فضاءات

عام على رحيله.. الدكتورعبدالصمد نعمان الأعظمي (١٩٢٣ - ٢٠١٤)

د.حسان عاكف
من الرجال الذين يصلك عبق سيرته الاجتماعية والسياسية وتتعرف على نبله وخصاله الانسانية والوطنية قبل ان تلتقيه. ينتمي الى عائلة متنورة ميسورة في الاعظمية، ضمت كفاءات علمية ومثقفين، اختار اغلبهم طريق النضال الوطني التقدمي وانتمى العديد منهم الى صفوف الحزب الشيوعي العراقي في فترات وحقب مختلفة.
كان الفقيد بارزاً في نشاطه الطلابي المهني والسياسي في كلية طب بغداد، التي تخرج منها عام١٩٤٦. برز في تظاهرات وثبة كانون الثاني ١٩٤٨ كواحد من نشطائها برفقة الاطباء الشجعان الشهيد محمد الجلبي ورافد صبحي اديب وفيصل صبيح نشأت وحسين الوردي وآخرين .
أصبح اول مدير عام للخدمات الطبية بعد ثورة١٤ تموز ١٩٥٨، ومع انتكاسة الثورة نال الراحل نصيبه من الاذى والنقل والملاحقة.
اعتقل الفقيد بعد انقلاب شباط ١٩٦٣ الاسود وتعرض للسجن والتعذيب والفصل من الوظيفة اسوة بالالاف من رفاقه . ارسل الى سجن “نكرة السلمان” الصحراوي لقضاء فترة محكوميته هناك.
وعند اطلاق سراحه وامعانا في إلحاق الاذى به جرى ابعاده عن مدينته بغداد وعين طبيبا في “لواء السليمانية”.
يسجل للدكتور عبد الصمد انه من الرواد المؤسسين لأختصاص طب الأمراض الصدرية و مكافحة التدرن ولأنشاء مستشفى للأمراض الصدرية في الكرخ ( الكرامة حالياً ) و مستشفى التويثة.
يستحق وعن جدارة ان يطلق عليه لقب “طبيب الفقراء”، حيث ظل حتى آخر ايام مزاولته لمهنة الطب في عيادته الخاصة في ساحة النصر ببغداد يداوي الفقراء من مرضاه مجانا، بل كان في اغلب الاحيان يزودهم بالدواء مما هو متوفر في العيادة. و في سبعينيات القرن الماضي حصل على هذا الامتياز المجاني للعلاج اغلب العاملين في مقري الحزب الشيوعي في بغداد وفي مقر جريدته المركزية “طريق الشعب”، من زوار العيادة.
حين اعتقل الراحل في الامن العامة عام ١٩٧٩ مع ابنه زيد وانكر وجود اية صلة تنظيمية له بالحزب الشيوعي سخر ضباط الامن من ذلك، اذ كيف يمكن “لطبيب الحزب الشيوعي الا يكون عضوا في الحزب الشيوعي”، كما كانوا يقولون له ويحاججونه؟!.
تعرفت على الراحل “ابو ليث” لاول مرة منتصف عام ١٩٧٣ حين ضمتنا، مع مجموعة زملاء من ذوي المهن الطبية والصحية، هيئة مهنية للعمل النقابي، بقينا سوية في هذه الهيئة قرابة عام واحد. وفرت هذه الاشهر فرصة لي للتعرف عليه وأكدت ما كنت قد سمعت عن خصاله.
افترقنا لنلتقي أواسط حزيران عام ١٩٧٩ في أقبية الامن العامة هذه المرة، حين نُقلت ذات يوم من المعتقل الذي كنت فيه “المسلخ” الى معتقل آخر “المشتمل” كان فيه الفقيد الدكتور مع ابنه المهندس زيد والشهيد خبير الاقتصاد صباح الدرة والشهيد عامل الطباعة محمود مطر و الشهيد طالب الاعدادية نصير عبدالله المأمون وطالب المعهد العالي فارس كريم فارس( ابو حياة) وعامل الحدادة حميد عايد سعيد وعشرات اخرين.
في هذا “المشتمل” الذي كان عبارة عن غرفتين متداخلتين، وكانت اعداد نزلائه تتراوح صعودا وهبوطا بين ٤٠ - ٧٠ معتقلا، وخلال فترة امتدت قرابة الشهرين، تداولنا احاديث وهموم مريرة واستعرضنا اسماء واحداث كثيرة.
كان الجلاوزة يتعمدون استدعاء الفقيد الدكتور مع ولده زيد سوية للتحقيق (التعذيب) وفي مخيلتهم الشريرة ان تعذيب احدهما امام الاخر سيضعف من معنوياتهما وصمودهما. وفي كل مرة كان الاب والابن يعودان والدماء تسيل من اماكن متفرقة من جسديهما. ولن انسى كيف اعادوه الينا ذات ليلة مع زيد والدماء تسيل من اصابع اقدامه.
بدءا من منتصف آب وعلى مدى اكثر من اسبوع شهدت المعتقلات والسجون العراقية حملة لاطلاق سراح الالاف من نزلائها السياسيين، ارتباطا بقرار رئاسي صدر حينها، وفي١٧ و ١٨ من آب اطلق سراحنا وافترقنا، لالتقي الفقيد ولاخر مرة بعد٢١ عاما، في عام٢٠٠٠، في محطة فكتوريا وسط لندن.. هو ! هو ! لم يتغير شيء فيه؛ قامته الفارعة، تواضعه، نبله، صراحته، ذهنه المتوقد وانشداده الى القضايا الوطنية والديمقراطية التي اعطى لها الكثير من سني حياته، وربى عائلته عليها.
كان لقاء طالما تمنيته. عدنا قليلا الى الماضىي، واستذكرنا بعض احداثه وشخوصه، وتحدثنا بأمور كثيرة جلها يتعلق بالوطن وناسه المدوخين بالحروب والحصار وبدكتاتورية قل نظيرها في التاريخ المعاصر.
أبا ليث ستبقى مثلا اعلى في العطاء ونكران الذات في سبيل القيم التقدمية الديمقراطية، سبيل العراق وناسه الفقراء.