فضاءات

خالد القشطيني في المقهى الثقافي .. يعيد لخمسينيات العراق بريقها المنسي / عبد جعفر

احتفى زبائن المقهى الثقافي العراقي في لندن يوم 26-5-13 بالكاتب والفنان خالد القشطيني، وذلك في أمسية عن (الحنين الى الخمسينيات .. حديث الأزدهار الفكري والفني).
وفي تقديمه رحب الفنان فيصل لعيبي بالمحاضر واشار الى اهمية الموضوع المطروح ، واكد ان القشطيني ولد في الكرخ من بغداد عام1929 ،وتخرج من كلية الحقوق عام 1953 ومن معهد الفنون الجميلة عام 1952
درس الرسم والتصميم المسرحي في بريطانيا وبعد عودته عمل في التدريس ، ثم غادر العراق ثانية للعمل في الاذاعة البريطانية من 1959-1964، وبعدها تفرغ للكتابة والبحث.
له العديد من الابحاث والاعمال القصصية والروائية المسرحية، بالاضافة الى انتاجه التشكيلي.وعرف بعموده الساخرفي صحيفة الشرق الاوسط وكتاباته الساخرة الاخرى.
وفي محاضرته اكد القشطيني انه حيثما يذهب يسأل عن خمسينيات العراق. حتى شبيبة الجيل الحاضر يرددون السؤال نفسه. قد يخطر للذهن ان فترة الخمسينيات تبدأ بعام 1950 و تنتهي بعام 1960. و لكن هذا غلط . انه تحديد رقمي لا غير. الخمسينيات بدأت بالوثبة وانتهت بالنكبة.
ونقصد بذلك وثبة كانون ضد معاهدة بورتسموث 1948 والنكبة هي الانقلاب البعثي 1963. واستطيع ان احدد حتى اليوم بالدقيقة التي بدأت بها الخمسينيات ومكان بدئها. جرى ذلك في جامع الحيدرخانة عندما القى الجواهري قصيدته، اتعلم ام انت لا تعلم. واعتز بأنني كنت ممن حظي وشهد تلك المناسبة. اعطت هذه القصيدة نقلة في دنيا الشعر. كنا نعتبر الرصافي والزهاوي سادة الشعر العراقي. و لكن هذه القصيدة نقلت الامارة للجواهري.
يحفظ معظمنا اجزاء منها. ولكنني الفت النظر الى التسبيحة الصوفية التي تضمنتها عندما رسم الشاعر مستقبل العراق في مخاطبة اخيه الفقيد جعفر .
و في غربة المثقفين التقدميين، نقلوا معهم في المنفى روح الخمسينيات. فجاد الجواهري بقصائد الغربة التي تجسمت بالحنين لبغداد الخمسينيات
ومنها قصيدة (يا دجلة الخير).
واشار الى انه سرعان ما تلى الجواهري شلة من قادة الشعر العراقي امثال بدر شاكر السياب و نازك الملائكة اللذين تعزى اليهما ثورة الشعر العربي الحداثي. تلاهما شعراء آخرون من ذات المدرسة ، امثال عبد الوهاب البياتي ومظفر النواب وصلاح نيازي وزاهد محمد وغيرهم.
كما جرت نفس الروح التجديدية المتطورة في سائر ميادين الفكر والفن العراقي خلال هذه الفترة، اذ ظهر في عالم القصة غائب طعمة فرمان و فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وسميرة المانع. وفي دنيا المسرح لمع نجم يوسف العاني و شلة من المخرجين والممثلين التقدميين ، امثال جعفر السعدي، وبدري حسون فريد، وسامي عبد الحميد وصلاح القصب.
وعلى صعيد اخر تألفت عدة فرق نالت شعبية واسعة، كفرقة المسرح الحديث والفرقة الشعبية. وفي عالم الفنون التشكيلية، ترك فائق حسن اسلوبه الاكاديمي و البورتريتات الارستقراطية وتبنى الاساليب الحديثة ، وعلى رأسها الانطباعية و راح يختار مواضيع شعبية ، كالفلاح الكردي والقرى الفلاحية والخيول العربية و غيرها. وسار على هذا المنوال جواد سليم الذي ترك لنا في الخمسينيات ذلك النصب الخالد في ساحة التحرير. وتدفقت الاعمال الحداثية من عدد غفير من الفنانين. وشاءت الاقدار ان يتولى ادارة معهد الفنون الجميلة الشريف محي الدين حيدر الذي كان مجددا لفن العود وتأثر به الموسيقيون من امثال سلمان شكر ومنير بشير ووديع خندة، حتى اصبح العراق يقود ثورة في دنيا الموسيقى العربية.
واشار الى ان من ميزة فترة الخمسينيات ، هي الروح الثورية والتقدمية و الشعبية التي سرت في كل الميادين، أذ حصل اهتمام كبير بالفولكلور العراقي فالشاعر مظفر النواب نظم شعره بلغة الفلاحين في الجنوب. واهتم الادباء جميعا بالمواضيع الاجتماعية ومعاناة المستضعفين وهاجموا السلطة والمصطفين معها.
الميزة الاخرى، هي الاهتمام بالتراث البابلي القديم. تصادف ذلك مع نشر الآثاري فؤاد سفر اكتشافاته الاثرية، ثم ترجمت في الخمسينيات ملحمة كلكامش و شاع امرها بين المثقفين. واكتشف ان جل ما جاء في التوراة، اخذ من تراث سومر و بابل. و سعى خالد الرحال الى انتاج اعمال نحتية من وحي الفن الآشوري و البابلي. و كان الكاتب علي الشوك واحد من الذين كرس اهتمامه لهذا التراث. وعلى الطرف الآخر شاعت الاستعارات من المثولوجيا الاغريقية.
واضاف لم يكن للمرأة دور في الحياة الفكرية حتى الخمسينيات. حتى اقتحمت المرأة كل الميادين وبرزت نازك الملائكة ولميعة عباس عمارة وعاتكة الخزرجي في الشعر، ونزيهة سليم و نزيهة رشيد ودلال المفتي في الفنون التشكيلية ، وناهدة الرماح و زينب في المسرح، وأخريات في الموسيقى والغناء، وشاع السفور والرقص والاختلاط بين الجنسين، فلأول نرى فتيات وفتيان يجلسون في مقاهي شارع ابي نوأس. كما تولت لاول مرة امرأة ، وهي نزيهة الدليمي منصبا وزاريا.
وقال القشطيني: اود ان اشير الى بعض المفارقات، فمثلا ان اكثر عروض الفرق المسرحية كانت تقتصر على عرض مسرحية يوليوس قيصر، لانها ليس فيها دور نسائي، لكن اشتراك النساء في الاعمال المسرحية بفضل هذا المد التقدمي ساعد على تغيير طبيعة العروض.
كما ان الطالبات كن يحتفلن بالسفور بالزغاريد لكل محاولة من طالبة تنزع العباءة.
ولعبت دار المعلمين العليا ومعهد الفنون الجميلة والمعهد البريطاني دورا كبيرا في هذا التحول. فهناك تم الاطلاع على روائع الأدب الانكليزي والفنون الغربية و تأثر بها الكثير.
واكد القشطيني ربما تتساءلون ماذا كان دوري في هذه المرحلة؟ الواقع انني قضيت معظمها ادرس في لندن. و لكنني ما عدت للعراق في 1957 حتى شرعت بالمساهمة، فتوليت سكرتارية الفرقة الشعبية التي مثلت لي مسرحيتي " تحت ظلال البطالة". و نشرت ترجمتي لكتاب " الماركسية و الشعر" مع مقدمة خاصة بالطبعة العربية للمؤلف جورج تومسن. و أثر بي هذا الكتاب تأثيرا عميقا جعلني انظر لشتى الاعمال الادبية و الفنية من الزاوية الديالتيكية. ونشرت مجلة الآداب لي سلسلة من المقالات الادبية الاجتماعية.
وتـاثرت بالوسط الثقافي التقدمي انذاك ، في توسيع معارفي وخصوصا في تذوق ومعرفة الموسيقى الكلاسكية.
وتساءل القشطيني كيف جرت هذه الثورة الفكرية التي شع نورها في سائر العالم العربي حتى اصبحت بغداد كعبة للمثقفين العرب؟ ويرى ان هذه الثورة الفكرية صبت في الاخير ومهدت للثورة السياسية لعام 1958.
واضاف نشرت قبل سنوات مقالة في طريق الشعب اكدت فيها ان كل ما في هذه الثورة الفكرية يعود للجناح اليساري الذي تولى قيادته الحزب الشيوعي. فالروح الاممية والعلمانية والعلمية لهذه الحركة هي التي اخرجت المثقفين من دنيا السلفيات والرجعيات والقوميات وفتحت امامهم آفاق الحضارة العالمية المعاصرة، اذ أخذ الاديب والفنان العراقي يشعر بأنه اقرب لبيكاسو و مكسيم غوركي و تشيخوف منه للمتنبي او الغزالي او الفارابي. وقد تولت اللجنة الثقافية للحزب الشيوعي العراقي هذه المهمة بجد ونجاح والتي استفاد منها كل المثقفين العراقيين ، بل و العرب عموما، فالكل مدين لهذه الحركة التقدمية التي ازدهرت في بغداد الخمسينيات، وهي على عكس الفكر القومي الذي اتسم بنظرته الرجعية والارتكاز على الماضي وامجاده فقط.
واود ان اشير الى رواج كتاب رأسمال لكارل ماركس ، كذلك الكتب الشيوعية الكلاسيكية الأخرى.
ومن الطريف ان صاحب مكتبة سأل صاحب الشأن حول امكانية توزيع كتاب رأسمال ؟ فأجابه : انه قرأ عددا من صفحاته فشعر بالنعاس، لانه لم يفهم منها شيئا، ولهذا عليك بتوزيعه، فاذا انا لم افهمه، فكيف سيفهمه عامة الناس؟!
و اخيرا لابد ان اعتذر عن تقديم هذه المحاضرة. انها غلطة! التقدمي لا ينظر للوراء و يشارك في البكاء و اللطم على احداث جرت بالامس البعيد او القريب. التقدمي يجب ان ينظر للأمام ليتقدم، فعلينا مهمة دحر القوى الظلامية التي القت شعوب الشرق الاوسط في متاهة. دحرها يتوقف على إحياء روح الخمسينيات بعقلانيتها وعلمانيتها وعلميتها وتحررها وحداثيتها. علينا الاهتمام بتراث سومر و بابل. علينا نشر مستجدات العلوم الحديثة والاكتشافات التاريخية. و تشجيع الاختلاط بين الجنسين والزواج المختلط بين الطوائف والقوميات، و تتبع كل هذه الابحاث التي تناولت اخطاء التطبيقات الاشتراكية. لماذا فشلت الاشتراكية؟ هناك دراسات كثيرة عن مستقبلها و تصحيح مسارها. علينا الا نضع على الرف هذا الأمل الذي حلمت به البشرية منذ الوف السنين. لقد كتبت مرارا ان هذه الحركات الاسلامية ستفشل و تترك وراءها فراغا مخيفا، وعلينا الاستعداد لملأ هذا الفراغ ببرنامج عقلاني تقدمي.
و اخيرا يجب ان نتحلي بشجاعة اولئك الرفاق الاوائل في مواجهة الاخطاء و الوقائع ، واخطاء هذه الديمقراطية العليلة، و قوى الظلام، والتخلف، والرجعية واستئناف مسيرة الخمسينيات.
واثارت هذه الندوة ، ذكريات الكثير ممن عاصروا هذه التجربة، ومنها وثبة كانون التي كانت اعجوبة عصرها، وجرى تناول دور النساء خلال فترة الخمسينيات وخصوصا في عهد ثورة 14 تموز.