فضاءات

الى حقي إسماعيل : أربعون عاما على لقاء لم يتم / إبراهيم إسماعيل

لم اعد أذكر تفاصيل لقاءاتنا الأولى قبل أربعين عاما، فكل ما بقّي في الروح والذاكرة، وجهك الذي تميزته رغم الزحام، لما أبصرت فيه من أمل يروض الخراب ويقهره، يوقد في إبتسامته التي لا تنطفي شمعة للرفقة الصادقة .. في الطريق الى "كاني ماسي" لنطبق قانون رقم 90 للأصلاح الزراعي في كردستان، كنا ندرك بأن ذلك كان حقاً أريد به باطلا، فلم يك ممكنا أن يستكين الفلاحون المعدمون للقهر القومي، أو يستبدلوا كرامتهم بالأرض رغم أحقيتهم بها.. كانت حواراتنا مفعمة بالصدق، دون أن ندري ما إذا كانت حقيقة أم سفسطة، هل ندري الأن يا حقي؟ كنا نثرثر طوال الليل عن القهر القومي والطبقي، وعن أيهما أجدى أن يزول قبل صاحبه، عن الكادحين وكيف علينا أن نصّنفهم في قوالب طبقية تناسب ما نقرأه في الكراريس، عن فرسان الأمل يجوبون طرقات العالم حاملين البشارة، والشرارة التي يندلع منها الصباح، عن "سمير الأذى والظلام الرهيب" الذي لم يخل بعده الحي من سامر.. ولم يكن القلب ليتسع لهذه الحماسة فقط، بل وكان فيه لعشق الحبيبة، للموسيقى وأغان فيروز، للقصائد والأناشيد متسع! ولم تمض أشهر حتى جائتك الحبيبة، التي صدقت ما وعدتك به، بـ "علا"، الحمامة التي منحت أغانينا عن الطفولة حياة وجمالا!
هل تذكر ياحقي كيف كنا نطوف شوارع بغداد طوال النهار، وفي الليل تشعلنا أغان فائقة العذوبة، أكانت كذلك حقاً؟ كانت الموسيقى منتبذنا الأثير.. هل عرف الجلادون بأن أصابعك تجيد العزف ولهذا قطّعوها، هل منحتك الموسيقى في ألأقبية أيضاً ألق تحدي الجلاد؟ أكانت نبؤة مبكرة عشقك لفكتور جارا، ما غناه وما غنيناه عنه؟
كنا نهز عروش اليقين، نحلق في الضلال بعيدا عن المسّلمات، نشهر الأسئلة عن الأداة الأجدى بصيانة الفكرة، ونصنع من زهر أحلامنا وطنا يقينا من الضياع، نايّا يحملنا على غيوم شجنه لزنابق الهدأة!
لم نكن لوحدنا.. أصحابنا كانوا هناك.. حشد من الفتية العشاق.. إيقونات تشدو للجمال فيستضيء بها العراق ظلا ونخيلا وتستضيء به .. أصحابنا الأجملون، أين هم الأن يا حقي؟ إشتعلت رؤوسهم شيبا وإحدودبت قاماتهم مذ أقفرت البلاد وجف العشب وإحتبست في الصدور الأغاني!
وحدك بقيت فتىً لا يشيخ!
ليس لك في الوطن قبر.. لإنك تعتلي اليوم منصة ساحة التحرير..
اصابعك التي قطّعها البعثيون ترتفع اليوم في سماء التظاهرات لتشير " من ها هنا سنسير"!
دماؤك التي لم تجف عن نصل القاتل، صارت اليوم لوحاً من بلور ينير في العتمة فيبصرنا السبيل!
حقي!
ياسمير ليالي المحن، يا أول من أيقظ في قلبي الفرح، يا رفيقي المقيم في الروح
أبق معي في شيخوختي،
لأبقى أوقد شموع الفرح، وليبقى الأفق زاهيا بفكرة دائمة الخضرة!