فضاءات

"وشم في ذاكرة الانصار".. وقوة الفعل التدويني / حميد حسن جعفر

الى علي كاظم ياسين شهيدا
الى جواد ظاهر نادر شاعراً
الى عدنان اللبان مسرحيا مقاتلاً
في النصف الثاني من القرن العشرين برزت بشكل لافت للنظر شرائح وفئات ثقافية، شعراء وقصاصون وروائيون وفنانون تشكيليون وفنانو اذاعة وتلفزيون وسينما وموسيقيون ومطربون ورقص شعبي ايقاعي وباليه.
استطاعت هذه الشرائح والفئات ان تقول كلمتها في صناعة التغيير والاختلاف, لا بسبب تخصصها بمفصل ابداعي واحد، بل بسبب عدم تخصصها مع قدرتها على صناعة الابداع، عبر اكثر من مفصل او جنس ادبي. في السبعينيات كانت اكاديمية الفنون الجميلة وكذلك معهد الفنون الجميلة يشكلان اكثر من وسيلة للوصول الى الابداع للكثيرين ممن شملتهم الثقافة باهتماماتها. حيث كانت الاكاديمية والمعهد يعتمدان الابداع وسيلة ومعبرا الى القبول بعيدا عن التفوق الدراسي على الرغم من اهميته وبعيدا عن الانتماء الحزبي الذي كان سائدا آنذاك، حيث كان الكثير من المهتمين بالثقافة والذين يمتلكون ميولا ابداعية: قصيدة وقصة وادب وفن، لا يميلون الى حقول العلم: طب وهندسة ,على الرغم من ان الكثير من الاطباء والمهندسين والقضاة استطاعوا بجدارة ان يثبتوا للآخرين انهم لا يقلون شأنا في حقول الادب كما هم في حقولهم الاساسية العلمية.
فكانت الاكاديمية والمعهد يمثلان اكثر من فضاء لتحقيق طموحات اولئك المبدعين ولتتحول هذه الفضاءات الى امكنة لانتاج وتخريج وتثقيف العشرات بل المئات من المبدعين في سماء الادب، فقد كان لدى كل خريج اهتمام ادبي او اكثر فاذا بالتشكيلي يصبح روائيا والمسرحي قصاصا والموسيقي ناقداً.
ان اية معاينة بسيطة تؤكد هذا القول, يجد المتابع أمامه العشرات من خريجي اكاديمية ومعهد الفنون الجميلة يطلقون مواهبهم الادبية ولا بد للقارىء في هكذا امر من ان يتذكر من الخريجين ومن الادباء المبدعين التشكيلي القاص عادل كامل والنحات الروائي عبد الخالق الركابي والقاص والروائي عبد الرحمن الربيعي وعائلة النصار الشعراء والمسرحيين ومازن المعموري الشاعر وسعد جاسم الشاعر والشاعر صلاح حسن والعشرات غيرهم.
فقد كان هناك اكثر من منفذ للفنان التشكيلي لكي يعلن عن نفسه وان يثبت ذاته. وفي ان يكون شاهد اثبات على احداثيات العصر وخروق السلطات الجائرة. وان يشكل اكثر من اضافة للحلقات الابداعية اذ ان مبدعا كهذا لا بد من ان يكون اكثر من سواه قدرة على التجاوز اولا وعلى صناعة الخرق في الجنس الادبي الواحد، والدخول في فضاءات الاجناس الاخرى. وهو الذي سوف يكون اكثر من سواه قدرة وتأهيلا لمواجهة الانظمة الشمولية وتعريتها وذلك بسبب توفر اكثر من وسيلة وعبر صناعة تشكيل ابداعي يتشكل من خلاله الادب والفن ومن ثم الثقافة ونظرا لوجود الاضافات الابداعية التي من الممكن ان يصنعها هذا المفصل لسواه من المفاصل.
القول السابق كان لا بد منه من اجل الحديث عن كتاب الفنان المسرحي عدنان اللبان الكائن الانساني الذي استطاع ان يطلق فعله الابداعي لا عن طريق خشبة المسرح وحقله التخصصي فقط، بل من خلال الفنون السردية التي تشكل القصة القصيرة او الحكاية واحدة من تعاملها.
النظام الشمولي والافكار القامعة استطاعت ان تحرّم عليه الابداع ضمن فن المسرح، هذا من جانب ومن جانب آخر ابتعاد عدنان اللبان عن المركز/ العاصمة حيث المسارح والاهتمام الجمعي بالشأن الثقافي عامة والمسرح خاصة. ليجد نفسه في سلك التعليم حيث المحافظات/ الهامش الذي كان يشكو الكثير من الاهمال وانعدام وغياب مفردات المسرح.
عدنان اللبان المسرحي الشيوعي وتحت تأثير الحفاظ على الهوية السياسية والابداعية يكون مضطرا الى مقاومة التهميش ليلتحق بالفعل النضالي القتالي وحمل البندقية لمواجهة السلطة من خلال الالتحاق بصفوف الانصار، حيث السليمانية وجبل قنديل وهزارستون واحمد آوه والبيشمركة ومواجهة النظام وعملائه والفرسان/ الجحوش.
واذا قيل سابقا :اذا ما توقفت العقول تحركت الايدي- البنادق. فبالامكان قلب الرسالة ليقول القائل: اذا تعطلت البنادق تحركت العقول. ما ان سقط النظام بكل رموزه حتى توقف العمل بمصدر القوة البندقية لنجد النصير المقاتل عدنان اللبان عائدا الى اللغة والفعل الابداعي حيث يشكل المسرح والفعل المسرحي الكثير من مفاصل السرد او القص او الحكي فيما يكتب في كتابه " وشم في ذاكرة الانصار".
عدنان اللبان لم يجنّس ما كتب فقد ترك هكذا مهمة للقارىء نفسه ، لم يقل انه روائي وان ما بين يدي القارىء هو نص روائي, لم يقل انه قص وان الوشم مجموعة قصص قصيرة. انه صاحب قضية، صاحب فعل ابداعي. اللبان مسرحي مقاتل وسياسي مناضل وصاحب وعي وفكر اوجبا عليه ان يقول ما لديه, ان يعلن عن الصفحات التي لم يطلع عليها القارىء ,صفحات الكفاح المسلح الذي وجد الشيوعيون انفسهم مضطرين الى ممارسته لمواجهة مؤامرة القمع ,ان يعلن عن احداث ووقائع قد تكون بعيدة عن قارىء اليوم مكانا وزماناً.
اللبان يمتلك اكثر من مبرر لانتاج الكتابة على الرغم من عدم تصريحه بذلك, فهو لم يكتب جنس تدويناته ,لا نفيا للكتابة ذاتها بل لانه اكثر من كائن انساني متواضع غير باحث عن مجد الكتابة.
فالدراسة الاكاديمية لفن المسرح من الممكن ان تمثل اكثر من قاعدة انطلاق للكتابة اضافة الى نبل وشجاعة الفعل النضالي الذي تميزت به تجربة الانصار، تجربة الحزب الشيوعي العراقي في مقاومة الاستبداد والقهر والبحث عن اكثر من وسيلة وطريقة للاعلان عن رفضه قيم الافكار الشمولية. فالصدق والوضوح الشديدان دفعا بالكاتب الى ان يتخذ من الواقعية بانواعها الاولى وسواها الاجتماعية والنقدية الثورية وسيلة لتعريف القارىء بمكنونات ودواخل الانصار بتعدد مشاربهم وانتماءاتهم الاجتماعية.
لم يشتغل اللبان على صناعة المخيال, فالفعل النضالي لا يستوجب على الكاتب الا ان يقول الحقيقة تلك التي توفر للانسان المناضل اكثر من مفصل ينتمي الى الاخلاق والالتزام بقيم الحزب وجماهيره.
خمس وعشرون حكاية او قصة او حدثا او مجموعة احداث ووقائع وليسمها القارىء بما يشاء، فالكاتب كان لا يروم من كتاباته سوى ان يدفع بتجربته الشخصية التي تنتمي الى الممارسة الجماهيرية الى القارىء، سواء كان الملتزم تنظيميا او الملتزم فكريا او القارىء عامة لتنمية روح مقاومة الظلم ومواجهة الطغاة والافكار الضالة.
نصوص حكائية تتمتع بالكثير من مفاصل فن السرد. هل من الممكن ان يحيلها القارىء الى فن المقالة او فن المقاصة ؟ ، هذا المصطلح المنحوت من كلمتي المقالة والقصة حاول الكثيرون من كتاب القصة القصيرة والعاملون في حقل الصحافة ابان سبعينيات القرن الماضي ان يضيفوا به جنسا ادبيا يعتمد القص وسيلة في صناعة المقالة والخبر الصحفي. هل هي تجارب ادبية تبحث عن كاتب عن فضاء لم يوجد بعد ؟ ام هي محاولات تنتمي ولا تنتمي الى واحد من الفنون الابداعية والى مجموعة اصناف وانواع ادبية استطاع الكاتب ان يجد مجساته في العديد من حقول الكتابة (الخبر، القصة، التجربة، الذكريات، المسرح، البوح، الكشف، المواجهة).
لقد استطاع عدنان اللبان ان يمسك بتلابيب القراءة من جهة وبرغبات القارىء باتجاهاته المتعددة من جهة اخرى من اجل ايصال الرسالة وان يكشف دواخل السلطة الباغية وعن جلد وقوة ومقاومة الانسان العراقي وعن قدراته على صناعة الحياة باشكالها المتعددة.
كتابات لا يمكن ان تخلو من رسالة من هدف يحاول ان يقول الكثير الا ان المقاتلين الانصار كانوا يقفون خارج الاعلان عن انفسهم فكل منهم له من القول والاحداث ما يفوق ما يقرأ القارىء او يكتب الكاتب.
وعدنان اللبان لم يكتب عن تجربته الشخصية الذاتية، بل كان يحاول ان يدفع بالآخرين الى ان يقولوا بعض ما لديهم من تجارب ,وما اللبان الا الفنان الوسيط، انه الراوي او انه حامل الرسالة او العرض حال المبدع الذي يجيد اعادة ترتيب الاحداث والوقائع من خلال الواقع نفسه.
عدنان اللبان لم يذهب الى الميتاواقع كما يقول كتّاب النص السردي او الميتافيزيقيا لم يذهب الى فن الرواية داخل الرواية او الميتاسرد.
عدنان اللبان ذهب الى الواقع ليغيره ليصنع ثغرة في جدار السلطة الطاغية. فالذاكرة ما زالت مملوءة بالجمال والمحبة والدعوة الى الحياة. والواقع يشغله الاصدقاء والرفاق والاحباب، كما ان الحياة ما زالت تحتفظ بشيء وان كان بسيطا من جرائم النظام الجائر، من لا انسانية الطاغية رأس النظام وعلى الرغم من دموية النظام الصدامي وسيطرته على مساحة واسعة من حياة الجماهير سيجد القارىء ان المواطن ذاته ما زال يبحث عن الخير والسلام والمحبة.
عدنان اللبان يأخذ بيد القارىء ليقرأ له تاريخا طويلا عن الجذور. تاريخ يمتد على طول حقبة الدكتاتورية وعلى مساحة واسعة تتجاوز مساحة الوطن لتصل الى البلدان المجاورة وبلدان اخرى، بل قد تصل سلطة القول الى ما حدث والى ما يحدث. بعد سقوط الانظمة المستبدة وربما يمتد القص الى مساحة زمنية تقترب من نصف قرن. لو لم يكن الكاتب عالما بجوانب السرد اضافة الى امتلاكه الثقافة المسرحية الاكاديمية، لولا هذه المعرفة لما استطاع ان يقول كاتب سواه بعض ما قاله.
فالكتابة بحاجة الى الكثير من الفن ,الى ثقافة وحالة ابداع ,الى الاحساس بثقل التاريخ وثقل الامانة وان رسالة المثقف عامة والملتزم خاصة تتوجب الوصول الى الآخرين واعني بهم المتلقين- القراء وليسوا المتلقين- المستمعين. فالكتابة فن والقراءة كذلك فن، بل الحياة ذاتها بجميع مساراتها لدى المناضل والسياسي هي مجموعة فنون, يتوجب على الانسان ممارستها واستخدامها من اجل صناعة حياة جديدة.
انه يكتب عن الانسان ذاته عن قدراته وقابلياته ومقاومته لفعاليات العدو العسكرية والامنية وحفلات التعذيب، وكذلك يكتب عن انكسارات وانتكاسات وعدم قدرة هذا المواطن الملتزم او سواه السياسي او غيره على الثبات والمواجهة. فالانسان بكل ماله وما عليه من الممكن ان يجده القارىء حاضرا بين صفحات الكتاب، حيث حياة الانصار الاستثنائية في مقاومتهم لسلطة القمع، إذ يتابع الكاتب تصرفاتهم ومواقفهم والمعارك التي خاضوها سواء على الجبل او في المدينة او في دول الجوار، مطاردا وسجينا ومضطهدا ومراقباً.
لقد تمكن اللبان على وفق ما يمتلك من مؤهلات ومن وعي فكري ومعرفة ادبية من ان يقدم للقارىء الحياة التي كان يمارسها العراقيون مجبرين ومضطرين. الحياة التي صنعوها بانفسهم والحياة التي حاول الخصوم ان يشكلوها بحسب مواصفاتهم.
وكان الكاتب اكثر من متابع ومراقب ومشارك، فعبر متابعات واستقراءات لمفردات الحياة وتنوعات النفس البشرية استطاع وبمعاونة الكثير من الوعي والمعرفة ان يقول كلمة الحق. فالانسان العراقي بحاجة الى من يوفر له تاريخه، وان يعتمد في كتابته على قدرات بعيدة عن الانجراف نحو الغلو والتطرف والذهاب حيث الراديكاليات.
الانسان العراقي بحاجة الى ان يقرأ تاريخ الافراد والجماعات وتاريخ المنظمات الجماهيرية والاحزاب السياسية التي قارعت الظلم والطغيان، بحاجة الى توثيق مفردات حياته التي حاول الظلاميون ان يطمسوا هويتها.
هل كان عدنان اللبان يعمل على انتاج كتابات تنتمي الى التوثيق او التسجيل، اقترابا وتشبها بفن الانتاج السينمائي، بل حتى المسرحي حيث الافلام والاعمال التوثيقية او التسجيلية؟ ام كان يعمل على صناعة نص كتابي يهتم بالتاريخ الذي تم صنعه على يد افراد وجماعات تنتمي الى حزب معارض او الى فكر مضاد ام من ضرورة ان تعرف الاجيال القادمة ما استطاعت الاجيال التي سبقتها ان تقدم عبر مواقف وبطولات واستعدادات لمواجهة الظلم من جهة وبناء المستقبل والدفاع عن الحزب وتنظيماته وعن الوطن من جهة اخرى.
ان كتاب "وشم في ذاكرة الانصار" مدونة ادانة للسلطة الشمولية التي كانت تقود البلاد نحو الهاوية طوال اربعين عاما او يزيد. انه ادانة للقمع وعدم الاعتراف بالآخر.. ادانة للغلو والتطرف والاحساس بالتفوق العرقي على الاعراق الاخرى. ان " وشم في ذاكرة الانصار" مذكرة اعتراف بإنسانية الانسان العراقي.