فضاءات

وليد جمعة، الصبي المشاكس... وداعاً! / ابراهيم الحريري

كنا نبدو نقيضين: وليد بفوضويته، وبميلي، المبالغ فيه، احيانا، لأن ابدو منظما، جادا. هو، بروح المشاكسة الطفولية الغالبة في سلوكه، وبما عَرف عني، ربما لم يكن دقيقا، تماما، ولعلي حرصت ان ابدو كذلك، متعقلا، "عاقلانه" على حد وصفه. هو، برفضه الإلتزام ، وبما تكون لديّ، تارخيا، منذ التحاقي، مبكرا، بالحزب (الشيوعي) من تقاليد الإلتزام، سواء كنت منتظما، او، لظروف تحدثت عنها اكثر من مرة، خارج التنظيم. هو، بموقف النقد الذي لا يقبل المهادنة، لهذا الموقف او ذاك، لهذا الشخص (القائد) او ذاك، الذي يبلغ، احيانا، حد التجريح والهجاء المقذع، شعرا، شعبيا وفصيحا، بينما كانت تغلب على مواقفي، الشخصية والسياسية، الا ما ندر، روح تغليب ماهو جوهري في النظر الى هذا الموقف او ذاك، او هذا الشخص او ذاك، ومحاولة وضعه في اطاره الظرفي او التاريخي (اللهم الا عندما يتعلق الأمر بالموقف من النذالة المتعمدة. ولي في ذلك مذهب اسميته "طبقات النذلاء"، يعرفه بعض الأصدقاء، وبعض من ذاق "حلاوته"!)
كيف، اذن، التقينا؟
حدث ذلك اواخر 1983 او اوائل 1984 عندما انتقلت من القاهرة الى دمشق للعمل في مشروع "التجمع الديمقراطي العراقي" (سافرد، مستقبلا، مجالا خاصا للحديث عن هذه التجربة). كان عليّ كأي عراقي قادم جديد، معارض، سياسيا مثقفا، او يحتسب نفسه على واحدة منهما، او كليهما، ان يقدم اوراق اعتماده لمجتمع مقهى الروضة. كان وليد جمعة احد محاوره الرئيسية، بل لعله كان المحور الرئيس فيه.
لا اتذكر من بادر الى اللقاء بالآخر. لعل مجلس صدفة جمعنا. سبقتني اليه سمعتي وسبقته اليّ سمعته. تفحص كل منا الآخر، ربما كما يتفحص مصارعان على الحلبة، كل منهما الآخر، قبل بدء الجولة الأولى. لعل طقوس التفحص امتدت بضع جلسات، حتى وجد كل منا نفسه قريبا الى الآخر. لعلنا اكتشفنا، ربما من دون ان نعلن ذلك (لعلي اكتشف ذلك الآن) ان ما يقربنا الى بعضنا كان ذلك الصبي المشاكس الكامن داخل كل منا.
كان مثقفا شفاهيا نادرا، عميق الثقافة، يغيب اياما فنقلق لغيابه، ثم نكتشف انه كان عاكفا على القراءة. وما اكثر ما تنوعت قرءاته في الآدب والتاريخ والفلسفة والتراث، وما اعمق ما كان يعرضه من قراءاته. اذكر انه كان الى ذلك قدر ما تسعفني الذاكرة، "سميعا" للموسيقى الكلاسيكية، وهذا ما وطد، وأرجو ان لا اكون مخطئا، علاقتنا.
كنت اقصده في الصاح الباكر، في مقهى الروضة فينطلق على سجيته، من غير افتعال لروح المشاكسة التي اشتهر بها، اسمع منه عرضا لبعض ما قرأه و ما كتبه، في الأدب و "قلة الأدب"! احتمل، ضاحكا، "تصنيفه" (سخريته لكن المؤدبة) من بعض خياراتي السياسية التي تتطلب مني التعاون مع بعض الأشخاص "المعدان"، على حد وصفه. متسائلا: شلون نكَدر وانت الحضري ابن بيروت وبغداد تتحملهم؟ ولا ادري ما اذا كان يريد ان يطريني او يذمهم؟ ام الأِثنين معا! يلوح واحد منهم فيلتفت اليّ ضارعا: بروح ابوك تروح تكَعد غاد! اعانده مشاكسا. يغضب: م وكتلك كَوم اكَعد غاد! كَوم وآني ادفع شايك! إلا اكَلك محصور فشّورة (سبابا مقذعا) وانت الحضري ابن العوائل ما تتحمل! هُوَّ هالـ (كذا ) يتفوّت؟" فانسحب ضاحكا.
كان وليد هجاءً، مقذعاً، ما زلت احتفظ ببعض نتاجه بخط يده في هذا المجال (لم يكن ينشر. كان يوزع ادبه بالأحرى" قلة أدبه" مخطوطا على اصدقائه فيتداولونه.
انتشرت في دمشق اواخر 1986 او بداية 1987 هجائية من الوزن الثقيل، تسخر (من الحزام وجوّه) من سياسي دعا، في مقابلة له مع صحيفة "لوموند" الفرنسية، الى تقسيم العراق الى دويلات كردية، شيعية، وسنية. مطلع الهجائية الشعبية: ع الكومله... ع الكوملي/ هالكوم إله... وهالكوم إلي". وهذه اكثر ابياتها ادبا! انتشرت هذه الهجائية في دمشق، ونُسبت، بالطبع، الى وليد، فمن غيره يمتلك ناصية هذا "الفن"؟ واعترف انني شجعت على ترويج هذه الشائعة، مع انني كنتُ الكاتب، ولم يكن يعرف ذلك غير الصديق طارق الدليمي، فقد ولد المطلع في جلسة سمر في بيته.كان وليد يدور على المقاهي ينفي علاقته بالهجائية، لكن احدا لم يكن يصدق، فمن كان سيصدّق ان" الفاعل" هو "المؤدب" ابراهيم الحريري، ما غيرو، فانا غير معروف بكتابة الشعر اصلا، فكيف بكتابة هذا النوع من الشعر الشعبي الهجائي ، حتى قدر لواحد في ادنى سلم "طبقات النذلاء" ان يتذوق من طيبات ما ُرزِقْتُ به.
اواخر 1987 كنت قررت مغادرة دمشق عائدا الى القاهرة، عندما علمت ان وليد يعاني من ازمة صحية حادة (سل رئوي من الدرجة الثالثة) وانه يعاني، الى ذلك ، من ازمة مالية، وهو لا يكاد يبارح سكنه. قرّرت ان اقضي ايامي الأخيرة في دمشق معه. كنت اتسوق له. اعد له افطار الصباح، وحساء الظهيرة، ولم تكن امسياتنا تخلو من معاقرة بنت الحان تتخللها السلطة وبعض المشويات. اشهد ان أيامي الأخيرة في الشام معه - لا اتذكر كم طالت - كانت من امتع ما عشت. كانت تتخللها قراءات في الشعر والإستماع الى بعض الموسيقى، وتبادل احاديث شتى لم تكن تخلو من العودة الى ذكريات الطفولة، وتجوال في ازقة بغدادية قديمة في محلات "ذاك الصوب" والكاظمية. ذكريات لم تكن تخلو من الشجن والحنين الى طفولة لن تعود ابدا...
لعلك، وانت تقرأ ما كتب عنك بعد موتك، كنت ستعلق ساخرا: خوات (الكذا) وين جنتو؟ ليش ما كتبتو هذا من جنت عدِل؟ يمكن جان بطّلت، ما متت! وتطلق ضحكتك الشهيرة. نسمع صداها، فلا ندري أ نضحك ام نبكي...
وليد! ايها الصبي الشقي المشاكس! وانت تغادر الى الطفولة فالرحم الكوني... وداعاً.