فضاءات

وفاء للشهيد النصير رافد اسحق حنونا "حكمت" / كمال يلدو

تنمو السنابل مستقيمة وبإتجاه الشمس ، وحينما تنضج وتبدأ بالأنحناء، لا تفعل ذلك إلا لأنها امتلأت بالعطاء والخير للناس. هكذا كانت قوافل الشهداء، ابطال ومناضلات، لم ييأسوا من الصعاب او من قسوة الحاكم، بل كانوا (ومازلنا) يحدوهم الأمل بأن غداً مشرقاً حتما سيأتي لهذه البلاد. قبلوا سّر الشهادة بكل صلابة وثقة وشجاعة، وما تبقى من مسيرتهم التي لم ينجزوها ستبقى امانة علينا .
الشهيد رافد اسحق حنونا من مواليد مدينة ألقوش التابعة لمحافظة نينوى عام ١٩٥٨ وفي ـ المحلة التحتانية ـ درس الأبتدائية في مدرسة العزّة بألقوش، ثم أكمل المتوسطة في بغداد، وتخرج من (ثانوية الجمهورية /المعلمين) بمعدل عال أهلهُ للقبول في كلية الهندسة/ جامعة بغداد ـ قسم الكهرباء، حيث دخلها في السنة الدراسية ٧٦ ـ ٧٧. ولأن الأوضاع السياسية في العراق كانت تسير نحو الأسوأ، فقد قطع دراسته وغادر بغداد يوم ١٢آب عام ١٩٧٩. ثم انضم لاحقا الى قوات الأنصار التي اعيد تشكيلها في جبال شمال العراق. وقد استشهد أوائل شهر كانون الثاني عام ١٩٨١ في قرية (سينا / شيخ خدر) بعد معركة مع قوات النظام.
يتحدث عن الشهيد "حكمت" شقيقه السيد جلال حنونا قائلاً: منذ الصغر كانت له خصال طبعت حياته اللاحقة، الأمانة والصدق والذكاء. فقد كان متفوقا في الأبتدائية وهكذا في المتوسطة والثانوية، وكان يساعد الآخرين بعطاء لا محدود، اضافة الى خلق رفيع وشخصية هادئة. لقد كنت افخر به حينما كان يناقش الآخرين بالحجة والمعرفة، وهذا كان انعكاسا لشغفه بالعلم وأرتياد المنتديات الثقافية ومنها أماسي اتحاد الأدباء كل أربعاء.
لم أعرف انا ولا اياً من العائلة وجهته الحقيقية حينما قرر مغادرة بغداد تفاديا للوقوع بيد عصابات البعث عشية الهجمة الشرسة اواخر عام ١٩٧٩ التي شنها نظام صدام ضد اليساريين او ممن كان يشك بولائهم للبعث، وكنت اعتقد انه توجه الى احدى الدول الأشتراكية لأكمال دراسته، إلا ان احد اصدقائه قال لي بإن (رافد) قد التحق بالأنصار وأراني رسالة كان قد استلمها منه.
لم تكن اوضاع العراق سهلة في تلك الأيام العجاف، وكانت عيون المخابرات تبحث عن اي زلة او غلطة حتى تنقضّ على الضحية وتنتقم منها، ولكوننا كنا نسكن بغداد فقد انقطعت اخباره بالمرة، ولم نعلم بخبر استشهاده الا بعد مرور عدة أشهر، عبر دليل أوصل لنا الخبر.
لقد حزنتُ كثيراً عليه، وحزنتُ أكثر أن نخسر كعائلة وكوطن مثل هؤلاء الشباب الذين كان ممكنا أن يكونوا مشاريع بناء وعمران، بدلا من أن يصبحوا مشاريع للموت. هكذا يرحل عنّا أعز الناس نتيجة غباء الحاكم وعنجهيته وعقليته المتخلفة، فكيف كان ممكناً أن تكون صورة العراق لو توفرت فرصة للشباب أن يعتنقوا الأفكار التي يرغبوها، وماذا كان سيخسر الوطن لوأن هامشاً من الحرية كان مضموناً وعلنية الأحزاب مكفولة بالقانون، فكيف سيكون وطننا؟
لم يمض الخبر سهلاً على والدي (رحل عام ١٩٨٦) فقد عاش حزيناً رغم انه لم يُظهرها علناً، علماً اننا لم نَتمكن من إقامة مراسيم العزاء للراحل، ونجهل حقيقة المكان الذي وري جثمانه فيه.
اما والدتي، فلم نتجرأ ان نخبرها بالحدث حتى أذنت ساعة رحيلها عام ٢٠١٠، وبقي الأمر طيّ الكتمان، وكانت كلما اتى ذكر أخي (رافد) تقول: لابد لي أن اراهُ قبل أن أرحل من هذه الدنيا! فقد بقيت صورته يوم المغادرة عالقة في ذهنها ، وربما كان الأفضل ان لا تسمع بخبر استشهاده، فما كان سيضيفه لها سوى الألم والبكاء، لكنها رحلت وفي نفسها ذلك الشوق للقائه، وحتى وإن لم يتم، فأنه أهون بكثير من الحقيقة المرة.
لعل شخصية الشهيد المحببة، وشجاعته ، وطريقة استشهاده قد تركت ذكريات للكثير من الأنصار الذين رافقوه في تلك المسيرة القصيرة، فقد كتب عنه:
النصير مُناف الأعسم (ابو حاتم) مقالة لمناسبة الذكرى الثلاثين لمعركةـ سينا وشيخ خدرـ ضمنها تفصيلاً دقيقاً لتلك اللحظات الحاسمة فقال: حينما طوقت مجموعة من الجيش المدرسة التي نزلت فيها مجموعتنا الأنصارية في قرية (سينا) نتيجة وشاية ابن المختار، وكيف ان دورية الحراسة الليلية كانت من حصة الشهيد، حينما سمع بأقتراب مجموعة عسكرية من باب المدرسة بغية ايقاع اكبر عدد من القتلى بين صفوف الأنصار، فما كان منهُ إلا أن فاجأهم بإطلاق قذيفة (آر بي جي ٧) مما تسبب في مصرع وجرح العديد منهم، لكن النتيجة كانت ان عُرف مكانه نتيجة الضوء الذي تسببهُ هذه القذيفة عند الأطلاق، فأمطروهُ بوابل من الرصاص جُرح على أثرها في بطنه، وحمله رفاقة (أبو رستم، عايد و ابو علي النجار) على دابة، وتمكنا من مغادرة الموقع، إلا انهم وقعوا في كمين آخر سقط فيه الشهيدان (رافد حنوناـ حكمت ـ و هيثم ناصر الصكَر ـ عايد ـ) ولم يُستدل على مكان دفنهما.
أما النصيرة د. كاترين ميخائيل (د.سعاد)، فقد صادف التحاقها بقوات الأنصار بعد فترة قصيرة تلت تلك الحادثة وتقول : حينما وصلت الى مقر (الفوج الثالث في قاطع بهدينان) كان الحزن واضحا على الأنصار هناك، وحينما جاء أخي النصيرباسل الصفار ( سعيد ) لأستقبالي والترحيب بي قال: بقدر فرحي بلقاء شقيقتي في هذا العمل الوطني العظيم، بقدر شعوري بالحزن لفقدان أحد رفاقنا الأنصار. اما الأمر الثاني فكان (والحديث مازال للنصيرة د.سعاد) فقد التقيتُ في تلك الفترة ايضا النصير (سمير توماس) ابن القائد توما توماس والذي كان قد التحق في تلك الفترة، وبعد سماعه الخبر، فقد اختار(حكمت) اسماً حركياً له، لأن هكذا كانت القاعدة في العمل الأنصاري، وقال يومها: إني اختارُ هذا الأسم، حتى لا تغيب عن بالنا ذكرى الشهيد ويبقى اسمه عالياً.
اما النصير نبيل دمان، فقد نشر مقالة في مجلة "رسالة العراق العدد ٦٢، شباط ٢٠٠٠" تحت عنوان ـ في ذكرى معركة سينا ـ شيخ خدر البطولية ـ ضمنها الحادثة وذكريات عن الشهيد وعن سيرته الشخصية. ولعل واحدة من المفارقات الجميلة التي ذكرها السيد جلال حنونا، شقيق الشهيد، وفي الحديث عن الصديق نبيل دمان، بأنه قد أسمى احد ابنائه (حكمت) تيمنا بالشهيد ومن أجل بقاء ذكراه خالدة دوما، فأية صداقة وأية رفقة وأي اخلاص للمناضلين!
- المجد والخلود للشهيد النصير رافد اسحق حنونا (حكمت) ورفاقه الميامين
- الرحمة لوالديه الكرام، وألمواساة لعائلته الرائعة وأصدقائه وأحبابه
- النصر المؤزر للقضية العادلة التي استشهد من اجلها، لتحقيق (وطن حر وشعب سعيد).