فضاءات

ذكرياتي عن إتحاد الطلبة العام في محافظة ذي قار/ أمير أمين

انتهت المرحلة الأولى في متوسطة سومر الكائنة في صوب الشامية من مدينة الناصرية ، ولم يأتِ أحد لكسبي لإتحاد الطلبة الذي كنت أسمع عنه كثيراً .. وكان في متوسطتنا أفراد من الإتحاد السلطوي للطلبة ، كانوا يرتبون إحدى غرف المدرسة، لكي يحولوها الى مقر لإتحادهم ، وكان المسؤول لإتحاد السلطة أحد الطلبة وإسمه / عدي الحصونة/ .
في العطلة الصيفية ، بعد المرحلة الأولى ، التقيت الفقيد ( ياسين حسن ) (1) في محلتنا ( الإسكان ) ، وطلب أن يراني لأمر ما ، وحين التقينا مجدداً بعد ساعة .. تمشينا وسألني مباشرة : هل تعرف أتحاد طلابي غير الآتحاد الوطني !؟ فقلت له فوراً : طبعاً إتحاد الطلبة الذي يقوده الشيوعيون ! فوجيء الفقيد ياسين من الإجابة وقال لي : إذا جاء أحدهم وأراد كسبك لهذا الآتحاد فهل توافق ؟ فقلت له : نعم ، وأنا أنتظر ذلك فهل تعرف أحدهم ؟ حينذاك إبتسم وإمتلأ بالفرح وهو يقول : أنا الشخص الذي يمكنك الإرتباط به من الآن ... ثم بدأ يشرح لي نبذة عن تأريخ إتحاد الطلبة وإهدافه وطلب مني أن أقوم بمفاتحة بعض الطلبة الجيدين لتأسيس لجنة لقيادة العمل في متوسطة سومر ، فأعتمدت على بعض الأصدقاء الطيبين في ذلك وخاصة الشهيد ( وائل عبد الجليل ) الذي كنت أعتمد عليه كثيراً ، فهو طيب وشجاع وكتوم ، وكان يملك وعياً ممتازاً بالإضافة الى إنه شخص محبوب من قبل الجميع ، وقد كسب لنا الكثير من الطلبة وتوسع التنظيم في المتوسطة بشكل لافت .
في أحد الأيام دعاني الفقيد ياسين الى إجتماع موسع في بيت الفقيد ( حميد مهلهل ) (2) الذي كان سكرتيراً لإتحاد المحافظة ، وكان الإتحاد يمر حينها بظروف سرية جداً ... دخلت معه لغرفة الآجتماع وفوجئت لأول مرة بعدد من الطلبة يتجاوز 15 طالباً ، وجميعهم على ما أعتقد ، كانوا أكبر مني سناً .. رحب بنا حميد الذي كنت لا أعرفه مسبقاً ولم أسمع عنه أو ألتقي به سابقاً ، وبدأ يتكلم ساعات عدة بكل شيء يخص العمل ، وركز على الصيانة والحذر ونشر أفكار الإتحاد وتوصيلها لجميع الطلبة ، وإنفض الآجتماع وشعرت من خلاله بجسامة المسؤولية التي رسمها السكرتير لكل واحد منا ، وإنتابني شعور بالخجل والخوف من عدم قدرتي على تنفيذ كل هذه الآمور ، التي جرى رسمها أمامي ، وخاصة توسيع التنظيم مع مراعاة الصيانة والحذر من أعوان النظام في المدرسة !
كان عملنا في البداية ينصب على توزيع المنشورات ، التي تعرف الطلبة بأتحادنا وأيضاً كنا نشتري ( جكليت أبو الحليب ) ونعمل قصاصات ورقية داخل كل واحدة نكتب شيئاً يخص الإتحاد ، ونوزع هذه الحلوى في المناسبات الى أقرب الآصدقاء من الطلبة .. ونضع الآخرى في داخل( رحلات ) الآخرين بدون أن يتعرفوا بنا ... وأتذكر إنني في أحدى المرات قمت بشراء قالبين من الطباشير الآحمر وغطستهما في الماء ، ونهضت فجراً لآباشر كتابة شعارات تقول : يعيش إتحاد الطلبة العام في الجمهورية العراقية ! وبخط عريض جداً وواضح ، وعلى طول جدار مدرسة حطين الآبتدائية المقابلة لإعدادية الناصرية ، وكان جدار مدرسة حطين ناصع البياض فالمدرسة حديثة البناء ، ثم أسرعت للعودة للبيت دون أن يشاهدني أحد ، وبعد مدة ذهبت للدوام ومررت بالشعار حيث تجمع عدد من الطلبة لقرائته ، وكان بعضهم يقول إن الخط ضعيف .. وعندما إنتهى الدوام عدت للبيت فشاهدت رجال الأمن يقفون أمام الشعار ويضعون عليه السبريه الآسود لإزالته وهم يسبون كاتبه !! ولم أخبر حتى مسؤولي بأني كاتب الشعار !
في أحد الأيام وكنت داخل الصف والأستاذ مستغرق في شرح إحدى المواد ، طرق أحد أفراد الآتحاد الوطني لطلبة السلطة الباب طالباً من الآستاذ أن يسمح لي بالخروج لأمر معين عندهم ! سمح لي الأستاذ بالذهاب مع الطالب الذي إصطحبني الى غرفة الإتحاد المقابلة لصفنا .. وعندما دخلت الغرفة أغلق الباب فوراً بالمفتاح ، ووضع الشخص المفتاح في جيبه ، وكان هناك طالبان آخران ، كان أحدهما مسؤول المتوسطة / عدي الحصونة / ، بدأ بتهديدي وإتهامي بتوزيع منشورات تحريضية داخل المدرسة ، وقال .. نحن هنا السلطة الوحيدة المطلقة ولا يوجد أحد منافس لنا ونريدك أنت وجماعتك أن تنضمون الينا ! فناقشتهم وهددتهم بإخوتي وأصدقائي الكثيرين إن هم حاولوا ضربي ، ولم يفعلوا شيئاً سوى تغيير إسلوبهم الى : أنت حباب وطيب ونريدك معنا ! وبعد أن حرموني من الدرس والفرصة التي تلته ، عدت لمواصلة الدرس في الحصة التالية ، ولم يجرأوا على إستدعائي مجدداً !
في أحد إحتفالات الإتحاد الوطني داخل المدينة ، كانت هناك تظاهرة كبيرة يقودها ( طاهر البكاء ) رئيس الاتحاد الوطني في المحافظة .. كنت أقف على الرصيف مع عدد من زملائنا ، وفوجئت بأن الطالب ( غالب هادي ) يسحبني الى داخل التظاهرة قائلاً : لماذا لا تصفق وتهتف معنا ، ولم يسمع جوابي الذي كان : إنني غير مقتنع بهذا الشعار الذي ترددونه ، فإنهال علي مع إثنين من زمرة الإتحاد الوطني بالضرب ، ودافعت عن نفسي وضربتهم ، وخلصني منهم أحد رجال الشرطة القدماء قائلاً لهم : عيب عليكم أنتم ثلاثة وهو وحيد وصغير ، مما شجعني بأن أسبهم أمامه ! أما شعارهم فكان : ( حافظ أسد يا جبان .. مثل الأرنب بالجولان ! ) في الصف الرابع الثانوي إنتقلت للدراسة في ثانوية الجمهورية ، شكلنا حلقة طلابية وكان معي الزملاء علاء الدين مدلل وعماد مصطفى وعبد برزان وأخرين .. وحينما حل الرابع عشر من نيسان عام 1973 تهيأنا للإحتفال بهذه المناسبة بشكل يجمع ولأول مرة ما بين السرية والعلنية ، وكان إحتفالنا في بيت الزميل عبد برزان الواقع في قرية فرحان ، كان إتحادنا يحتفل بيوبيله الفضي ( 25 سنة ) قمنا بأخذ صورة لبوسترعمله أحد الزملاء ، وثم وزعنا الصور بكثافة ، كنا نغني وننشد للإتحاد ونتناول الكيك ونشرب العصير ، وأوقدنا 25 شمعة ، وكان والد الزميل عبد يحذرنا من الصوت العالي ، فكنا نقول له : ماكو مشكلة ستنبثق الجبهة بعد شهور !! وفي السنوات اللاحقة أصبحت الإحتفالات ذات طابع جماهيري وكنا نقوم بعمل السفرات ، نأخذ الآكل والمشروبات ، ونعد برامج ترفيهية وتثقيفية بالمناسبة ومن خلالها إزداد كسب الزملاء ، وفي السنة اللاحقة إنتقلت الى إعدادية الناصرية القريبة من بيتنا في الإسكان للدراسة في الخامس العلمي ، وكانت الإعدادية شبه مغلقة لإتحادنا ، ففي إحدى المرات زارنا طاهر البكاء وكان يوم 23 / تشرين الثاني وهو ذكرى تأسيس الآتحاد الوطني وتم جمعنا في قاعة كبيرة ، وبدأ يتحدث عن تأريخ الإتحاد الوطني / ونضاله ! /وقال بالحرف الواحد : لا يوجد أي إتحاد آخر غير الإتحاد الوطني فهو المعبر الحقيقي عن طموحات جميع الطلبة .. الخ من الكلام الفارغ ، وقد قاطعه أحد زملاءنا قائلاً له : لا .. يوجد إتحاد أخر هو إتحاد الطلبة ، فإحمر وجه البكاء من الغضب وصرخ بأعلى صوته .. ماكو هيجي كلام ، لا يوجد سوى الإتحاد الوطني المعترف به هنا ، فرد الزميل وهو يلتفت الى جوانب القاعة قائلاً : إخوان اللي بأتحاد الطلبة إرفعوا أيديكم ، فحاول طاهر البكاء إسكاته ، لكن الأيادي بدأت ترتفع بكثرة أذهلت البكاء ومن معه ، مما حدا به الى لملمة أوراقه والخروج من القاعة والمدرسة هو ومن جاء معه ولم يعد اليها !
في سنوات 74 | 1975 أصبح العمل أقرب الى العلنية ، وقد رشحني الحزب الشيوعي أن أقود مكتب سكرتارية الإعداديات ، في الوقت الذي كان الزميل ناظم سكرتير مكتب المتوسطات في المدينة ، فأصبحت عضو مكتب وهيئة سكرتارية المحافظة ، وكنت أقود أربع ثانويات ، هي ثانوية السيف وإعدادية الناصرية وثانوية الجمهورية والثانوية المسائية ، وإستمر عملي لحين تجميد الإتحاد مع بقية المنظمات الديمقراطية نهاية عام 1975 ، والحقيقة أنه تم حل جميع هيئات الإتحاد ولجانه الفرعية والقيادية ، وكون الحزب الشيوعي لجنة حزبية لمتابعة العمل الديمقراطي ، عملت بها مع الشبيبة ورابطة المرأة . ومن المهم القول أنه في عام 74 غادر الزميل حميد مهلهل العراق في زمالة الى براغ ، وأصبح الزميل عباس حسن سكرتيراً للإتحاد ، ثم إنتقل الزميل عباس للدراسة في إحد المعاهد الزراعية في محافظة اخرى، فإستلم المهمة الزميل طه سلمان (أبو أحمد) وظل حتى تجميد الإتحاد .
لقد عانى الزملاء كثيراً من قرار التجميد وترك ذلك أثراً حزيناً في نفوسهم ، كانت إجتماعاتنا كثيرة جداً وخاصة لزملاء مكتب السكرتارية ، فكنا نقوم بدراسة المحاضر والرسائل والتقارير ونرد عليها ، ثم نقوم بتنظيم الإشرافات ، ومن بين البيوت التي أتذكر إنني كنت أجتمع فيها كان بيت الزميل كامل إبراهيم في محلة الصابئة ، وكانت لديهم غرفة كبيرة جداً فيها مبردة ، فكان الإجتماع منعشاً في صيف الناصرية اللاهب !!
كان طلبتنا يتعرضون الى الإستدعاء دائماً من قبل رجال الأمن الذين يقومون بإستجوابهم وتعذيبهم حتى أيام الجبهة ، حيث لم تخلوا دوائر أمنهم وتحقيقاتهم من عدد من أبرز زملائنا حتى يتدخل ممثلو الحزب الشيوعي في لجان الجبهة لإطلاق سراحهم !
بعد التجميد أصبح أعضاء الإتحاد الوطني يشمتون بنا ويقولون أنهم هم من بقوا في النهاية ، وهم من إحتلوا الساحة الطلابية !، وفي أحد الأيام طلبنا لقاءاً طلابياً جبهويا مع طاهر البكاء ، وإتصلنا به تلفونياً من مقر الحزب الشيوعي في المحافظة ، رحب باللقاء ولكنه أكد على إستقبالنا كطلبة شيوعيين وليس كأتحاديين ! وافقنا مضطرين ، وكنت مع الوفد وكان ، وللحق ، لطيفاً معنا !
عمل في صفوف إتحادنا خيرة طلبة الناصرية من الجنسين وبرز منهم الفقيد ستار گناوي (3) وأحمد عبد علي وعلي حسين لفته وأخي جمال أمين ومكي رحيم وأسعد البطحاوي وثائر داود ومؤيد عبد العال والفقيد ياسين حسن وغيرهم ممن لم تسعفني الذاكرة بتذكرهم ، كذلك برز عدد رائع من العناصر القيادية والتي إمتازت بالجهادية والحماس في العمل وكسبوا حب زملائهم وبقية الطلبة كالزميل عباس حسن سكرتير الإتحاد والزميل طه سلمان سكرتير الإتحاد والزميلة عواطف داود التي كانت تقود مكتب سكرتارية الطالبات ، وكانت شعلة من الحماس في العمل بالإضافة الى الزميل حسين محسن والزملاء مسؤولي سوق الشيوخ والشطرة .
ومن الجدير بالذكر أن هناك عدد كبير من الزملاء الرائعين الذين سبقونا للعمل في الإتحاد وأذكر منهم نعيم هندي والشهداء صبار نعيم وجبار نعيم وفيصل عبد الغفار وحسن مرجان وفيصل ماضي وغيرهم الكثيرين الذين استشهدوا لنضالهم في صفوف الحزب الشيوعي العراقي .
وقدمت الناصرية عشرات الشهداء من الطلبة في الجامعات أو في صفوف الأنصار ، وأذكر منهم الشهيدة نجية الركابي وأختها هدية وزاهرة ذياب وعلي إبراهيم وصباح مشرف وصلاح مشرف وقيس عبد الكاظم وفريد ماضي ووائل عبد الجليل ومناضل عبد العال وشقيقتي سحر أمين وزوجها صباح طارش ومحمد طارش وحسن مرجان وفيصل ماضي وفيصل عبد الغفار العاني وغيرهم الكثيرين الذين خضبوا تربة وطننا بدمائهم الطاهرة : مجداً لكم أيها الشهداء الأماجد..
مجداً للشهيد البطل سيد وليد، ذلك الطالب الباسل الذي دفن حياً من قبل جلاوزة البعث بعد إنقلاب 8 شباط الأسود عام 1963
عاش إتحاد الطلبة ومجداً لكل من زرع بذرة لتخضر سنابل في أرضه المعطاء .
(1) ياسين حسن : توفي في بلغاريا بمرض سرطان الدم في 13 | 8 | 1989 ودفن في صوفيا .
(2) حميد مهلهل : توفي في براغ في 11 | 9 | 2002 ودفن فيها .
(3) ستار گناوي : توفي في بلغاريا منتحراً في 8 | 10 | 1986 وكان مشروع باحث تراثي كبير