فضاءات

وفاءً للشهيد أبو نصير / كمال يلدو

إذا كانت الشهادة من اجل المبادئ السامية وقضايا الناس العادلة أرقى تضحية يقدمها الإنسان، فإن من أبرز من إجترح تلك المأثرة على مر تاريخ العراق الحديث كان الشيوعيون العراقيون، سواءً في المعتقلات الرهيبة للأنظمة الفاشية أو على سفوح الجبال وضفاف الأهوار. وبالرغم من تشابه القسوة والعنف الذي تعرضوا له، لاسيما وهم يواجهون قتلة قل نظيرهم في الوحشية، فإن قسوة الغدر والطعنة من الخلف كانت الأشد إيلاما!
ولد الشهيد لازار ميخو عام 1933 في ناحية (مانكيش)، ودرس في مدارسها، ثم إنتقل الى كركوك لدراسة الإعدادية قبل أن يتفرغ للعمل السياسي الوطني. عمل ميكانيكيا ونشط كادرا نقابيا، وفي عام 1963 وإثر إنقلاب شباط الأسود، التحق بقوات الأنصار ملبيا النداء في تشكيل القواعد الأولى في جبال كردستان لمقارعة الحكم الرجعي، وطبعت تلك التجربة حياته النضالية اللاحقة حيث تحول الى قائد انصاري باسل.
زوجته، الأنسانة الرائعة والنصيرة، ام عصام، تتحدث عنه بفخر وألم فتقول:
- تعرفت على (ابو نصير) في بغداد في عقد السبعينيات، والتقيته لاحقاً حينما التحقتُ بحركة الأنصار، وتوطدت علاقتنا اكثر حتى تم زواجنا عام 1981، فقد كان أرملا إذ رحلت زوجته (شموني) نتيجة المرض بعد أن اعطته بنتا حلوة (انتصار ـ متزوجة الآن ولها ولد وبنت) وشابا وسيما (نصير)، فيما كان زوجي قد استشهد نتيجة التعذيب على ايدي البعثيين. كان (ابو نصير) انسانا وديعا ورائعا، وكان رحيله المفاجئ خسارة لحزبه وشعبه.
وتكمل السيدة أم عصام قائلة: كان الراحل قد تلقى العديد من رسائل التهديد المباشرة وغير المباشرة من بعض المهربين والسراق الذين كانوا يتربصون بأي انسان يعمل بأخلاص ولا يتعاون معهم. وعشية انعقاد المؤتمر الأول للحزب الشيوعي الكردستاني وفي ليلة 15-16 حزيران عام 1993 وبينما كنتُ اقوم بالتهيئة للسفر صباحاً حيث كنّا مدعوين الى المؤتمر(أنا والشهيد وأبو باز)، سمعت صوت الإطلاقات، فغادرت البيت (انا وإبنته انتصار) متوجهين حيث مصدر النيران. كانت الشوارع مكتظة بالحمايات ورجال الأمن، وحينما وصلنا سيارته، وجدناه مضرجا بالدم?ء، إذ سقط بعد أن هاجمته عصابة من القتلة ، ومع اننا في عام 2015 الا ان التحقيقات لم تتوصل الى القاتل الحقيقي، وهذه بحد ذاتها قضية تبعث على الحزن والألم. ورغم إن دهوك كانت حينها تحت سيطرة الأحزاب الكردية، فإن ذلك لم يمنع سلطات البعث من تسخير بعض المرتزقة وضعاف النفوس من تأدية مثل هذه الأعمال القذرة تجاه الكوادر الوطنية النزيهة، والسبب الرئيس يعود الى الدور الذي كان يلعبه الشهيد (أبو نصير) في محاربة المفسدين والعصابات التي لم تتمكن من اغرائه بالمال، فلجأت الى تصفيته. لقد عاش مناضلاً حقيقيا، وذاق مرارة السجون?مرات عدة، وخرج منها منتصرا ومرفوع الرأس على اعدائه الذين انتهى عهدهم الى مزبلة التأريخ، وليس غريباً ان يلقبه البعض بـ(بطل السجون والمعتقلات وقاهر التعذيب) لأنه فعلاً كان كذلك.
أما رفيق دربه القائد الأنصاري (أبو باز) فيتذكره بالقول:
كان أول تعارفي بالشهيد عام 1963 في الجبل، في مقرنا بمنطقة «قيصرية» غرب قرية (باعذرا)، وقد خضنا معاً العديد من المعارك ضد قوات الحكومة التي كانت تهاجمنا، كما شاركنا في عشرات المفارز والمهام السياسية والقتالية. كان أبو نصير مقاتلاً شجاعاً بمعنى الكلمة، هادئ الطبع ورزين الكلام وذا أخلاق رفيعة وسامية، لقد جمع هذا البطل خصلتين رائعتين، مقاتلا وسياسيا من الطراز الأول. عملنا انا والراحل عام 1991 في اللجنة الإقتصادية في دهوك، وللأمانة فأننا كنّا نعيش على المخصصات التي تأتينا من حزبنا، ولم نرتض بأن نعتاش على الرشو? او المال الحرام. ولعلي هنا، والكلام مازال للرفيق (أبو باز)، اتذكر تلك الأيام العجاف بكل وضوح، فلقد التقيته بأسبوع قبل استشهاده في جلسة عائلية بمنزلي في مدينة دهوك، ورجوته من القلب أن لا يخرج في الليل، معرضا نفسه لغدر الجبناء.
ويكمل بألم وحسرة:
لقد فقدتُ أخاً ورفيقاً وحبيباً، وكم كنت اتمنى ان يموت بمعركة وأكون بجانبه، وليس بيد جبناء هجموا عليه في الظلام.
النصيرة (ندى) تتذكر الشهيد فتقول:
مثلما للكثير من البلدات ابطال وأعلام تفتخر بهم، هكذا نحن ابناء وبنات «مانكيش» نفتخر بالشهيد (أبو نصير). لقد التقيته في الجبل حينما كان آمر فوج (مرّاني)، وكم كنتُ فخورة وسعيدة به، لقد عاش وناضل ومات كالأبطال. نعم ان خسارته كانت كبيرة، وكان من الممكن ان يقدم المزيد لشعبه ووطنه، لكني اؤكد أن الذي يتحمل المسؤولية الأساسية هو نظام البعث وصدام حسين، فلولا سياستهم الهمجية وتعاملهم القاسي مع الأحزاب الأخرى لما كان للشهيد (ابو نصير) وغيره من النصيرات والأنصار ان يركبوا تلك المخاطر ويعيشوا تلك الحياة الصعبة بعيدا ?ن المدنية، وعن اهلهم وأحبابهم وعوائلهم، بعيدا عن جامعاتهم ووظائفهم. كان البلد (ومازال الى اليوم) بحاجة الى قوانين تنظم عمل الأحزاب وتشيع الديمقراطية وقبول الآخر وترسي مبدأ التداول السلمي للسلطة، ومن دون ذلك فأن الجرح سيبقى نازفا، وآتيا على المزيد من الشباب الذين ننتظر منهم البناء، وليس الموت.
الخلود للشهيد الراحل لازار ميخو (أبو نصير)
المواساة لأبنته انتصار وأبنه نصير وزوجته الغالية ام عصام
العار لقتلته الجبناء والنصر لقضيته العادلة من اجل «وطن حر وشعب سعيد»