فضاءات

ذكرياتي مع صحافة الحزب الشيوعي العراقي / د. كمال غمبار

كنت أرتاد مكتبة كويسنجق العائدة للحزب الشيوعي في مدينة (كويه) وأنا مازلت
تلميذا العام 1948 فى الصف الرابع الابتدائي، وكانت جماهيرالشيوعيين تموج بحركة ناشطة ملموسة، فترد الى مكتبة كويسنجق معظم الصحف والمجلات الصادرة من بغداد والخارج، حيث أن وثبة كانون المجيدة عام (1948) فتحت الأبواب على مصراعيها أمام أصدارالصحافة التقدمية ونشرها، منها صحافة الحزب الشيوعي العراقي العلنية والسرية، وكنت آنذاك أكتحل عينيّ برؤية أسماء تلك الصحف دون فهم معانيها، إذ كانت دراستنا فى المرحلة الإبتدائية باللغة الكردية، والكتاب الوحيد المطبوع باللغة العربية كان القراءة الخلدونية في الصف الأول وانتهاء بكتاب المطالعة فى الصفوف الأُخرى، ولكن كنت ارى الجريدة السرية للحزب باسم (القاعدة)، وأتذكر جيداَ أن القاعدة نشرت خبر اعتقال الرفيق فهد والرفيقين زكي بسيم وحسين محمد الشبيبي عام 1948 مع صورهم،وحين أخذت الجريدة عدت الى البيت فرسمت الصور الثلاث، وعندما أريتها لمعلم الرسم (جابر ثيرداود) ابتسم لأنه كان شيوعياًَ وعلقها في غرفة المرسم، وكنت حينذاك تلميذاً متميزاً في الرسم، وبعد فترة اعتقد كانت عام 1949 لم اجد الصور التي رسمتها فى المرسم، فتبين فيما بعد أن الرفاق الثلاثة حكموا بالإعدام وتعرض آخرون من الشيوعيين المعروفين في المدينة الى الإعتقال وتقديمهم الى المحاكمة وإصدار الأحكام عليهم بالسجن بمدد مختلفة .
عام 1952 وأنا في الصف الثاني المتوسط أصبحت عضواَ في الإتحاد العام للطلبة وعن طريقه انتميت الى الحزب الشيوعي العراقي ، وحين بدأت أتعلم اللغة العربية تدريجياً، كانت ادبيات الحزب الشيوعي مادة تثقيفنا فى الإجتماعات الحزبية، وحين إشتد ساعدي في العربية شرعت أقرا مؤلفات الرفيق فهد بنهم وكذلك إصدارات دار الحكمة ومؤلفات االشيوعيين السوريين واللبنانيين والمصريين، فضلاً عن الكتب التقدمية المترجمة الى اللغة العربية.
بدأت بالترجمة من العربية الى الكردية ونشرها فى مجلتين كرديتين كانتا تصدران في بغداد وانا في الصف الخامس الأعدادي، وبعد ثورة 14تموز عام 1958 أصدرت عام 1959مجلة "زيان/الحياة" باسم (الإتحادالعام لطلبة العراق فرع أربيل) وفي بغداد أصدرت عام 1959 العدد الثاني من مجلة "دةنكى قوتابيان/صوت الطلبة" وفى عام1960 أصدرت مع عدد من الطلبة الشيوعيين وطلبة منتمين الى الحزب الديقراطي الكردستاني العدد الثالث من المجلة المذكورة وكانت طباعتهما على نفقتي الخاصة، وكنت طيلة السنوات الأربع ممثلاَ عن طلبة كلية التربية، واصبحت محرراَ لشؤون طلبة كردستان في مجلة صوت الطلبة، والجدير بالذكر نشرت عام 1961مقالاَ عن نوروز وترجمت قصيدة كردية في تلك المجلة وقدمتهما الى "الإتحاد العام لأدباء العراق "فبموجبهما أصبحت عضواً في الإتحاد المذكور، كما ساهمت في العد الأول من مجلة "الأديب العراقي" بترجمة قصة "خازي" للأديب الكردي المعروف (إبراهيم أحمد) وكذلك نشر ترجمة دراسة للدكتور شاكر خصباك في مجلة "ئه ديبي عيَراقى" .
في عام 1973إنتقلت الى بغداد فأصبحت عضواً فى هيئة تحريرجريدة "بيرى نوى/الفكر الجديد "وكنت اكتب فيها موضوعات بالكردية والعربية، والترجمة من الكردية الى العربية وبالعكس، فواصلت المشوار معها الى أن توقفت عن الصدور لأسباب استثنائية، وكنت أعمل في جريدة "طريق الشعب" وأنشر مقالات فيها، كانت إحدى مقالاتي التي مازلت أعتز بها بعنوان "الثقافة التقدمية وموقف المثقف الثوري فى الظروف الراهنة نشرت في العد(د174) الصادر في الإثنين 15/4/1974 باسم "أبو هيمن" جاء فيها : "إن تحقيق المهام التي تطرحها طبيعة الأوضاع الراهنة لا يتوقف على تشكيل الإدارات والمؤسسات الرسمية فقط، وإنما يتعلق بالأساس بممارسة القوى التقدمية والوطنية المتواجدة في كردستان نشاطاتها في أجواء ديمقراطية سليمة، فبدون المؤسسات التمثيلية وإجراء الانتخابات الديمقراطية النزيهة للمنظمات والجمعيات والإتحادات والهيئات الشعبية والرسمية لا يمكن أن تتحقق مطامح وأهداف شعبنا في الحياة الحرة الكريمة وفي ظل سلام دائم وطيد تزدهر فيه الثقافة التقدمية كما يقول الرفيق فهد (إن الديمقراطية التي لا تتسع لنشاط أشد المناضلين صلابة وأكثرهم عناداً وأدراهم بأساليب الإستعمار ونواياه لا يمكن أن تكون ديمقراطية يقرها الرأي العالمي الحر) .
لقد كانت هذه المقالة مستمدة أساساً مما جرى من نقاش بين الشهيد الرفيق محمد الخضري وشخص بعثي في الطابق الثاني من سيارة مصلحة نقل الركاب وأنا كنت جالساً على المقعد الخلفي منهما، وقد أحتد النقاش بينهما وختم الرفيق الشهيد كلامه الموجه الى البعثي الذي كان جالساَ بجانبه قائلاَ: أنتم لا تريدون التعاون مع الحزب الشيوعي كحزب حليف، بل تريدون احتواءه والتعامل معه كما تشتهون، وفي الحال خطرت ببالي بأن هذا الرجل الشيوعي الجريء لن يبقى على قيد الحياة، وحدث ما توقعت، فأدنت استشهاده في حينه ونشرت الإدانة في ملحق جريدة الآجيال التي كانت نقابة المعلمين تصدره، ومما يلفت النظر أن الشهيد كان يزورنا في أيام مؤتمر نقابة المعلمين الذي انعقد فى بغداد عام 1971 ويشجعنا على المزيد المطالبة بحقوقنا المشروعة دون خوف، حتى أن الأُخوة من المنتسبين إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني المشاركين في المؤتمر خامرهم الشك بأنه كردي، لذلك سألوني: هل هوكردي ؟ لأنه كان حريصاً جداً على الحقوق المشروعة للشعب الكردي، فقلت لهم إنه معلم شيوعي حريص على تحقيق الحقوق القومية لشعبنا الكردي .
واصلت الدوام في "طريق الشعب" الى أن إختفى الرفيق عبد الرزاق الصافي عن الأنظار، وبعد فترة وجيزة بلغت بقرار ما يسمى(مجلس قيادة الثورة) بنقلي من مدرس في إعدادية الرسالة الى وزارة العدل ومنها الإبعاد الى المحكمة الشرعية في البصرة القديمة بوظيفة
معاون قضائي أى (الكاتب الأول)لأنني رفضت التوقيع على صيغة البراءة السيئة الصيت، حيث عادت الى ذاكرتي مقولة "الرفيق كريم أحمد "في اجتماع للرفاق الشيوعيين والمؤيدين بعد ثورة 14تموز1958 في مدينة (كويه)حينما سئل : صحيح أن الحزب سمح لبعض الرفاق تقديم البراءة، فكان جوابه : لم يحدث ذلك، وأضاف قائلاَ : حتى لوكان الحزب طالباً مني ذلك لامتنعت، فأثناء الحملة البعثية الظالمة على الحزب سنة 1979، تعرض (44) مدرسا من ملاك الإعدادية المذكورة الى الإستدعاء والتحقيق، فرفض ثلاثة منا بكل أباء وشموخ التوقيع على صيغة صك البراءة، وبعد إنتفاضة آذار المجيدة ومع اطلالة جريدة "ريكاي كوردستان/طريق كردستان ومجلة بيرى نوىَ/الفكر الجديد "أصبحت من المحررين في كلاهما، وكنت في الجريدة محرراَ ومترجماَ وكانت "رِيَكاي كوردستان" تصدر بجهود شخصين (الرفيق هادي محمود وانا) ومصحح وبدونه، وكنا نعمل ليلاً ونهاراُ، كما أنني أصبحت مديراَ لإذاعة الحزب، مددت البث الإذاعي من ساعتين الى عشر ساعات وكنت محرراُ للأخبار ومترجماً ومقدماً التعليق السياسي، واستثناء من كل الإذاعات كلفنا احد العاملين في الإذاعة أن يكون مراسلاً متجولاً ينزل الى الشارع ويتصل بالجماهير و?حاورهم ويطرح مشاكلهم وهمومهم، وكان لهذه المبادرة وقع جيد في نفوس الجماهير .
ما زلت أنشر نتاجاتي في الجريدة من خلال عرض وتحليل ما يتعلق باليسار والحزب الشيوعي العراقي، وتجرى معي أحياناً مقابلات تلفزيونية . ولا بد لي أنني دخلت مرحلة جديدة في حياتي الصحافية بفضل من عملت معهم، حيث انتفعت من تجاربهم وخبرتهم كثيراً .