فضاءات

من ذكريات الطفولة وايام البعث الفاشي. لا تترحموا على ما كان / لينا النهر

بين طيات الفخر والمحبة وحنان الأهل تكمن ذكريات النضال الاليمة التي يصعب وصفها. فنضال السياسي لم يكن نضاله الشخصي فقط عن اختيار. وانما تغيير كامل لحياة العائلة وبعيدا جدا عن حرية الاختيار. حياة تركت ذكريات لا تذكر. لصعوبة شرحها وللمشاعر التي تحمل، ولربما الخوف من استرجاعها لذكرها وصعوبة التخلص منها والاستمرار في مخطط اليوم الطبيعي. مخطط اليوم الذي يعتبر طبيعي للبعض ولنا البعض الاخر يعتبر من رفاهية الحياة. فكيف كانت حياتنا؟
احاول ان اسرد بعض الذكريات بين الحين والآخر وبعد ان اجمع قوى هائلة من طاقة تساعدني على الحديث فيها ثم ارجاعي ليومي في عهدنا هذا. لا اريد الحديث عنها، ومن الصعب جدا اقتناء الكلمات المناسبة لشرح حقيقة مشاعر من الصعب جدا شرحها. ولربما أتناسى شيئا وآخر لصغر عمري في بعضها ولصعوبة الموقف وشرحه لمن لا يفهم او لصعوبة استيعابي إياه شخصيا. ولكني ارى ان من واجبي وكل من حولي سرد تلك الأحداث. للمعرفة والتاريخ وللتقارب الاسري بيننا ايضا. فأنا متأكدة ان هناك الكثيرين مثلي وابي والعائلة ، لا نتحدث بما كان. لربما نعرف الحدث وليس التفاصيل ونكتفي بهذا. نعرف مرارة هذه الذكريات وكيف تكون جارحة الى حد الغير إنساني و فيها ما يكفي من لوم النفس والحزن فنكتفي بأننا نعرف. ونصمت.. كلامنا اليوم لا يغير من واقع ماضي لا تصفه حتى الأفلام.
تاريخ انساني، او لا انساني يختفي بصمتنا. فكيف يفهم الناس جزء من تاريخ العراق في صمتنا؟
---
استيقظت صباحا في الغرفة الرئيسية (الغرفة الچبيرة) في الدار. الغرفة التي أصبحت المركز الوحيد المستخدم بعد ان تركته نصف العائلة ملتحقين بالأنصار بعد تركهم العراق وقمع البعث.
استيقظت على صوت امي (ام حامد-جدتي) وهي توقظيني ورائد بهدوء (رائد-خالي الصغير الذي يكبرني ٥ أعوام).
افتح عيني لأرى افواه البنادق فوق رؤوسنا وأحذية العسكر على وسائدنا وافرشتنا على الارض. لا افهم ما يحصل، اتطلع في وجه امي وهي تربط وشاح رأسها (الشيلة) وهي في صمت تكلمني عيناها، فأنا اعرف هذه النظرات وتعلمت على تفسيرها، عينا امي تخبراني انهم من أمن الدولة، وتخبرني ان لا اخاف، لا ابكي وان أتقرب قدر ما استطعت للجلوس في جنبها بهدوء وهي تبعدني مسافة قليلة. رائد يفهم هذا ويفعل نفس الشي. ابي (ابو حامد-جدي) يجلس على حافة سريره بملابس النوم ودون غطاء راْسه ( الشماغ والعگال) الذي لا يكون بدونهما امام اي إنسان خارج العائلة. جلوسه دون غطاء راْسه يعني الكثير.
لا احد منا يتكلم. يرافقون ابي الى صالون الدار حيث يجلس قسم اخر كبير منهم. يتركونا في الغرفة. وحين اغلقت الباب اتضح القلق على وجه امي وبدأت بالتوصية الشكلية عن طريق الوشوشة بعدم الرد او الكلام في اي شيئ (يمه، لا تجاوبون على اي شي، هذا الحايط لو يرد انتو متحجون). هكذا أصبحت غرفة النوم زنزانة لنا هذا اليوم.
دون طعام او ماء ولا حتى استخدام الحمام.
امي انسانه ذكية وقوية و تتقن التصرف في مثل هذه المواقف، لربما كانت تتقن التصرف لكثرة تعدد هذه المواقف لسنين طويله.
بدأت امي بتلقين رائد بعض الجمل وهي تساعده في ارتداء زي الطلائع ( من مصدر لربما يتركوه وهو طلائعي وطني) تلقنه جمل يستخدمها لإقناع الأمن بطريقة طفل عفوية ان يذهب الى المدرسة. وفي حقيقة الامر كانت امي توصيه بالذهاب الى دار اختها الخالة ام حمزة لإخبارها الوضع الذي نحن فيه، وان لا يرجع للدار مرة اخرى.
ومع الاسف لم تنجح المحاولة.
بعد ساعات قليلة ( لا اذكر طول الوقت او كل التفاصيل لصغر سني) نقلونا الى سجن كربلاء. وحين دخولنا ساحة السجن لمحنا امال تجلس في عباءتها مكبلة الايدي على احدى عتبات السجن (امال خالتي الشابة الصغيرة). سجنا في زنزانة صغيرة جدا، يوجد فيها فرشة اسفنجية واحدة قذرة جدا، وشباك صغير في اعلى الجدار.
حين دخلنا الزنزانة كانت هناك امرأة اخرى تجلس على الارض من المعارف، عوائل الشيوعيين في كربلاء ( مع كل أسف لا اذكر ام اي عائلة) رفعت رأسها وقالت( :هجم بيتهم ..حتى الجهال ؟!) جلست امي بجانبها وتحدثن بصوت خافت جدا.
جوع وعطش وخوف في زنزانة صغيرة يوم كامل اثار اغرب المشاعر. بيننا كأطفال وبيننا جميعا، من ضحك على حال وبكاء على اخر وشجار بيني وبين رائد، اتعب امي والخالة. باشرت امي والخالة بترجي احد السجانين حين فتح الباب للسماح لهن باصطحابنا الى الحمامات بعد يوم طويل، وسمح لنا بهذا.
وبعد ساعات اخرى في الزنزانة قام رائد بطلب من امي برفعي على كتفيه لمحاولة لمح اي احد من أفراد العائلة وفعلا رأيت ابي هذه المرة يجلس مكبلا هو ايضا ويجلس على مسافة ليست بعيدة عن امال، لا اعتقد كانوا يعرفون انهم يجلسون الى جنب بعضهم ( كلابج وشد عيون). طلبت امي ان احاول الذهاب الى الحمام مرة اخرى، كوني اصغر الموجودين ولربما يسمحون لي، وعلي ملاحظة الوضع في طريقي ولربما يلمحني او يسمعني ابي او امال. ولكن المحاولة فشلت حين وصلت نصف الطريق الى الحمام حيث اكتشفني احدهم وأرعبني بصراخه العنيف ورجعت راكضة مرعوبة باكية لحضن امي والخالة اللتان افجعهن الموقف دعايات الله بالانتقام منهم لما يصيبنا.. وبقي الحال هكذا وباصطحاب امي والخالة الى التحقيق بين فترة واُخرى الى وقت متأخر من الليل حين اطلق سراحنا جميعا ورجعنا الى البيت الذي تنعمت قوات الأمن بالأكل والمرح فيه والى واغراضنا المقلوبة رأسا على عقب للبحث عن دليل يدل على من تركنا مناضلا في شمال العراق. .