فضاءات

شرائح واسعة من العراقيين تعاني الفقر والبطالة والتشرد

 
قسم التحقيقات
في العراق جوع متوارث، يبث صورا متعددة بالأسود والأبيض. تظهر بجلاء في طور الطفولة أولا أجسادا نحيلة وعليلة "وبالية"، وشعورا مشعثة وجافة، وثيابا رثة وممزقة "لنكة"، ووجوها مصعوقة وأقداما حافية وألعابا بدائية قديمة ثيمتها الطين والحصى والرمل والعظام وأغطية القناني والخرق البالية و.... دمىً مستعملة، أو قل نفايات كنستها الدول الغنية من ربوعها الخضراء لتصلنا، ولله الحمد "بالة/ لنكة" وتتمظهر في نهارات وليالي الحياة العراقية.
في العراق جوع "سبور"، يمضي قدما باضطراد، وأبطاله الكبار، رجالا ونساء، شيبا وشبابا، تراه بإمعان في دشاديشهم وسترهم ومعاطفهم وسراويلهم وقبعاتهم وقماصلهم وجواربهم وأحذيتهم و"نعالاتهم"، وتراه في أعراض أمراضهم ومعاناتهم وكدحهم وصبرهم وتذمرهم.
في العراق جوع حقا حقا، يتصدر حوارات الناس في الشوارع والمقاهي والمدارس والبيوت وداخل سيارات الأجرة وفي الصحف والمجلات ونشرات الأخبار والتقارير وفي الأمثال الشعبية و"السوالف العتيكة" والنكات والطرائف القديمة والمستحدثة، جوع مزمن كأساطير وخرافات موغلة في القدم ، يتناقلها الأجداد إلى الآباء والأمهات، ويرويها الآباء الى الأبناء، ويدسها الأبناء في قلوب الأحفاد، "وعلى هالرنه اطحينك ناعم"!
مهرجان "ما زال ولا يزال"
ما زال بعض العراقيين يشربون ماء الأنهر ويستحمون به ويحملونه بالصفائح الصدئة والبراميل "المزنجرة" ويستخدمونه لأغراض الطهي وغسل أواني المطبخ وغسل ثيابهم ما ظهر منها وما بطن، ولا يزال الكثير من العراقيين يتناولون أقراص الخبز مع الشاي " كوجبة فطور، ومع الخضروات كوجبة غداء، ومع الطماطم كوجبة عشاء – ان صح لهم هذا!
ما زال الكثير من العراقيين يشبعون "أعينهم" بالنظر المقرون بالحسرة إلى الفواكه المستوردة على اختلاف أنواعها وأشكالها، ولا يزال العديد منهم يحدقون في "لشش اللحوم المعلكه من اكراعهه" في محلات القصابة ويحلمون بالتشريب والقوزي والكباب والتكة والمعلاك والشيخ محشي، ثم يعودون كما هو عهدهم دوما الى "الكرشه والمصارين والفشة والعظام المعزولة" على عتبات محال القصابين.
ما زال وما زال الكثير من العراقيين يشمون رائحة السمك المسقوف أو اللابط في مياه عربات بيع الأسماك ثم يعرجون إلى شراء أسماك "الزوري والخشني" ليمنوا أنفسهم برائحة "الزفرة" وليرددوا مثل غيرهم المثل العراقي القديم "مثل السمكة ماكولة مذمومة"!، بل لا يزال من دون شك العديد منهم يطالع الدجاج المشوي والمقلي والمعروض في الأسواق بكل أصناف ماركاته القديمة والجديدة ثم يكتفي بشراء البيض انطلاقا من الأهزوجة العراقية الدارجة "بسمارج منج يا لوحة"!
ما زال العراقيون ينظرون بنصف عين إلى الملابس المستوردة المعروضة في واجهات المحال الزجاجية، والى الأحذية والشحاطات والملابس الداخلية على اختلاف أنواعها ثم يتسللون سرا أو علنا الى أسواق "اللنكة/ الرحمة"!، ليستروا عوراتهم ويدفئوا أجسادهم بملابس البالة الحمراء والصفراء والخضراء والخاكي، ليظهروا وكأنهم في حفلة تنكرية مجانية شعبية، ولا يزال العديد منهم مثابرا ليلا ونهارا على تناول لفات "الفلافل دبل" كغذاء يومي لا سبيل لفراقه، ولا فرج غيره باعتباره المادة الغذائية الوحيدة المتيسرة والغنية بالفيتامينات التي يسمعون عن "أيها وبيها وسيها وديها" ويسخرون منها في نكاتهم اللاذعة.
ما زال الكثير من العراقيين، ويا للأسف ينظرون إلى صورة الدولار من خلال زجاج واجهات محال الصيرفة ويدندنون بهمس:"مخطرتش على بالك يوم تسأل عني"!؟، ولا يزال جميعهم، ويا للأسف يتعاملون بالدنانير والأرباع "المشككة" بعدما "زهكوا" من "فلوس صدام المزورة منها أو الطبع ذات الخط ونخلة وفسفورة".
ما زال العديد من العراقيين يسكنون في بيوت الصفيح والطين والصرائف و"البلوك المسفط" والمباني الحكومية المنهوبة وتحت الجسور وفي مناطق "الشيشان"، ولا يزال الكثير منهم تفتك به أنواع الأمراض المعروفة والغريبة، والمزمنة والطارئة، والمكتشفة أو التي ما زالت في أنابيب المختبرات الطبية.
ما زال العراقي يقف أمام الصحف العراقية المعروضة على الأرصفة كل صباح باحثا عن خبر مزمن وعراقي بامتياز، "زيادة رواتب المتقاعدين، زيادة رواتب المعلمين"، ولكنه لم يعثر يوما على فرص عمل للعاطلين، ولم يحصل يوما إلا على مزيد من البؤس والقهر والحرمان وال....... جوع!
لا يزال، نعم لا يزال وسيبقى العراقي يلعن ذلك اليوم الذي ولد فيه ومعه مهرجان الـ "ما زال ولا يزال"، صفة سترافقه وهو ميت لثلاثين عاما قبل أن يموت ميتة أخرى ليبرهن بيقين على جملة شعرية شعبية عراقية شهيرة:"عمر وتعده التلاثين لا يفلان".
دوام "شبه رسمي"!
بعد دقائق من انتهاء سريان حظر التجوال الليلي في بغداد توقفت حافلة كبيرة عند تقاطع "بغداد الجديدة" في حوالي السادسة والربع صباحا. وبدأ أكثر من خمسة وأربعين راكبا بالنزول من بابيها الأمامي والخلفي ثم سرعان ما انتشروا في الشوارع والأسواق والأحياء السكنية.
كان أغلب الركاب من المسنين والعجزة والمعاقين. وكانوا يرتدون ملابس رثة ويصطحبون صبية وأطفالا رضع، وبدا وكأن كل واحد منهم قد اعتاد منذ سنين على ممارسة هذا الطقس الصباحي المبكر والانتشار في هذه الأمكنة.
وبينما توزع بعضهم على الأرصفة والشوارع الفرعية، هرع آخرون باتجاه السوق الذي كان شبه خال من الباعة والمتسوقين. في حين فضل عدد منهم التوقف قرب المحال التجارية المطلة على الشارع.
وعلى الرغم من أن عددا منهم كان يتعكز في مشيته، إلا انه كان يحث الخطى باتجاه "مقر عمله" وسط زحام السيارات أو في مداخل الكراجات أو قرب الجموع الغفيرة من العمال والموظفين والكسبة المتوجهين الى عملهم.
ويقول جاسم عبد السادة، (عامل مخبز):"مازلت أذكر صبيحة أول يوم عملت فيه في هذا المخبز كلما شاهدتهم." وأضاف "لقد فوجئت بهم. ولكنني عرفت فيما بعد أنهم مجموعة صغيرة من عدة مجاميع من المتسولين تتوجه "مثلنا" في كل صباح الى أماكن عملها التي باتت مقار ثابتة لهم منذ أعوام. فمنهم من "احتل" أبواب الجوامع والحسينيات والكنائس والدوائر الحكومية. ومنهم من يستجدي أصحاب السيارات الفارهة وسائقي سيارات الأجرة والركاب. ومنهم من وجد ضالته في الأسواق والشوارع والأرصفة".
ويؤكد جاسم أن فرق الشحاذين في بغداد باتت كثيرة وتعمل بإمرة "شقاوات" يوفرون لهم السكن والحماية مقابل الاستحواذ على أغلب أموالهم، الأمر الذي يجده جاسم سببا كافيا للامتناع عن تقديم الصدقات لبعضهم. غير أنه ما زال يعتقد أن التسول ظاهرة اجتماعية سيئة يصنعها الفقر وانقطاع صلة الرحم وعدم توفر الرعاية الاجتماعية من قبل الدولة لانتشالهم من هذا العناء والبؤس، خصوصا وأن أغلبهم من كبار السن والعجزة.
الفقر.. الفقر
الشحاذون في العراق كثر. وصور التسول تعددت. منهم من يرتل آيات من المصحف الكريم، ومنهم من يردد أشعارا دينية بصوت عال. وثمة من يزعم أنه بحاجة لشراء أدوية باهظة الثمن لإنقاذ زوجته من الموت. وهناك من يدعي أنه غريب وقد تقطعت به السبل ولا يملك أجرة العودة الى محافظته. أما حين تشتد المواجهات وأعمال العنف في مدينة ما ويضطر سكنتها إلى مغادرتها فسرعان ما يزعم الكثير من المتسولين أنهم من سكنة تلك المدينة وأنهم باتوا بلا مأوى ويعيشون في العراء.
وفي "تقاطع المعسكر" الذي يشهد زحاما خانقا طيلة ساعات النهار، يطوف العديد من المسنين والعجائز والصبية حول العربات المتوقفة ويشرع بعضهم بمسح زجاج النوافذ بيد ويبسط يده الأخرى للاستجداء فيبادر القليل من السائقين بمنحه ورقة نقدية لا تستحق الذكر.
وقرب إحدى نقاط التفتيش أشار سائق الى فتاة شحاذة تستجدي ركاب العربات وقال أنها "ذكر" وليس أنثى ولكنه يرتدي ثوبا نسائيا وحجابا ليحصل على المزيد من عطف الناس وشفقتهم!.
ليس بعيدا عن التسول
في الكثير من أزقة بغداد وشوارعها يتوزع الكثير من الباعة المتجولين لبيع المناديل الورقية الرخيصة وقطع الإسفنج والمهاف والقبعات والحلويات والسكائر. وغالبا ما يلجأ أغلبهم إلى التوسل والإلحاح لدفع الركاب والمارة الى شراء حاجاتهم من باب الإشفاق ليس غير. فبات "المجبر" على الشراء مضطرا إلى شراء أية حاجة ليصرف الباعة عنه ويتخلص من منغصاتهم.
وليس غريبا أن نجد بين الباعة هؤلاء شيخا طاعنا في السن نحيفا ومحني الظهر يعرض علبة علكة رخيصة ويتوسل المارة لشرائها. أو نجد امرأة عجوز بصيرة يقودها صبي أشعث الشعر ويرتدي ملابس رثة، وهي تبيع المشروبات الغازية "وتطالب" الركاب بمساعدتها لإعالة أيتامها.
وليس غريبا أن نشاهد الكثير من الأطفال المتسربين من المدارس وقد تحولوا إلى منظفين وصباغي أحذية وباعة متجولين على الأرصفة وفي الأسواق أو حمالين وأصحاب "جنابر".. وليس غريبا أيضا مشاهدة عائلات عراقية بأكملها تنتشر في الكراجات والشوارع والأرصفة لبيع الشاي والأكلات الخفيفة والمرطبات على مدى ساعات النهار الطويلة.
وبقدر ما ينتج عن الفقر وسوء الأحوال المعيشية من صور البؤس هذه، فأنه يدفع شرائح اجتماعية كثيرة الى الشذوذ والانحراف والتغريب والتهميش. ولطالما لجأ الكثير من الشباب والأطفال إلى بيع المخدرات وحبوب الهلوسة والصور الإباحية.
وكنتيجة طبيعية لأتساع آفة الجوع التي تفتك بملايين العراقيين وسط انتشار أعمال العنف، برزت ظاهرة ما يعرف "بتجارة الدم" وبيع الكلى بين أوساط الشباب المتسكعين في الشوارع والمقاهي والحدائق العامة، وصار لها سماسرتها "وبورصتها".
ويرى "سلوان" وهو شاب عاطل عن العمل ويتعاطى المشروبات الكحولية يوميا أن سوء حالته المعيشية يدفعه إلى التبرع بدمه "لمرتين" في الشهر مقابل ثمن بخس. وذكر أنه يتعامل مع سماسرة الدم بسرية ويبيع لهم قنينة من دمه بسعر يتراوح ما بين 10 إلى 15 دولارا.. ولكنه يعرض "خدماته" أحيانا لذوي المرضى والجرحى علانية ويقايضهم على مبلغ قنينة الدم التي هم بأمس الحاجة إليها ليحصل على 50 ألف دينار أو أكثر حسب متطلبات السوق وتقلباته، خصوصا حين تتزامن الحاجة الى الدم مع تصاعد أعمال العنف والمواجهات المسلحة بين الجيش وبعض المسلحين في المناطق الساخنة. أو وقوع المزيد من حوادث التفجيرات والتي غالبا ما تؤدي إلى وقوع المئات من الجرحى. ويعجز مصرف الدم عن توفير الكميات الكافية من الدم لإنقاذهم.مما يضطر ذويهم إلى اللجوء إلى السوق السوداء وشراء الدم بأسعار باهضة.
أحياء ..لكنهم موتى
ملايين العائلات العراقية المسحوقة تسكن في خرائب وبيوت مشيدة من الطين أو من صفائح "الجينكو" والأخشاب وجذوع الأشجار. وهناك أحياء سكنية منسية مثل حي طارق ـ حي التنك سابقا ـ الذي يأوي مئات الآلاف من الأسر الفقيرة جدا التي تتلقى مساعدات من حين إلى آخر من بعض المنظمات الإنسانية.
وبينما يمتهن غالبية أطفالهم مهنة الدوارة ـ جمع العلب والقناني الفارغة من القمامة وغيرها ـ يتوجه الآباء فجر كل يوم إلى مكان توقف العمال أو ما يعرف "بالمسطر" بانتظار فرصة عمل ليوم واحد وغالبا ما يحصلون عليها بعد أكثر من أسبوع.. في حين تمتهن الكثير من نسائهم صناعة التنانير الطينية أو البيع على الأرصفة والشوارع.
وكم تبدو صورة أحوالهم من داخل تلك المباني بائسة ومزرية.وسط الروائح النتنة وبرك مياه المجاري والأسلاك الكهربائية المبعثرة والمتصلة بأعمدة الكهرباء في الشوارع بطريقة رديئة وخطرة جدا.
ملايين الموتى
بحسب أحدث الإحصائيات الرسمية فأن 35 في المائة من الشعب العراقي وربما أكثر، يعيشون "دون خط الفقر". وبما أن هذا الخط المشؤوم يعني خط الكفاف بين تلبية الحد "الأرحم" من أنسنة البشر من عدمها، فمعنى ذلك أن من يعيش تحت جحيمه هو ميت من دون شك. وبالتالي فثمة أكثر من خمسة ملايين عراقي ميتون ويعيشون بين أوساط الشعب بصفة أحياء!
نصف العاطل
وبحسب بعض المختصين فان نسبة البطالة تتراوح بين 30 و 40 في المئة في أحسن الأحوال. وأن معظم سكان العراق هم من الشباب ( يبلغ العمر الوسطي 13الى 19 سنة ) وتبلغ البطالة في صفوفهم حوالي ضعفي المعدل الإجمالي.
وبالمقارنة مع معدلات البطالة المرتفعة في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا فان العراق يختلف بشكل بارز عن الآخرين حيث يظهر أن الشباب هم الأكثر تعرضا للخطر.
ويبدو أن أكثر من 5 في المائة من الشباب العاطلين يعتاشون على عمليات البيع والشراء مستغلين ما يعرف "بالبسطات والجنابر والقمريات" في الشوارع والأرصفة لممارسة أعمالهم، لأنها لا تحتاج إلى إيجار ولا إلى مكان واسع، فضلا عن سهولة إدارتها وإمكانية نقلها أو التخلي عنها.
ويشكو باعة الأرصفة من الحملات التي شرعت أمانة بغداد بتنظيمها بشكل يومي تقريبا لغرض إزالة "التجاوزات"، مما دفع العديد من هؤلاء الباعة "العاطلين" إلى التنقل من رصيف إلى آخر أو دفع رشاوى أو التوسط لغض النظر عنهم.
ويقول "حيدر"، بائع في ساحة الطيران في قلب مدينة بغداد: إن الذين يريدون "قطع رزقي" عليهم أولا أن يوفروا لي فرصة عمل واحدة..
ويشاطر حيدر زميل آخر له ادعى انه خريج معهد النفط ويعمل بائعا منذ عدة أعوام. قال إن وصف عمله وعمل زملائه بالتجاوزات هو ليس صحيحا، طالما أن نصف الشعب العراقي عاطل عن العمل وربعه يعيش تحت خط الصفر!
وبحسب دراسة مهمة أعدها لفيف من الاختصاصين والباحثين العراقيين فان مشكلة البطالة تنتج عن جملة من الأسباب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والنفسية، وهي تفاقم نسبة الفقر وتدفع باتجاه ارتفاع معدلات الجريمة التي تتفاعل مع الإرهاب على حد وصف الدراسة.
وتفيد الدراسة ان الفقر والبطالة دفع بالكثير من الشباب الى الهجرة منذ تحول الاقتصاد العراقي الى اقتصاد حرب في مطلع ثمانينيات القرن الماضي.
وعزت أسباب هذا الانحدار إلى ضمور حجم القاعدة الإنتاجية وضآلة أعداد وأحجام المشاريع الاقتصادية وغياب التخطيط الاقتصادي المنهجي وعدم انسجام العامل الديمغرافي مع الاقتصاد وانعدام فرص العمل إضافة الى هيمنة القطاع الحكومي على النشاط الاقتصادي وجعل القطاع الخاص تابعا له وتدهور البنية التحتية للاقتصاد.
لا خيار سوى اللنكه
أسواق البالات في العراق تنتعش مع انتعاش الفساد المالي والإداري، ومع انتشار الرشا والمحسوبية والصفقات والشركات الوهمية وكثرة "الحرامية" الكبار والمليارات التي ضاعت والمليارات التي ستضيع والشهادات المزورة والتعيينات "ابكم ورقة كاش"، "وضاع أبتر بين البتران".
أسواق اللنكة تتكاثر وتتسع، وروادها "خير من الله" بسبب تزايد الفقر وارتفاع المدفونين تحت خطه الأسود، وازدياد جحافل العاطلين عن العمل في ظل ارتفاع الأسعار واتساع الهوة بين "الحرامية والفكور"، وإلا لماذا يشتري العراقي لأولاده وبناته ملابس العيد وملابس بدء العام الدراسي من اللنكة!؟، ولماذا يعود الى اللنكة التي هجرها بعد سقوط النظام السابق وعهده التسعيني الحصاري الأجرب لو لم تهبط القدرة الشرائية إلى الحضيض!؟، بعدما انتعشت/ تنفست الحالة الاقتصادية للموظف بعد عام 2003 نتيجة التحسن الذي طرأ على المرتبات وافتتاح السوق العالمية أمام التجار. لكن الأمر لم يدم طويلا بسبب ارتفاع أسعار السوق المحلية من دون حدوث تحسن مؤثر في راتب الموظف إلا بنسبة قليلة، لا تتناسب مع الارتفاع الجنوني في أسعار السوق وجشع التجار، إضافة إلى تعثر مفردات البطاقة التموينية ذات المنشأ الرديء للغاية!
الحل إذن يبقى في اللنكة، وهو خيار شريحة واسعة من العراقيين من متوسطي وضعيفي الدخل والمسحوقين ومنهم تحت خط الفقر في مختلف مدن العراق، الذين يتوجهون إلى أسواق البالة لتأمين حاجاتهم وحاجات أطفالهم.
ولا ننسى انه بعد التاسع من نيسان عام 2003 غزت العراق السيارات المستعملة أو ما يعرف بالمانيفست، وأصبح سوق العراق، "سوق اللنكة" مشهورا بإيواء هذه النفايات، التي باتت مصدرا من مصادر التلوث البيئي.
دوارة.. مسطر
العديد من أطفال العراق يمتهن مهنة "الدوارة"، بينما يتوجه آباؤهم في فجر كل يوم إلى "المسطر" في انتظار فرصة عمل ليوم واحد وغالبا ما يحصلون عليها بعد ايام..
في حين تبدو صورة أحوالهم من داخل بيوتهم البائسة مزرية حقا، وسط الروائح الكريهة وبرك مياه المجاري والنفايات.
الملفت للنظر حقا خروج طالبة جامعية من داخل تلك "القمامة" لتتوجه إلى دوامها في إحدى الجامعات العراقية!
جوع.. جوع
يقول المواطن حامد (كاسب): "مأساتنا كبيرة، وهي حالة مستمرة معنا طوال الحياة، حيث عاش أهلنا في فقر كبير، ونحن ورثناه منهم، وهذا ليس ذنبهم ولا ذنبنا، ولكن واقع الحال فرضه علينا، فصعوبة الحصول على أي عمل مع وجود وجود بطالة غير طبيعية، لم يسعفنا على الخروج من حالة الفقر التي نعيشها بشكل يومي، لان هناك يوماً نعمل فيه ونحصل على بعض المال لنشتري طعام أسرتنا وهناك أيام كثيرة، لا نستطيع ان نجد عملا فيها، فنقوم بصرف كل ما حصلنا عليه، وربما يصل الامر الى شراء الطعام من المحال على شكل ديون، ومن ثم تسديدها شيئاً فشيئاً. وفي بعض الاحيان يمرض أحد أفراد أسرتي فلا أستطيع أن أعرضه على أحد الاطباء نتيجة ضعف حالتي المادية، فأقوم بشراء علاجه من الصيدليات وحسب إمكانيتي المتوفرة".
الجوع والمدرسة
أما المواطنة أم جاسم، (ربة بيت) فقالت:" نحن لا نملك شيئاً لأنفسنا ولا لأطفالنا، وما يحصل عليه زوجي من عمله لا نستطيع توفير شيء منه للحالات الطارئة، وهذا حالنا الذي اسهم في لجوئنا الى السكن في مناطق عشوائية. أولادنا يعانون المرض والجهل والامية، عندما تركوا المدارس وعملوا وهم صغار في الاسواق من أجل بيع كل ما يستطيعون حمله للناس، لتأمين لقمة العيش مع ما يحصل عليه زوجي لنا ولأخوتهم الصغار، وهذه الامور لا تجعلنا نفكر بمواضيع توفير المستلزمات الضرورية لدخولهم الى المدرسة، لانهم اذا توقفوا عن عملهم ليوم واحد من دون الحصول على بعض المال للطعام والشراب ، ربما تتعرض الاسرة الى مشكلات كبيرة.
بينما يقول المواطن رائد (عامل بناء):" الاهمال والتهميش وعدم الالتفات الى هؤلاء الفقراء الذين طالما كانوا يشكون حالهم عبر وسائل الاعلام المرئية والمقروءة والمسموعة، اسهم في تفاقم أوضاعهم وحولها الى أوضاع مأساوية جداً، ولهذا فان الفقراء كانوا دائماً وابداً هم الضحية الاولى في الاهمال".
وترى بتول، (طالبة جامعية): "إن الفقراء في المجتمع أصبحوا يشكلون نسبة عالية من مجموع السكان، وهذا ما أشاهده عند ذهابي الى الكلية، متمثلاً بأعداد المتسولين، والباعة الصغار قرب إشارات المرور والسيطرات، وتفشي حالة باعة البسطيات، وغيرهم من الباعة الصغار والكبار في الاسواق، لذلك يجب على جميع الجهات الحكومية العمل على التخفيف من حدة الفقر الذي اجتاح الناس".
واقترح سلمان محمد، (موظف) اقامة معمل أو مصنع في كل منطقة تعاني الفقر، لان إنشاءه في تلك المناطق، سوف يؤدي الى تشغيل جميع الايدي العاملة من أبنائها. فالعمل كما هو معروف لدى الجميع يخفف من مستويات الفقر، ويحسن من مدخولات الناس المادية والتي من خلالها يستطيعون تحقيق طموحاتهم وطموحات أبنائهم.