فضاءات

صباحات الشورجة تعزف سيمفونية العذاب / فهد الصكر

الأرض تدور مع عرباتهم، وشمس حارقة وبرد موجع يعتصرهم.. يحملون الهموم، ويلبسون باليات عوزهم، ويلهثون نحو فتات الأحلام.. أنهم أثرياء .. عفواً فقراء..".
ثمة بسطاء تجمعوا عند مدخل سوق الشورجة وسط بغداد، السوق المفتوح على نوافذ المتعبين، والأثرياء، من أصحاب المحال الكبيرة التي تتحكم باقتصاد غير منظم.. سوق يؤرشف عربات معبأة بالأنين، ومحال وبسطات غريبة الشكل على جغرافية مكان فوضوي. والصياح وسط عالم يعج بالحاجيات والبضائع، وثمة موسيقى يحتفل فيها المكان وهي عبارة عن أصوات تتعالى، ترسل أشارت نشم من خلالها عبق الحاجة المترعة بوجع (العتالين) وبائعي القوت اليومي. هي نغمة الصراخ لكسب المتبضعين، بعيدا عن المعادلة الطبقية بين الناس، إذ تنقل إلينا هذه الأصوات حاجة لاستمرار الحياة دون أن تلوذ خلف الفقر، وجدران تصرخ بالصمت، عوالم تضج بالوجع بكل ما يجسده المكان. وكأننا نتحاور مع كائنات لا تنتمي لحداثة اقتصادية حقة؛ حين ندرك أن عشوائيات الأسواق تحمل انطباعا عن انهيار اقتصاد وطن يحمل براءة اختراع في وفرته المادية، وموارده المتعددة دون الحاجة الى ذكرها! وبالرغم من مغادرتهم اللوحة ، تتعرض شريحة (الحمالين)، وهم علامة سوق الشورجة الفارقة، لتعامل سيئ من غالب أفراد المجتمع بطبيعة عملهم. لكن لم يستوقفهم ما هو أعمق من المعاناة النفسية. وصار ما يرمز اليهم هو العربة، التي هي رفيقتهم الدائمة ومصدر رزقهم. والعربات نجدها مختلفة من شكل الى آخر بحكم ادائها، وبالنتيجة يجعلني هذا الموضوع أصطف مع المناصرين لهم، والمطالبين من الحكومة بالانتباه إليهم ورعايتهم، حين ندرك أن الكثير من هؤلاء العتالين هم من أصحاب الشهادات الجامعية، ومن الذين لم يجدوا فرصة للتعيين في دوائر الدولة، مع غياب إستراتيجية ممنهجة لاستيعاب جيش "الخريجين" من جامعات العراق، لتحقيق التطور من خلال ما يمتلكون من علم في اختصاصات يحملونها.
سوق الشورجة عالم للسرد الواقعي وقصيدة يبحث عنها كاتب عذّبه وطن "النفط"، وواردات تفوق محنة النفط. ليوصل فكرة تصبح من نسج الخيال حتما! وهنا لم أسجل أي انطباع عن هؤلاء.. والصمت إزاء تساؤلاتي كان هذا السرد. لذا سجلت انطباعي بلغة السرد والحكي كصحفي هاله المشهد الهائل حزنا في ظل انفجار بركاني لميزانية تحتمل رواتب ومخصصات لكل هؤلاء "العتالين". وهذه صرختهم أول أمس حين كنت بينهم في سوق الشورجة، مسلة الوجع اليومي لشباب العراق وهو ينظر الى أفق لا أملَ فيه!
هي صورة نحملها بأمانة الى المسؤولين، عسى أن يحققوا السعادة لهذا الشعب الذي عانى الظلم على مرّ عقود طويلة.