فضاءات

مفارقات ليلة الثالث عشر من تموز 1958 / طارق علي


بعد إبرام معاهدة حلف بغداد (التركي العراقي الباكستاني) حيث كبل العراق والمنطقة، بحلف تحت راية مكافحة الشيوعية، معادٍ لتطلعات الشعوب في الحرية والاستقلال الوطني، هبّ الشعب العراقي في تظاهرات رفعت شعار (إسقاط حلف بغداد) .
كان الحزب الشيوعي العراقي المحرك الأساس مع بقية القوى الوطنية والقومية التقدمية في تثوير الشارع العراقي .مستفيدا من إرثه الثوري ومن تراكم الوعي الوطني لدى الجماهير، خائضا نضالا شرسا ضد الاستعمار والقوى الرجعية والأحلاف العسكرية.
وفي خضم هذا النضال توصل الحزب الى أن لا خلاص من هذا النظام إلا بتحالف القوى الوطنية كافة والقومية التقدمية المعادية للاستعمار والرجعية، ولذلك شدد الحزب على النضال المشترك لهذه القوى باتباع النضال الجبهوي، مسترشدا بشعار مؤسسه الخالد فهد (قووا تنظيم حزبكم، قووا تنظيم الحركة الوطنية) وبعد نضال مجيد انبثقت الجبهة الوطنية (الجبهة الانتخابية سنة 1954) ومن ثم جبهة الاتحاد الوطني سنة 1957، هذه الجبهة التي ضمت الأحزاب والشخصيات الوطنية المعروفة.
وقد تعرضت هذه القوى المؤتلفة وهي تخوض مختلف أساليب النضال الى القمع والاعتقال والنفي وإسقاط الجنسية والاستشهاد، وكان الشيوعيون لهم حصة الأسد من كل ذلك، لِسِعة قاعدتهم الشعبية. وقد جرى ذلك في مختلف الوزارات التي شكلت وكانت أشدها في وزارات نوري السعيد والجلاد بهجت العطية.
غطت شوارع العراق شعارات إسقاط حلف بغداد، ثم تحولت الى إسقاط الحكم الملكي، وكانت استجابة العاصمة بغداد سريعة، بحكم تمركز قيادات الحركة الوطنية والصحف الوطنية فيها أكثر من المحافظات الأخرى. فاشتد نضال العمال والفلاحين والطلبة والنساء، وتلاحم مع فصائل الشعب الوطنية. وازدادت هذه النشاطات والفعاليات خلال سنوات 1957- 1958 وكانت بحق سنوات الفعاليات والنشاطات الجماهيرية.
آنذاك كنت مكلفا بتوزيع بيان الحزب الشيوعي العراقي عصر يوم 13 تموز1958 في بغداد منطقة (الكرخ) . كان البيان يهيب بالشعب العراقي وقواه الوطنية المتمثلة في جبهة الاتحاد الوطني تشديد النضال لإسقاط الحكم الملكي وإسقاط كل الأحلاف والمعاهدات المعادية للشعب. بعد أن وزعت البيان كان معاون الشعبة الخاصة (الأمن حاليا) واسمه (مجبل التكريتي) المعروف في منطقة الكرخ هناك ، وحين أطلقت ساقي للريح، صاح بأعلى صوته (وين اتروح اليوم اجيك حتى لو نص الليل) دخلت الدار وأنا أتحسب مخاوف الاعتقال بثقة رجل، آمن بقضية شعبه وصواب سياسة حزبه، غارقا في تفصيلات ما يستجد وكيفية مواجهته.
والدتي التي تغفو على هواجس فقدان ابنها لم تنم! خففت من فزعها، وهي تنظر الى فزعي الذي سبقني اليها قائلا: (هذا مجبل التكريتي سيأتي الليلة) لم يعدخافيا ماذا سيحصل. ساعدتني بجمع الكتب والأدبيات، مشيرة علي بإخفائها في بيت المرحوم(سالم الآلوسي) وكان من الشخصيات الوطنية، وجارا قديما لنا.
مرّ ليل ثقيل كأن شمس نهاره غادرت السماء ،يمتد قلقي الى أسوار البيت يستطلع صباحا طال انتظاره! أخذني نعاس غادر ،ثم صحوت، وأمي تهزني (كوم الراديو بيه حجي غريب) صحوت مضطربا، قلت لها (هذا حديث الصواف الصباحي) وكان الصواف يقدم محاضرة دينية كل صباح من إذاعة بغداد. قالت (لا هذا مو حجي الصواف اكو حجي جديد) نزلت مسرعا، وإذا ببيان رقم واحد يشير الى إسقاط الملكية وقيام الجمهورية، ويدعو الشعب للذهاب الى قصر الرحاب.
امتلأت الشوارع بالناس وعلت الهتافات، ها هي ثورة تموز تأتي وضابط الشعبة الخاصة (مجبل التكريتي) لم يأت ليأخذني.
لك المجد أيتها الأم الثورة!