتبدأ النصيرة / ماركريت / ص 209 بالحديث عن تجربتها الشخصية. ولتليها / ام طريق / في ذكريات انصارية ص224 لتقول بعض ما لديها من مواقف وذكريات وسط بيئة اجتماعية تنتمي لعائلة فكرية والتي تشكل بديلا عن عائلة الدم والقربى لقد استطاع الكاتب / القاص ان يكسر جذور سلطة الراوي المشارك. والذي لم يكن واقفا خارج حركة المقاتلين. بل كان يشكل طرفاً مهما في صناعة الحياة الرفاقية على المستوى القتالي والثقافي والاعلامي.
ولان المؤلف / علي محمد / كان واقفا في واجهة العمل الابداعي كان للتوثيق وجود ظاهر عبر عملية توفير الصورة. والتي كثيرا ما تثير في النفس نفس القارئ من المشاعر ما يفوق ما تثيره الكلمات. فهناك ما يزيد على الستين من الصور الشخصية للرفاق المقاتلين وللوثائق المكتوبة/ اعلام الصورة هذا كثيرا ما يمنح الكتابة اكثر من دليل وبرهان على دور الانصار / البيشمركة في المساهمة في تشكيل تاريخ المنطقة. وفي اثبات وجودها كفصيل مقاتل وجد في حمل السلاح والمقاومة اكثر من وسيلة لتخليص الجماهير المسحوقة من استبداد الافكار الطائفية وضيق الافق والشطب على الآخر عبر عدم الاعتراف بحقوقه. مقاتلون/ انصار. بيشمركة، حزبيون، يتركون احبابهم وموطنهم ورغيد العيش ويحملون السلاح وسط جغرافيات (جبال، سفوح، وديان، ثلوج، عراء، غابات لم يألفوها من قبل ليقاتلوا سلطة جائرة. وحكومة مستبدة. اناس يضحون بالحياة من اجل الحياة ذاتها. كائنات تنتمي لاسطورة العنقاء. كائنات تقرأ الشعر والقصة وتمثل مسرحاً. وتقيم معرضاً تشكيلياً وتصدر مجلات تعنى وتهتم بالثقافة ومفرداتها.اي كائنات بشرية انسانية من الممكن ان تكون. اولئك الفتية وتلك النصيرات. ولأن / ابو سعد/ علي محمد النصير القاص والاعلامي لم يكن شاهدا فحسب بل كان مشاركاً وصانعاً للكثير من الاحداث فقد كانت - اوراق من ذلك الزمن - تتحرك بين يدي القارئ، بين الفرح والاسى. بين لحظة الاحتفاء ولحظة الحزن. واذا كان هذا القارئ او ذاك يشعر بالفخر او بالفرح لافعال الانصار فقد كان يشعر بالسخرية والاستهجان والامتعاض من افعال السلطة البعثية. في تدمير الانسان العراقي. فعلى الصفحات (250- 265) يقدم الكاتب عرضاً مختصراً ولكن رائعاً لامكانات الرفاق/ الانصار في تحمل الاذى والصبر من اجل مواجهة افعال النظام الاستبدادي في ضرب مقرات المقاتلين بغاز الخردل - الكيمياوي. في هذه الصفحات يقدم الكاتب/ الشاهد منشور ادانة لجريمة الابادة الجماعية التي كثيرا ما يعمل عملاء الطاغية على استخدامها من اجل تدمير شعوبهم.
(5)
هل كان - علي محمد - يفكر بالكتابة لحظة ممارسته للحياة الاستثناء بكل ما تمتلك من اختلاف، حياة ليس بمقدور الانسان ان يضع حساباته وفق المتوقع. فالطبيعة - المناخ والطقس وما ينتمي اليهما - غير خاضعين لاحكام مسبقة من جهة الرفاق الانصار، الخصوم ؛ الجيش، الجحوش، القرقول. من جهة ثانية والنفس والروح والهواجس والاحلام الفردية والجمعية. من جهة ثالثة؛ والمجهول والغيب وما يخفي المستقبل من تقلبات ومفاجآت من جهة رابعة. جميع هذه المفردات تشتغل خارج الثوابت/ التنويعات خارج المسارات المعلومة. وبالتالي فأن الكائن البشري الذي ينتظر حلولا آنية ومستقبلية لمشكلته هو ولمشكلة الآخرين قد يصبح كما يقال -في مهب الريح -. لقد استطاع الكاتب المبدع - القاص الروائي تحديداً ان يقدم للقارئ بكل صنوفه. اوراقاً من الصعب وضعها في خانة النسيان. فالحسّ الجمعي الذي يتحرك نحو الفرد لحمايته والحس الفردي المنجذب نحو المجموع لصناعة الطمأنينة. كان هذا الحس هو ما يشكل الوعي والمعرفة والإدراك.
تلك المهيمنات التي يتحرك المقاتل تحت ظلالها. فالتجربة التي خاضها الكاتب / حالة الجميع / الانصار / لابد من أنها تشكل الكثير من الافعال التي تملأ النفوس بالفخر والبهاء. ورغم كل ما ينتمي الى ضرورة التحرك وفق الكثير من معرفة الآخر/ الجغرافية والانسان الحليف والآخر الخصم / تظل المغامرة تشكل عنصرا مهما من عناصر الحياة في لحظة ما. فالمقاتل وفي الكثير من الاحايين يجهل ما يخفي القدر من المفاجآت. فالجبل لغز،والوادي لغز، والخصم بغيابه وحضوره مجموعة الغاز. وضرورة الحفاظ على ديمومة الحياة الطعام، التدفئة. الغرف/ المخابئ / تشكل اكثر من دافع لصناعة حالة من الاستكشافات لمعرفة ما يحيط بالمقاتل من توقعات ولوضع الحلول للغامض من الاحداث.
لو تمكن جميع المقاتلين/ الانصار من امتلاك القدرة على الكتابة. او امتلاك بعض ادواتها، لتمكن الكثيرون من صناعة خزين ابداعي يؤرخ لمرحلة مهمة من مراحل النضال الذي رفع رايته الحزب الشيوعي العراقي من اجل مواجهة الافكار والممارسات الشمولية للسلطات الحاكمة/ المستبدة، تلك الافكار التي تنتمي الى الغلو والتطرف والالغاء. والتي تدعو الى شطب الاخر وتحويل الجميع الى مجرد قطعان ماشية تتحرك وفق ارادة السلطة. هل من الممكن ان يقول القارئ والذي لابد له من ان يكون متعاطفاً مع الكاتب او قد يكون مضاداً له. او واقفاً على التل. ان الكائنات الانسانية المنتمية الى الانصار/ البيشمركة الى الحركة المسلحة التي اوجدها ويقودها الحزب الشيوعي العراقي، ان هذه الكائنات كائنات خرافية كائنات تنتمي الى شيء مما يسميه العامة او الخاصة بالاساطير. وان - علي محمد - رجل يجيد رسم السيناريوهات التي تتحدث عن مجموعات بشرية تمتلك من القدرات ما يفوق سواها. في التحمل والحياة، وصناعة الواقع المختلف. ان ما يقدمه الكاتب لا يمكن الا ان يكون ضمن عنوان / صدق او لا تصدق / الا ان المتعارف عليه، ومنذ ثمانين عاما او يزيد وهو عمر الحزب الشيوعي العراقي والشيوعون العراقيون يقدمون الاثباتات والبراهين على قدراتهم الفائقة في مقارعة الحكومات العميلة والرجعية والمعادية لتطلعات الشعب. وقدرتهم على تحمل المصاعب والالتزام بالمواطنة والدفاع عن الانتماء الفكري للحزب الذي وقف وما زال في طليعة الاحزاب العمالية والحركات الوطنية للدفاع عن طموحات الشعب العراقي.
علي محمد لم يكتب عن كائنات غير عراقية. كان يكتب عن عرب وكرد وتركمان عن مسيحيين ومسلمين. عن رجال ونساء بل وحتى عن اطفال، عن حمل السلاح وعن اعتقالات وتضحيات عن شهداء احياء وعن ثقافة ورياضة وقراءة وكتابة. لم يكتب عن كائنات هبطت من الفضاء. من الممكن ان تشكل حركة الانصار نموذجا متقدما للمواطنة، للتضحية، على الضد من اصحاب الفكر الانتهازي.كائنات اتفقت مع دواخلها/ ضمائرها اولا. ومع الآخرين - شغيلة الفكر واليد - التيارات الفكرية والعمالية على صيانة المبادئ. وعلى عدم التفريط بقيم الالتزام وعدم التجاوز على حريات الآخرين وان كانوا خصوما. وعلى الحفاظ على حرمات الوطن والشعب والمبادئ. لقد كان علي محمد اكثر من شاهد اثبات كان صانع تاريخ مع مجاميع رائعة استطاعت ان تحمل السلاح دفاعا عن قيم الحق والعدالة والمحبة.
هل كان - علي محمد - يكتب عن اسطورة الجماعة، بعد ان كانت الاسطورة تشتغل على البطل الفرد؟ من الممكن جدا ان يكون الجواب بـ - نعم - بعيدا عن الغلو والتبجح بعيداً عن التعصب للفكر والانتماء. فقد كانت الكتابة / الاوراق، تمتلك من الحيادية الشيء الكثير. اضافة الى فضاء النقد والنقد الذاتي. فتجربة الانصار/ الكفاح المسلح التي جاءت استثناء، ولم تكن قانونا كانت قد خرجت من معطف الاضطرار/ الجبرية. ومستندة على تجارب شعوب واحزاب اخرى في مشارق الارض ومغاربها. مع غياب تجربة سابقة، القتال في المناطق الجبلية.
واذا ما كانت هناك تجربة اولية / تجربة الاهوار /فأن كردستان وجغرافيتها. وانتماءاتها القومية والدينية المختلفة. اضافة الى تجاربها الثقافية الخاصة بها. لكل هذا دور كبير في تشكيل تجربة كفاحية مختلفة لها خصوصياتها، فلا بد من مصاحبتها للكثير من الاراء الشخصية والمواقف الفردانية، لذلك كان المؤلف يتحرك بعيدا عن رقابة الآخر ولكن تحت مظلة الوفاء للحزب والالتزام برسالته الاممية. والاخلاص للمبادئ، فالظروف غير الاعتيادية من الممكن ان تدفع بالنصير/ المقاتل وكذلك بالمسؤول/ القائد الى ارتكاب اخطاء بيضاء وسط فضاء حسن النية، وبالتالي فأن / اوراق من ذلك الزمن / لابد لها من ان تمتلك من المصداقية تلك الكمية والنوعية التي تؤهلها لان تكون في مقدمة الكتابات الابداعية التي تؤرخ لفترة نضالية مهمة مارسها الحزب الشيوعي العراقي في مواجهة طغيان السلطة الصدامية.
- اوراق من ذلك الزمن - الحركة الانصارية لم تكن نقطة خط الشروع الاول في الكتابة. بل انها تمتلك القدرة على الوصول الى القارئ ما يؤهلها لأن تكون صنفاً/ جنساً كتابيا مختلفاً، يختلط فيه السرد مع التوثيق مع رصد حركة الآخر، مع كتابة السيرة الشخصية، مع الذكريات. علماً ان جميع هذه الانواع الكتابية تمتلك من حركة المبدع الشيء الكثير.