فضاءات

حكاية لاجئ سياسي (15) .. الفصام / ناصر الثعالبي

مرت ثلاثة أشهر ونحن المعتقلين في البصرة ننتظر ما يستجد في الوضع السياسي ،مراهنين على قوة الاعلام لحزبنا الشيوعي وأعلام الاشقاء.سيما أن أحد الموقفين الكويتيين كان إعلامياً أعتقل بسب إصطدام سيارته وهو في طريق العودة لوطنه مع سيارة عاديه ،قاده حظه العاثر ان تكون سيارة للمخابرات العراقية ، فسيق الرجل إلى السرداب ،كان الحدث بعد شهر ونصف من إعتقالي .أتهم الشقيق الكويتي بإنه تعمد الإصطدام بسيارة المخابرات لأغراض لا يعرفها جهازهم الضخم ،عليه يجب أن يوضحها.كان الرجل ممتلئاً إلى حد ما ،ومع إنه إعتاد إرتفاع درجة ألحراره، لكنه لم يستوعب عدم وجود مكيف أو حتى مروحة هوائية في بلد يعد من البلدان الغنية في العالم، في اليوم ألأول من وجوده أفزعه الصراخ والتوسلات الهابطة من أعلى البناية كأنها سيل من الرصاص تمزق ألآدان والمشاعر. ظهر من خلال حديثنا معه إنه صحفي، وكطبيعة الصحفيين الراصدة للاشياء والراكضة لتحليلها، أثارته ظاهرة عدم تناول بعض الموقوفين للطعام ولسبعة أيام من وجوده، وبهمس سأل عن ألأمر! اخبروه إنهم شيوعيون مضربون عن ألطعام. وكي تكون ألصورة واضحة تطوعت لشرحها. ابدى مشاعر التضامن ملمحا إلى انه يتفهم تماما نشاط جماعتنا من أجل الخير والسلام مبديا ملاحظة لا أستطيع فهم أحقيتها من عدمه .قال الرجل (أنتم أخوي لازم تاكلون حتى تكدرون إتقاومون ..ترى هاي الناس ما يهمهم من إيموت من إيعدل)
قدرت حرصه علينا ولم أدخل معه بنقاش وعدني أن ينشر خبر إضرابنا عن الطعام وما جرى معنا؟ بعد فترة تدخلت حكومته واطلق سراحه، حين ودعنا همس انه عند وعده. وفعلا بر بوعده فقد سمعنا ان احدى الصحف الكويتيه نشرت الأضراب!!
فتحت بوابة السرداب بصريرها .إجتاز الجميع توجس مبهم لأحداث قادمة، لم نتكهن بها، أطلت الرؤوس المزدحمة بالمخاوف لتستطلع من القادم ؟ وكان رأسي ملتصقا في المقدمة بين الرؤوس .إنتابني الفزع حين تقدم شخص ضخم عرفت إنه رفيق من قضاء ألفاو ، دخل الرفيق مبتسما، لم تردعه الصيانة الحزبية من عناقنا، كان لقاءً حارًا عطرته ألأخبار ألتي يحملها .عرفنا أن ألحزب أصدر بيانا أستنكر فيه حملة ألاعتقالات في البصره وأنه اورد أسماء المضربين و المعتقلين وطالب باطلاق سراحهم فوراً.
لم تكن ألمفاجأة ألسعيدة تمر إلا وجاء نبأ سقوط رفيقي وابن محلتي وصديقي مغميًا عليه إثر ألأضراب، نقل إلى المستشفى فورا وعرفنا أنه قاوم أن يعطى مغذي ببسالة نادره. كسر ألألم والتوجس دخول شاب أنيق ، تبدو عليه كياسة لا تناسب عمره ، جلس ثانياً رجليه إلى ألخلف، تصورته يريد الركوع .جرت حركة غير عادية بين حرس السرداب ،كأن شخصية مهيبة دخلته، بعد قليل من الوقت طلب الشاب ألحرس، سائلاً الأغتسال والوضوء ،أجاب ألحرس (مولانا سأخبر ألعريف) وبخفة رجل مأمور ركض ألحرس ونزل ألعريف ليفتح الباب للقادم الجديد .سرت همسات ألأستطلاع بين الموقوفين ،بعد أيام عرفنا أن القادم الجديد رجل أُعتقل في منطقة كتيبان المحاددة للجارة إيران ،لم يعثروا عنده على أي شئ ،لا نقود ولا هوية ولا جواز، ليس هناك ما يدل عليه.أفاد الرجل إنه (المهدي المنتظر) جاء ليملأ ألأرض رحمة وعدلا.
تماماً وضحت لديّ الرؤيا ،وضح ألخوف لدى أفراد ألامن ،جاءهم ألمهدي من إيران إنها رسالة الرحمة.لابد لي أن أعترف أن رجلا مثقفا دمثا جميل ألصورة لا تكون وراءه إلا غاية مستوره، ولكي أستطلع ألأمر قلت (سيدنا أتسمح لي بسؤال) قال تفضل ، قلت أين كنت ؟ قال (بين طبقات ألارض، قلت وكيف تأكل؟ قال كل أربعين عاما يأتي إليّ جدي رسول ألله (ص) ويضع بفمي زبيبة تكفيني لأربعين سنة أخرى) سكتُّ لجوابه وكان جاداّ ،أزحت تراكم معرفتي وغرقت في لحظات صوفية حاسداً رجلاً فقد نصف عقله ، فاكتسب بما فقد أحترام رجال ألأمن وبعض ألمعتقلين. نودي على ألرجل ألمهدي ألمدعي، وعرفنا أنه أُرسل إالى طبيب نفسي .
مرت ألأيام ألسبع دون خبر عن مهدي إيران وفي أليوم ألثامن جاءنا ألرجل بوقاره .
أستقبلناه كزميل لنا نشاركه بعض جنونه، سأله أحدنا عن زيارته للطبيب فأجاب شافى الله الطبيب فقد كان مصابا بالهلوسة فهو لا يعرف اهل البيت.! بقي ألمهدي المدعي إسبوعين كل يوم يطلب من ألحرس أن يغتسل لأن لديه جنابه . كان شاب معنا لديه عربة حمل يعمل في سوق البصرة ألقديمة أُعتقل بدلا من أخيه مهرب ألغنم، أستفسر(ليش ألسيد كل يوم يطلع أيكول عندي جنابه، شنو هاي ألجنابه؟) أخبروه يعني (داك عليه ألشيطان)
في يوم مازحت السيد قائلا ارجوك مولانا أن تقول للشيطان أن يدك عليّ .أجاب الرجل بأدب (ليش أكو شيطان إيدك على شيطان).