فضاءات

ذكريات مؤلمة في علاوي الحلة وبائعة الكيمر والجاي/ كامل زومايا

كنت اليوم 23/ تموز مع الفجر أمام وزارة الخارجية قسم التصديقات لتصديق شهادة حياة شقيقي ، بعد ان حاولت قبلها بيوم مراجعة قسم التصديقات الا ان الشرطي قد منعني بحجة عدم استقبال المعاملات بعد الحادية عشر والنصف، بالرغم اني حاولت ان اشرح له ان الطائرة القادمة من اربيل تأخرت في الوصول الى بغداد ، وان يساعدنا بهذه الدقائق العشر التي تأخرتها الا انه رفض كل مبرراتي وقد استخدم جبروته بكل ما انزل الله من سلطان ، من جانب آخر كان عين عينك كان بعض المراجعين يسمح لهم بالدخول والله في خلقه شؤون .... ، عموما حسمت أمري أن أكون الاول في الطابور في اليوم التالي وهذا الذي حصل ، حيث كان رقمي في قائمة المسجلين رقم 6 ، وبعد التسجيل في الطابور وكانت الساعة لم تتجاوز الساعة السادسة والربع بعد ، استأذنت المراجعين لابحث عن فطور في ساحة علاوي الحلة التي لا تبعد عن الوزارة سوى بضع مئات من الامتار ، كانت علاوي الحلة عالقة في ذاكرتي بأزدحامها الا اني عند وصولي للساحة، تفأجئت فلم تعد كما كانت مفعمة ومزدحمة بمسطر للعمال هناك وضجيج المسافرين من والى بغداد .
تنظر الى يمينك ترى ساحة المتحف ومن بعيد ذلك المتحف الذي نتباهى بكنوزه الذي لم نتمكن ان نحافظ عليه في غفلة من الزمن ، كما ان ساحة المتحف هذه مازالت تنتظر بمن يوفي بعهده لتحتضن ابنها البار (فهد) الذي تم تنفيذ حكم الاعدام بحقه في تلك الساحة في 14 شباط 1949.
عندما تغادر اي مكان قسرا وترجع اليه تعود معك ذكريات قد يبدو انك نسيتها ، ففي هذا المكان من الساحة كان يقلني صديقي بسيارته ( فيات تكسي) الى مركز تدريب الحلة للمشاة في سنة 1981 ، افترقنا بعد انتهاء الدورة التدريبية للمستجدين الجدد ، وشاءت الصدفة ان نلتقي في عام 1989 في سجن ابو غريب قسم الاحكام الخاصة وبالرغم من اسلاميته الا كنا نلتقي بكثير من الطروحات في القضايا الانسانية واستمرت علاقتنا على هذا الاساس في تلك الفترة وفترة السجن ايضا ، كان الطيب الذكر الدكتور عصام كاظم الراوي بعد انهيار النظام الديكتاتوري في 2003 عضوا في هيئة علماء المسلمين ، ولأعتداله تم تصفيته برصاص الغدر في تشرين الاول /2006
صباحات ساحة علاوي الحلة تتألق بطيبة الناس من عمال يحاولون كسب قوتهم وذلك الجندي الذي ارغم بأن يدافع عن وطن او دكتاتورلا يملك فيه شيئا ، ومع هذا وانت واقفا امام باعة شوربة عدس او بائعة الكيمر او بعد الانتهاء من الفطور لترتشف الشاي مع الصوت الهادر للقارى عبد الباسط عبد الصمد ، الجميع كانوا يسمعون له ويسمعون في الوقت ذاته للصوت الملائكي فيروز ، والحق يقال كان في بعض الاحيان وهي كثيرة، كانت الاصوات تتداخل وتتناغم مع السامعين ، ولم يكن لهم اعتراض على ذلك التوزيع الموسيقي الانساني الراقي ، صوت القارئ عبد الباسط مازال يرن في اذني واخص سورة من القرآن الكريم ( والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الامين ..) هذه السورة بالذات كانت قضية كبيرة في زنزانة رقم 3 في اقبية مديرية أمن الكرخ ، فبالرغم ان الآية ليست كلماتها كلها عربية كما يقال ( انا انزلنا قرآنا عربيا لعلكم تعقلون ) فكلمة طور هي كلمة سريانية وطور تعني الجبل ( جبل سيناء) ، الا ان النقطة الخلافية كانت عند ذلك الرجل الطاعن في السن الذي تم اعتقاله يوم 23 حزيران 1989 يوم وفاة ميشيل عفلق وسبب اعتقاله ، حيث كان متعودا كل يوم بعد انتهاء عمله (عرض حالجي ) في الصالحية ينتهي به الامر الى اقرب بار مشروبات ويسمع لصوت السيدة ام كلثوم وفي ذلك اليوم المنحوس له ، سأل النادل عن سر عدم تشغيل المسجل وسماع السيدة ، فاجابه النادل توفي اليوم الاب القائد ميشيل عفلق، ويبدو انه صوته كان عاليا عندما نعاه (خرة بكبره) وما هي الا بدقائق واذا بازلام السلطة تعتقله ، ويشرفنا في زنزانة رقم 3 في مديرية امن الكرخ ، السيد صالح او صاحب كان طالبا بالحوزة العلمية وهو ايضا من النجف، بعد التحقيق ( التعذيب وهو طاعن في السن ) لم ترق له احوال زنزانة رقم 3 من الذين حاولوا ان يفرضوا عليه الصلاة ليلقنهم درسا بتفسير الاية ( التين والزيتون ..) وحين كانوا يولون هاربين من محاججته يهددونه بانهم سوف ينادون رجال الامن ويتهمونه بالشيوعية وبالكفر معا ..
في تلك اللحظة التي كنت اسمع لعبد الباسط ، كان صوت هادئ حزين من امرأة يناديني ، وكأنها نفس تلك المرأة قبل 30 سنة تنادي ... كيمر وجاي ...كيمر جاي ....تقربت منها وطلبت منها لفة الكيمر، كان هناك شعور لا يوصف .. كانت كما هي امي التي تضع الكيمر في الصمون ، طلبت منها الجاي وان لا تضع فيه سكر ... اجابتني لتتأكد
- بدون شكر يمه
- نعم بدون شكر
- ولا شوية
- ابدا يمه ولا شوية ..... اجابتني
- يا بعد امك العمر كضه بالمر حتى الجاي لازم نشربه مر شلون دنيا
- هذا حالنا وحال الدنيا ، لم اتمالك نفسي بما جسدته تلك المرأة العراقية من معنى لهموم ومعاناة شعب الحضارات...تداخل صوتها مع صوت امي التي عاشت حياتها بمرارة وهي تنتظر اليوم القادم الذي نحلم به ... سمعتها تناديني
- بعد أمك الكيمر باللفة شوية .... اخليلك بعد
- لا يمه المشكلة مو بالكيمر ولا بالجاي المر.... بالعمر الي نكضه مر في مر .....
بعد انتهائي من الفطور اخرجت الجزدان لكي ادفع ، اجابتني واصله فلوس الكيمر والجاي روح بعد امك مع الف سلامه ..
وضعت مبلغا من المال على الطاولة امام رفضها، وانا ارجع مسرعا لاقف في الدور امام دائرة التصديقات لوزارة الخارجية.