فضاءات

ممارسات مجرمي شباط الأسود بحق الآثاريين العراقيين

حامد الحيدر
أن الواقع الأليم الذي يعيش تفاصيله اليوم عراقنا العظيم للأسف.. بلد ممزق بحراب الطائفية البغيضة.. ثلث أراضيه تحت سيطرة الارهاب.. شعبه جائع مشرذم.. انهيار كامل في بُناه الرسمية والاجتماعية.. آفة الفساد ناخرة مؤسساته حتى النخاع.. ملايين العاطلين والنازحين والمُهجّرين، ومثلهم هاجر الى بقاع أخرى من هذا العالم بحثاً عن أمان وحياة كريمة.... كل تلك النتائج المأساوية تشير بوضح كبير الى حجم المؤامرة الدنيئة التي تعرض لها وطننا ومدى وساختها التي ابتدأت في يوم 8 شباط الاسود عام 1963 ليكون ذلك الانقلاب المرحلة الاولى منها وساعة الصفر في تنفيذها، بعد أن حيكت تفاصيلها الخبيثة بدقة في الاقبية السوداء لدوائر الامبريالية العالمية، كردة فعل مسعورة لانتصار الشعب الباهر في ثورته الخالدة صبيحة يوم 14 تموز عام 1958، عندما خطا شعبنا أولى خطواته على طريق التحرر الكامل من التبعية الاستعمارية.
وقد ترجمت الدوائر الامبريالية مدى الحقد والكره الاعمى الذي تكنه لجماهير شعبنا وقواه الوطنية وفي مقدمتها الحزب الشيوعي، بشكل غاية في الشراسة والبشاعة والوحشية في ذلك اليوم المشؤوم من أيام شهر شباط، من قتل وتنكيل وتعذيب.. لتطول تلك الهجمة البربرية بممارساتها الشوفينية جميع شرائح الشعب التواقة للحرية والانعتاق.. ولعل أبلغ وصف لتلك الجرائم ما قاله الشاعر محمد صالح بحر العلوم في تلك الايام.. (جرائمٌ يشيبُ الوليدُ لهولها .. فشكراً لهولاكو فهو أرحمُ).
ومن بين أولئك الذين طالتهم أيدي عصابات شباط الاسود، شريحة رائعة من مثقفي الوطن، ألا وهم الآثاريون العراقيون.. تلك الفئة النبيلة التي آثرت على نفسها أن تعمل بصمت ونكران ذات قلّ نظيره، من أجل اظهار تاريخ وطننا العزيز وابراز الوجه الحضاري المشرق له.. حيث أغاض اخلاص ووطنية وعلمية ومهنية الآثاريين ونزاهتهم في عملهم مجرمي شباط، أذ اعتبروا تلك الصفات من الكبائر التي تستحق عليها أقسى أنواع القصاص من وجهة نظرهم المريضة الحاقدة، حتى وإن لم يكن لديهم أي انتماء أو توجه سياسي معين... وفيما يلي أمثلة من تلك الممارسات الجائرة مع شخوصها..
العلامة الراحل الأستاذ طه باقر 1912_1984 :
تولى علامتنا الراحل الأستاذ طه باقر منصب مدير الآثار العام في أواخر عام 1958 بأمر من الزعيم الشهيد عبد الكريم قاسم، وكان لذلك التعيين مفارقة سيأتي ذكرها لاحقاً، كما أمر بتعيينه معاوناً لرئيس جامعة بغداد عند تأسيسها في عام 1959 لكفاءته العلمية الفريدة ونزاهته.. لذلك فقد أصبح محط أنظار أعداء الثورة منذ توليه المنصبين ، منتهزين الفرصة المواتية للقصاص منه.. وعند حدوث الانقلاب المشؤوم كان الاستاذ طه باقر في زيارة لمحافظة نينوى للاطلاع على اعمال الصيانة التي كانت تجرى في مدينة الحضر التاريخية.. استدعيّ على اثرها بشكل سريع الى بغداد للتحقيق معه.. وبمنتهى الشجاعة ذهب الى هناك للدفاع عن نفسه، رغم خبرته بطبيعة المتآمرين وبشاعة أساليبهم.. وقد لاقى خلال التحقيق الصوري ثم المحاكمة المزيفة شتى أنواع التعذيب والاهانات وصلت الى الضرب على رأسه بأعقاب الاحذية.. مُتهمين إياه بتهم فارغة وافتراءات باطلة، من بينها، أنه خلال فترة توليه منصب أدارة الآثار أهتم بالآثار القديمة دون العربية والاسلامية، كما أنه من موقعه العلمي الآخر كمعاون لرئيس جامعة بغداد عزف عن تطوير الدراسات الاسلامية وبحوث التراث العربي.. وقد استدعي الدكتور عبد العزيز الدوري الذي أصبح رئيساً لجامعة بغداد بعد الانقلاب إثر إقالة رئيسها الدكتور عبد الجبار عبد الله، للتحقق من مدى صحة أقوال الأستاذ طه باقر.. ولم يكن حينها أمام الدكتور الدوري سوى تفنيد تلك التهم، حيث أن الاعمال الاثارية التي نفذتها مديرية الأثار خلال فترة أدارة الأستاذ طه باقر في الجانب العربي والاسلامي قد فاقت بكثير ما يخص جانب التاريخ القديم، وكان أوضح مثال على ذلك ترميم المدرسة المستنصرية في بغداد.. وبعد تلك المحاكمة المهزلة صدر أمر كان قد أعد سلفاً بفصله من مناصبه الوظيفية، وتجريده من درجاته العلمية، وتعيين أكرم شكري المحسوب على القوميين في منصب مدير الآثار العام خلفاً له، مما أضطره ونتيجة للتهديدات المتكررة التي تعرض لها الى مغادرة العراق الى ليبيا والعمل هناك في مصلحة الآثار الليبية حتى عام 1970.. وقد كانت الجلطات وحالات النزيف الدماغي التي تسببت في رحيل علامتنا الكبير عام 1984 كلها بسبب تأثير التعذيب الوحشي الذي كان قد تعرض له في تلك الأيام السوداء.
العلامة الراحل الأستاذ فؤاد سفر 1913_1978 :
بعد انتصار ثورة 14 تموز عام 1958، تمت احالة مدير الآثار العام الدكتور ناجي الأصيل الى التقاعد، ليصدر الزعيم عبد الكريم قاسم أمراً بتعيين العلامة الأستاذ فؤاد سفر مديراً عاماً للآثار العراقية، وكان هناك قصد لدى الزعيم من هذا التعيين، فبالإضافة الى مكانة الأستاذ سفر العلمية ومقدرته وكفاءته الادارية، ألا ان الزعيم أراد شخصاً غير مسلم (الاستاذ فؤاد سفر مسيحي الديانة) لتولي منصب أداري مرموق في كيان الجمهورية الوليدة ليعطي صورة رائعة عن ابتعاد ثورة تموز عن كل أشكال ومفاهيم التعصب الديني والقومي والمذهبي (وهذا ما توضح أكثر عندما تم تعيين الدكتور عبد الجبار عبد الله رئيساً لجامعة بغداد)... إلا أن الزعيم تعرض جراء ذلك التعيين الى معارضة شرسة من قبل الطائفيين والمتعصبين المزروعين في جسد الدولة العراقية من مخلفات النظام الملكي البائد، مما اضطر الزعيم بعد عدة أشهر ولعدم رغبته في التصادم مع تلك الجهات ولأن الثورة مازالت في بدايتها، الى إبدال الاستاذ فؤاد سفر بالأستاذ طه باقر.. لكنه عاد فعينه بمنصب مهم آخر في أواسط عام 1959، ألا وهو مفتش التنقيبات العام (درجة مدير عام) ليكون مشرفاً ومتابعاً لجميع الأعمال الآثارية الحقلية في عموم العراق.. كل ذلك جعل الاستاذ فؤاد سفر في نظر عصابات الانقلاب (مداناً) من الالف الى الياء.. لذلك تعرض بعد الانقلاب مباشرة الى تحقيق جائر واحتجاز لعدة أشهر في أقبية مجرمي الانقلاب، ليصدر بعدها أمراً بتجريده من جميع مناصبه ودرجاته العلمية كحال زميله الاستاذ طه باقر.. ليغدوا مجرد موظف عادي ممنوع من أن تناط به أية مسؤولية.. واستمر في ذلك حتى عام 1973 عندما عيّن مرة أخرى مفتشاً عاماً للآثار خلفاً للعالم الراحل محمد علي مصطفى، لحاجة سلطة البعث آنذاك اليه في مشروع إعادة إعمار مدينة بابل التاريخية... ولعدم قناعته بتنفيذ تلك المهمة فقد تصادم مع أزلام النظام المقبور، مما أدى في النهاية الى تصفيته في حادث سير مُفبرك على طريق بغداد المقدادية عام 1978.
العالم الراحل محمد علي مصطفى 1911_1997 :
يعتبر العالم الراحل محمد علي مصطفى أقدم الآثاريين العراقيين وأجّلهم سمعة بين الاوساط الاثارية العالمية.. حتى عرف ب(شيخ الآثاريين)، ومازالت بحوثه الرصينة ونتائج أعماله الآثارية تُدرّس في أرقى الجامعات العالمية... بسبب خلفيته القومية (حيث أنه كان من القومية الشركسية) أتهمته سلطة الانقلاب الأسود بتهمة غريبة إلا وهي كرهه للعرب والتآمر على القومية العربية ومحاولته تزوير التاريخ عند أجرائه التنقيبات الأثرية في مدن واسط وسامراء والكوفة الاثرية.. وقد لاقى شتى أنواع التعذيب الجسدي والنفسي خلال التحقيقات التعسفية معه.. لينتهي به الحال مثل زميله الأستاذ فؤاد سفر مجرد موظف بسيط بعد أن سُحبت جميع مهامه وصلاحياته الوظيفية ولمدة قاربت العامين، وعند تولي الدكتور فيصل الوائلي مسؤولية إدارة الآثار العراقية وللحاجة الماسة لخبرته آنذاك، تم تعينه مفتشاً عاماً للتنقيبات.. وقد كانت مدة توليه هذا المنصب من أسوأ سنوات عمله (حسب ما قاله هو شخصياً لأحد المقربين منه)، بسبب المراقبة المتواصلة لتحركاته خلال العمل وحياته الخاصة مطلقين بحقه شتى التهم والاشاعات التي لا تليق بمكانته العلمية رغم كل الانجازات العلمية الكبيرة التي حققها خلال مدة توليه هذا المنصب.. لينتهي مشواره الوظيفي بإجباره على التقاعد عام 1973.. وقد وصل الحال بسلطة البعث المقبور خلال عقد السبعينات إلى درجة منعه من دخول مؤسسة الأثار العراقية وهو الذي كان يوماً أحد مؤسسيها وأعمدتها الرصينة.. وكذلك سحب جميع مسودات كتبه ومؤلفاته التي كانت معدة للطبع من النشر.. وهي مازالت كذلك حتى اليوم.
الأستاذ الراحل رضا جواد الهاشمي 1935_1991 :
آثاري قدير واسع العلم والمعرفة وأحد أستاذة قسم الأثار في جامعة بغداد.. بعد تأسيس جامعة بغداد عام 1959 وفتح باب الدراسات العليا في علم الآثار (درجة الماجستير) لأول مرة في العراق، تم ترشيحه لهذه الدراسة ليكون أول طالب عراقي ينال هذه الدرجة.. وكان مقرراً أن تتم مناقشة أطروحته التي كتبت باللغة الانكًليزية وأشرف عليها أحد علماء الأثار من جيكوسلوفاكيا آنذاك في ربيع عام 1963.. أوقفت المناقشة على الفور أثر الانقلاب، وتعطل معها أحد المشاريع الذي تود جامعة بغداد أن تفخر به، وتم استدعاء صاحبها الأستاذ الهاشمي للتحقيق، ليتعرض خلالها الى ممارسات غاية في الوحشية والهمجية، بسبب جنسية الأستاذ المشرف على الرسالة ولغة كتابتها.. وقد استمر الايقاف لأكثر من عام ونصف، عندما أصدر رئيس الجامعة الدكتور عبد العزيز الدوري موافقته على مناقشة الرسالة (بعد التأكد من خلوها من الأفكار الشعوبية الهدامة)... ليحصل بعدها الأستاذ رضا الهاشمي على درجة الماجستير في الآثار القديمة خريف عام 1964.. وكانت أطروحته تلك أحدى أروع الاطاريح المقدمة في تاريخ قسم الآثار.. لكن وفي الوقت نفسه، مُنع الأستاذ الراحل رضا جواد الهاشمي من السفر طيلة السنوات التالية الى خارج العراق لإكمال دراسة الدكتوراه.
الآثاري الراحل الأستاذ حازم محمد النجفي 1936_2012 :
أحد الآثاريين الرائعين الذي ترك بصمة واضحة في مؤسسة الآثار العراقية لما قدمه طيلة خدمته في تلك المؤسسة من أعمال آثارية كبيرة واسهامات عديدة في أعمال الصيانة الأثرية خصوصاً في مدينة الحضر التاريخية.. كما كان تلميذاً نجيباً ومقرباً من علماء الآثار طه باقر وفؤاد سفر ومحمد علي مصطفى.. بعد عدة سنوات من عمله في مديرية الآثار العامة أثبت كفاءة ومقدرة عالية في عمله، اضافة إلى تفوقه العلمي حيث أنه كان الأول على دفعته من خريجي قسم الأثار في جامعة بغداد عام 1958، لذلك تقرر إرساله في بعثة دراسة في صيف عام 1963 الى جامعة لندن لنيل درجتي الماجستير والدكتوراه في الدراسة الآرامية، لافتقار العراق لهذا التخصص المهم من البحوث الآثارية.... وعند حدوث الانقلاب الغادر اعتقل مع باقي العناصر اليسارية من مدينة الموصل ليبقى في معتقلات ودهاليز البعث المقبور عدة أشهر نال ما ناله أحرار الوطن وشرفاؤه من بطش وتعذيب بسبب ترشيحه لتلك البعثة دون طلبة أخرين من البعثيين وذوي التوجه القومي. وقد تم الغاء البعثة ومنعه من السفر لسنوات عديدة تلت، لعدم تمكينه من اكمال دراسته العليا خارج العراق حتى وأن كان على حسابه الخاص، كما منع من مواصلة الدراسة حتى في جامعة بغداد بعد فتح هذا التخصص فيها (كما حدث مع الأستاذ رضا الهاشمي).
أضافة لما تقدم من أمثلة فقد طالت الممارسات القمعية لمجرمي الانقلاب الأسود وأقزام البعث متمثلة بحرسه القومي الفاشي العديد من طلبة قسم الأثار في جامعة بغداد خصوصاً الشيوعيين منهم، بين قتل وتعذيب ومطاردات وفصل من الدراسة.. ومن بين أولئك الطلبة الذين تعرضوا لتلك الانتهاكات الأستاذ الراحل الدكتور وليد الجادر 1942_ 1994 (شقيق الفنان الكبير خالد الجادر)، والآثاري الراحل الأستاذ برهان شاكر سليمان 1946_2013.
مجداً وخلوداً لشهداء ومناضلي وعلماء عراقنا العظيم، والخزي والعار لمجرمي شباط الأسود.