فضاءات

المقهى الثقافي العراقي في لندن يحتفل بمبدع (النخلة والجيران) بالنقد والعرض السينمائي / عبد جعفر

بمناسبة مرور 25 عاما على رحيل الروائي الرائد البارز في الرواية العراقية والعربية غائب طعمة فرمان، أقام المقهى الثقافي العراقي في لندن يوم 30-8-2105 أمسية أستضاف فيها الروائي لؤي عبد الاله، وعرض فيها فيلمين وثائقيين وهما (ظلال الذاكرة) للمخرج علي كامل، و (ذاكرة والجذور) للمخرج فاروق داود عن فرمان. كما ساهم في الأمسية الشاعران صادق الصائغ وعبدالكريم كاصد في ذكرياتهما وإنطباعاتهما عن الراحل.
وفي البدء رحب الفنان علي رفيق بضيوف المقهى، مؤشرا الى أهمية هذه الأمسية في القاء الضوء على مبدع العراق الكبير غائب طعمة فرمان.
وفي نظراته النقدية الجريئة لإعمال وإبداع الراحل غائب طعمة فرمان، أوضح لؤي عبد الاله أن لرواياته الثلاث الأولى: النخلة والجيران وخمسة أصوات والمخاض أهمية خاصة أذ أنها تشكل ثلاثية مترابطة (رغم تغير شخوصها) والبطل فيها هو بغداد نفسها، وتتناول هذه الروايات الثلاث ثلاث فترات زمنية ذات تأثير بالغ على الواقع العراق المعاش، ولعل أنسب تعبير لوصف هذه اللحظات التاريخية هو " العتبة".
وفي حديثه عن رواية فرمان الأولى، "النخلة والجيران" التي انتهى من كتابتها عام 1964 اي بعد مرور 20 سنة على أحداثها.
اشار المحاضر الى إنه من زمان ومكان نائيين عن بغداد يعيد بناء عالم اختفت منذ سنوات معالمه،مع ذلك، تنجح ذاكرة غائب باعادة بغداد كما كانت في تلك الحقبة، ومعه نسير في ثناياها بطلاقة.
وأن غائب يستخدم الحوار وسيلة لتقديم شخصياته اذ يحتل ما يقرب من ثلاثة أرباع صفحات الرواية وبفضل استخدامه للعامية تصبح شخصياته حقيقية فنيا على الرغم من أنها نمطية ومتشابهة مع بعضها البعض.هذا المسعى للقبض على صورة مدينة زائلة وحياة أشخاص مهمشين على عتبة اختفاء مهنهم البائدة باستخدام الحوار بالدرجة الأولى يدفع غائب إلى كسر ثلاثة مبادئ أساسية في الحبكة الروائية. وهنا يسود الروح الكرنفالي (حسب مفهوم باختين) حيث تنقلب المعايير رأسا على عقب .الشيء الأساس الذي جمع هذه الشخصيات هو انها عبرت العتبة وتركت هناك.
وفي تناوله الرواية الثانية لغائب "خمسة أصوات" أوضح أننا في هذا العمل نجد أبطال الرواية أشخاصا ولدوا بعد تأسيس الدولة العراقية بقليل. إنه عقد الخمسينيات حيث دخل الغرب بقوة الى الحياة الأجتماعية العراقية.
أنجز غائب هذه الرواية عام 1967 أي بعد ثلاث سنوات من كتابة "النخلة والجيران"، وكأن ذاكرته انتقلت إلى فترة حميمة إلى نفسه وتعنيه بشكل شخصي، فهي عتبة مهمة في مسار حياته.
وقد نسج الكاتب روايته على مبدأ الروندو الموسيقي حيث التيمات الموسيقية تتناوب بانتظام، وهنا نجد الشخصيات الخمس التي تجمعها اهتمامات مشتركة وعمر متقارب وعتبة حياة واحدة رغما عن اختلاف طموحات كل منها.
مؤكد أن الرواية نجحت بخلق عنصر التشويق، أذا استخدم الكاتب في سرد الرواية ستة رواة فلكل شخصية راو وللشخصيات الخمس معا راو خاص بها.
رغم أن الرواية تفتقد إلى التصعيد الدرامي أو الغور العميق في الشخصيات.
ويرى لؤي ان العنصر التشويهي المشترك ناجم عن كون هذه الشخصيات تنتمي إلى أول جيل متعلم تلقى جرعة ثقافية غربية كبيرة، على الرغم من أنها تعيش في مجتمع تحكمه سكونية هائلة فبينها وبين الآباء والفئات الشعبية فجوة ثقافية كبيرة، وما زالت المحلة البغدادية منغلقة على نفسها، وما زالت المدن الأخرى غير مهيأة لقبول زوار من المدن الأخرى، إلا إذا كان لديهم أقارب فيها.
وحول رواية فرمان الثالثة "المخاض" أشار المحاضر الى أن غائب يتبع تقنية سردية مختلفة فالراوي هنا هو البطل، وقد انتهى غائب من كتابتها عام 1971، أي بعد 4 سنوات على انتهائه من رواية خمسة أصوات.
هنا يعود الراوي- البطل إلى مدينته بغداد بعد وقوع ثورة 14 تموز بعام ونصف. ومنذ البدء يصدم بحقيقة لم تخطر على باله: اختفاء المحلة التي ولد وترعرع فيها عن الوجود مع كل المحلات المجاورة ليحل محلها شارع النضال الذي كان في طور الإنشاء. ومع انقطاع صلته بعائلته نتيجة عدم وصول رسالته إليهم يضطر الراوي الإقامة في محلة شعبية مع عائلة السائق العم نوري الذي أوصله أولا من المطار إلى مكان محلته.
تأخذ الحوارات مساحة كبيرة في الرواية تصل إلى 160 صفحة بالكامل من 360. وتشمل الحوارات قدرا من الجدل واعترافات وتداعيات خواطر.
وتفتقد الرواية إلى النمو الدرامي، لكن رغبة القارئ في التعرف على هذه الشخصيات التي تبدو حقيقية (وعلى الأغلب هي كذلك) يظل محدودا بمدى انفتاحها مع الراوي كريم.
وأشارالى ان هذه الرواية في سياقها تقترب من أدب المذكرات، وقد يجد القارئ في ديناميكية السرد ترهلا هنا وهناك واستيلاء الجدل المتعدد القناعات عليها، لكنها الرواية الوحيدة التي كتبت عن تلك الفترة الحرجة في تاريخ العراق بموضوعية، وما جعلها شيقة اليوم هو أن غائب منح أبطاله فرصة متساوية في التعبير عن آرائهم دون أن ينحاز إلى بطله الشيوعي على الرغم من أنه سلمه قياد السرد. وهذا ما يجعل القارئ بعد الانتهاء منها ينحاز إلى وجهة النظر هذه أو نقيضها.
ثم أعقبه الشاعر صادق الصائغ مشيرا الى أن جميع الكتابات والأحاديث تتناول ابداع فرمان من دون أن تتناول نفسه، مؤكدا أنه من خلال لقاءاته معه في موسكو أنه فرمان شخصية روائية بحد ذاته، وهو انسان خصوصي جدا، لا تكاد تحس به حين يجلس ولكن الأنظار تتجه اليه حالما يتكلم ، فهو أنسان ذكي جدا، وتشعر أن في روحه شخصية طفل محب قوي دافئ الحضور مهما نظرت أليه كرجل ناضج.
واضاف الصائغ أن فرمان شخصية قلقة، ويشعر بوحدة لا تصدق، ولا يحب وجوده في موسكو ودائما يعطيك إنطباعا أنه غريب في هذا المكان، ولا يحب وجوده في الخارج وحنينه دائم الى العراق وذكرياته بشكل لا أنفكاك منه. ولا غرابة أنه يستحضر الروح العراقية في كتاباته رغم هذه السنين من البعد.
وفسرالشاعر عبد الكريم كاصد سبب أن روايات فرمان الأخيرة (المرتجى والمؤجل) و (المركب) و(ألام السيد المعروف) ليست بمستوى أعماله الأخيرة، يرجع الى أن فرمان أخذه العمل في الترجمة كثيرا على حساب أطلاعه وتطوير عمله.
واشار الى إنعدام الدعم والمبادرات من القوى والتنظيمات العراقية لإخراج فرمان من شرنقة عمله الرتيب الذي أستنزفه كثيرا وذلك بإرسال مبلغ بحدود مئتي دولار له شهريا، كما أقترح عندما كان في سوريا، ولكن لاحياة لمن تنادي.
وعرض في هذه الأمسية الأحتفالية فيلما (ظلال الذاكرة) لعلي كامل و (ذاكرة وجذور) لفاروق داود وميزة هذان الفليمان هو استخدامهما الشهادات عن فرمان مع مشاهد تجسد فصولا من إعماله، بالأضافة الى شهادات من الكاتب نفسه، كما عكست فترات من تاريخ العراق السياسي الذي زامن أعماله الرواية أو عاصرها الكاتب.
ورغم ان هذه الأمسية لم تشهد مناقشات بين ضيوف المقهى والمحاضر، لضيق الوقت، غير أن صدى الأمسية ظل مستمرا حتى بعد خروجهم من القاعة وهي تذكر ذلك الرجل الذي أستحضر عوالم زائلة رغم تغربة ورحيله المبكر عن عمر ناهز63 عاما قضى معظمه بعيدا عن عشقه الاول العراق.