فضاءات

أشهد أني عشتُ تلك التجربة الغنية .. "طريق الشعب" العلنية / عدنان حسين

في يوم ما سبق الحدث السعيد بنحو شهرين، جاءني الراحل حامد جبر الحسن، الموظف الإداري في الجامعة المستنصرية، وصلتي الحزبية، بخبر أفرحني كثيراً، هو تلبية رغبتي في الالتحاق بطاقم "طريق الشعب" التي كان يجري الإعداد لإصدارها علنية.. أعطاني عنواناً لأذهب إليه في يوم محدد لم يكن بعيداً.
في ذلك المكان المحدد واليوم المحدد تفاجأت بأن مَنْ كان في استقبالي والآخرين، أبو كَاطع (شمران الياسري). ومَنْ لم يكن في ذلك الوقت يعرف أبو كَاطع الذي ذاع صيته من خلال برنامجه الإذاعي الشهير "إحجها بصراحة". كما عرفته شخصياً من خلال والدي الشيوعي العتيق.. ضمّني أبو كَاطع إلى مجموعة كانت تتهيأ للاجتماع برئاسته .. الوحيدة من حضور الاجتماع التي كنت أعرفها من قبل هي فاطمة المحسن، فقد كنّا قد عملنا سوية بعض الوقت في مجلة الإذاعة والتلفزيون قبل ذلك.
ظلّ ابو كَاطع لفترة من الوقت رئيسي في العمل .. حتى بعد أن تولّى غيره رئاسة القسم الذي أعمل فيه، بقي كلما صادفني يبادر برفع يده اليمنى إلى مستوى رأسه محيياً ومنادياً بصوت عذب: رئيسيييييي! .. لكنّه كان يفعل هذا مع الجميع تقريباً .. هو شخصية مميزة للغاية، ودود ومتواضع وصاحب حنو على أصحابه ورفاقه وشجاع في التعبير عن رأيه واتخاذ موقفه .. كل هذا كان يأتي منه بأقصى الحدود.. كان متمرداً، حتى انه عندما تكرر منع عموده اليومي من النشر عمد الى انشاء صحيفة حائطية كانت تُعلّق على أحد جدران مقر الجريدة.. تواطأ معه في ذلك?رشدي العامل ويوسف الصائغ.
تميّز عمود أبو كَاطع بأنه قوي و"نابت"، لم يكن في تاريخ الصحافة العراقية مثيل له .. حتى عمود عبد الجبار وهبي "ابو سعيد" في "اتحاد الشعب" لم يكن بقوة عمود أبو كَاطع الذي تميّز باستخدام "الحسجة" والحكايا الشعبية وباختراع شخصية خلف الدواح الشعبية.. وحسجته كانت سارية المفعول حتى في حياته العامة .. أتذكر الآن أنه عندما كان يطلب حاجة ولا يجد من يلبيها له في الحال يصيح بصوت عال لكن بنبرة ودودة: "هلبت أكو بهالجريدة عدالة أو إنصاف"... لم يكن ليذكر هذين الاسمين جزافاً فإنصاف رفيقة كانت تعمل في قسم الاستعلامات وعدالة ?لمالح كانت شابة متدربة في القسم الخاص بالبريد .. كان أبو كَاطع مدرسة صحفية بذاته، وكان مناضلاً من الطراز الرفيع.
دخلتُ "طريق الشعب" في البداية بصفة محرر تحقيقات غير متفرغ، فقد كنتُ أعمل بدوام مسائي في "مجلتي" و"المزمار" التي كان واسطتي إليها أستاذي السابق في قسم الصحافة بكلية الآداب (الراحل) زكي الجابر الذي شغل لفترة من الوقت وكيلاً لوزارة الثقافة.
بعد فترة قصيرة أُلحقتُ بقسم المنوعات، برئاسة يوسف الصائغ الذي شاء بعد فترة أن يسجّل لـ "طريق الشعب" ريادة في نشر صفحة إسبوعية للأطفال بإسم "مرحباً يا أطفال"، مسمياً نفسه في البداية "العم حمدان"، لكن سرعان ما أوقف استخدام هذا الإسم، فقد اكتشفنا أن "العم حمدان" هو أحد شخصيات الإذاعة الإسرائيلية، على غرار شخصية "ابن الرافدين" الشهير بتعليقاته على الأوضاع العراقية باللهجة العراقية، وتغيّر الاسم الى "العم حسان" .. عملتُ مع الصائغ، أو بالأحرى "تحت يديه" في هذه الصفحة وفي صفحة المنوعات. ويوسف الصائغ صحفي من الطراز الأول، بل مدرسة صحفية حقيقية، فضلاً عن أنه شاعر وكاتب رواية ورسام.
بعد سنتين أو ثلاثة من بدء عملي في "طريق الشعب" فتح يوسف الصائغ أمامي طريق كتابة العمود الصحفي.. كان إسبوعياً، وفي الذكرى الثالثة أو الرابعة لصدور "طريق الشعب" علنية كتبتً في ذلك العمود أنني في غضون ستة أشهر من عملي في الصحيفة تعلمتُ من فنون الحرفة الصحفية ما لم أتعلمه خلال أربع سنوات من دراستي الصحافة في كلية الآداب بجامعة بغداد. لم أكن أقصد، وهذا ما نبّهت إليه في العمود، التقليل من أهمية وجدوى دراسة الصحافة في الجامعة، لكن قسم الصحافة كان في سنواته الأولى فقيراً للغاية، فلم تتوفر له الوسائط التي تتيح لطلب?ه التدريب بنحو جيد على الفنون الصحفية، والصحافة فن لا يمكن إجادته من دون تدريب طويل ومتواصل ومُجهد.
الآن وقد أصبحتُ صحفياً "مرموقاً"، كما يرى البعض، فإنني أشعر بأن المدرسة التي جعلتني أتقن هذا الفن وأحترف هذه المهنة هي "طريق الشعب"، فقد كان مسؤولو الأقسام، وهم من الصحفيين والمثقفين المرموقين، حريصين على أن نتعلم المهنة على أصولها، وأول هذه الأصول، اللغة. كان يوسف الصائغ معلماً بارعاً في اللغة، كما هو بارع في فن التحرير، يصحّح لنا أخطاءنا ويقترح علينا صياغات في التحرير أفضل من صياغاتنا .. كان يفعل ذلك بطول أناة وبمحبة محسوسة لنا، وكان يُظهر كل الاهتمام في أن نتعلم جيداً ولا نكرّر الخطأ. وبالطبع فان مما كان يشجّع يوسف الصائغ وسواه من أساتذتنا أو زملائنا الكبار على المثابرة في تعليمنا أننا كنا حريصين على التعلّم .. كنا نحب المهنة كما نحب حبيباتنا، بخلاف ما ألاحظه من معظم شباب المهنة هذه الأيام.. الكثير منهم يبدون لي كما لو قد ألقي بهم في ساحة المهنة رغماً عن أنوفهم. قليلاً ما ألحظ صحفياً شاباً لا يكرر خطأ نبّهته إليه، وقليلاً ما ألحظ صحفياً شاباً منكباً على القراءة .. أغلبهم لا يقرأ حتى الصحيفة التي يعمل فيها، فيما كنّا نحرص على قراءة ثلاث صحف أو أربعاً يومياً فضلا عن المجلات والكتب.
الآن لا أتردد أبداً في الإعلان عن أنني صنيعة تجربة "طريق الشعب" العلنية ويوسف الصائغ.
وإلى جانب يوسف الصائغ هيأت لي "طريق الشعب" العلنية التي واصلت العمل فيها إلى ما بعد يوم إغلاقها في العام 1979، فرصة العمل والعيش مع شخصيات صحفية وثقافية مرموقة .. في قسم المنوعات مثلاً كان هناك بالإضافة إلى يوسف الصائغ شمران الياسري، أحياناً، ومصطفى عبود ومؤيد نعمة ونبيل يعقوب وعفيفة لعيبي وفاضل السلطاني وحميد عبد الحسين وصادق باباخان، قبل أن يلتحق نبيل ياسين وسعاد الجزائري وإبراهيم رشيد.
في مقابل غرفة المنوعات في الطابق العلوي في تلك البناية المطلة على شارع السعدون في منطقة بستان الخس، كانت غرفة رئيس التحرير عبد الرزاق الصافي ثم غرفة مدير التحرير فخري كريم، وهي أيضا غرفة اجتماعات هيئة التحرير، ثم غرفة القسم العربي والدولي والترجمة حيث عبد المجيد الونداوي وعبد الحميد بخش (أبو زكي) وفالح عبد الجبار وإبراهيم الحريري ورجاء الزنبوري ويحيى علوان وإقبال القزويني ومنى سعيد، بعدها تأتي غرفة القسم الثقافي حيث ألفريد سمعان وفاضل ثامر وسعدي يوسف ورشدي العامل وسلوى زكّو وحميد الخاقاني وصادق الصائغ، ثم غرفة حياة العمال والفلاحين حيث عبد السلام الناصري ومحمد كريم فتح الله ومخلص خليل وسمير سالم داوود.
في الطابق الأرضي كان قسم حياة الشعب حيث زهير الجزائري وفاطمة المحسن والشهيد إسماعيل خليل ومحمد خلف وجمعة ياسين وجمعة الحلفي وعبد جعفر وحمدي العاني(أبو حمادة).. وهناك أيضاً غرفة الأرشيف بسيدتها الدائمة سهام الظاهر ورفيقها أموري عطية فضلاً عن عدد غير قليل من المتطوعين والمتدربين. وفي ستوديو التصوير كان قتيبة الجنابي وحسين السلمان وجلال رومي.
من أهم الغرف كانت غرفة الحديقة، وهي غرفة إعداد الشاي حيث الشغيلة أم جاسم ومساعدها (الصبي آنذاك) قاسم خضر الذي تدرب في أوقات ما بعد الدوام على التحرير الصحفي وأصبح صحفياً لا يباريه الكثير من صحفيي اليوم الشباب ومتوسطي العمر والخبرة (كتب هو عن تجربته قطعة ممتعة منذ ثلاثة أسابيع).
لا يمكنني أن أتجاوز غرفة الصفحات المتخصصة حيث حسن العتابي المسؤول عن صفحة حياة المعلمين. هذا الرجل الذي كان في عمر آبائنا نحن شباب الجريدة كان يبدو لنا كما لو انه مقيم أبدي في الجريدة .. كان مخلصاً لها وللحزب الى أبعد الحدود حتى انه زجّ بنصف عائلته تقريباً في العمل معنا.. جمال والشهيد سامي وصفاء (أبو الصوف) كانوا من شخصيات الجريدة اللامعة... هذه الغرفة كان من روّادها الدائمين أيضاً رواء الجصاني وجماعته في صفحة الطلبة والشباب، وعصام الخفاجي وآخرون من المتخصصين في الشؤون الاقتصادية.
ليس هذا هو الطاقم الكامل ـ لـ "طريق الشعب"، هناك الطاقم الإداري: نوزاد نوري وأميرة وسواهما.. وفي المطبعة كانت هناك غرفة للصفحة الأولى التي يعمل فيها عبد المنعم الاعسم وآخرون، والقسم الفني الذي يضم ليث الحمداني وآل العتابي وعبد الرحمن الجابري وانتشال هادي وجابر سفر ، فضلاً عن عمال المطبعة والمسؤولين عنها ومنهم حيدر فيلي والشهيد هادي صالح (أبو فرات) وزوجته كوريا.
هؤلاء جميعاً، وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة بتدوين أسمائهم، عملتُ معهم وتعلّمت من كل واحد منهم.. إنني مدين لهم ولـ طريق الشعب" بالكثير مما عندي الآن من تجربة مهنية وحياتية، اغتنت أيضاً بتجربة حياة المنفى في بيروت وقبرص ودمشق ولندن والكويت، مثلما تغتني الآن بتجربة مؤسسة "المدى".