فضاءات

مناضل داود يلعب "مخفر الشرطة القديم" ويروي حكاية مسرح ودراما عراق بعد التغيير لجمهور مقهى لندن الثقافي

لندن – خاص – ( طريق الشعب):
يتوق العراقيون في المنفى لأستعادة حياتهم الثقافية في وطن أمسى بعيدا عنهم.. والمقهى الثقافي العراقي في لندن صار يوفر لهم هذه المتعة بأعداد برامج وأماس منذ ما يقارب الست سنوات المنصرمة. ففي الخامس والعشرين من أيلول 2016 تمتع حشد من الجالية العراقية في لندن بمشاهد من ( مخفر الشرطة القديم) مثلها الفنان مناضل داود وهي مونودراما من تأليفه وأخراجه سبق له ان قدمها كاملة في بغداد وبنجاح كبير.. واستعرضت النسخة اللندنية بعض مشاهد مختلفة،منها، لحالات من حياة المواطن العراقي اليومية في وضع البلاد المضطرب في ظل غياب الأمن وفوضى الأدارة وأنتشار الفساد والمحاصصة الطائفية والأرهاب ، وتأثير كل ذلك على الحياة اليومية للشخصية البغدادية النمطية ، التي كانت بمثابة النموذج .
أن الطقس المسرحي الذي قدمه العرض عاد بالجمهور المغترب قسرا الى أجواء الوطن .. وهذه مبادرة أخرى تسجل ايجابيا للمقهى الثقافي العراقي في لندن الذي لم يكتف بالعرض أنما أعد فيلما فيديويا وثائقيا قصيرا أستعرض فيه السيرة الذاتية لضيفه الدكتور مناضل داود فعرفنا من خلال شاشة المقهى أنه تخرج في معهد الفنون الجميلة ببغداد حائزا على دبلوم الأخراج المسرحي عام 1982 وحصوله على شهادة عليا في المسرح من معهد الدولة للمسرح في سانت بطرسبورغ الروسية وفيها أيضا دافع عن أطروحته الموسومة ( مسرح التعزية في العراق) والتي نال عنها الدكتوراه عام 1999 وأصدرتها له دار( المدى) في كتاب . كما وأضاف الوثائقي مستعرضا منجزه الابداعي في المسرح اخراجا وتمثيلا للعديد من المسرحيات التي عرضها في دمشق وبغداد ولعبه لأدوار عديدة في الدراما السورية والعراقية والمصرية ونشاطه التلفزيوني والابداعي .
ابتدأت الأمسية بضربات ثلاث (دقات على الخشب) صدرت من خلف الستار .. قال عنها مدير الأمسية الفنان علي رفيق ..نبتدأ أمسيتنا بهذه الضربات الثلاث والتي هي تقليد مسرحي قديم ينبه الى الأعلان عن بدء العرض المسرحي ..فيصمت الجمهور.. وتطفأ أنارة القاعة ..ثم تسلط الأضواء على الخشبة .. وفعلا بعد لحظات وبعد انتهاء الضربة الثالثة انبلجت الستارة عن مسرح المقهى الثقافي العراقي في لندن ليظهر الفنان المسرحي مناضل داود ضيف المقهى معتليا الخشبة ممثلا لمسرحيته التي كتبها واخرجها ايضا وعنوانها (مخفر الشرطة القديم) :
مناضل : (يلعب الشخصية الأولى) كان البيت مهجورا وموحشا..بل ومليئا بالجرذان..لم اكن أملك حين أستأجرته سوى فراشا واحدا..وحين جلست مرهقا من التنظيف ، كان السؤال الأول : كيف ستنام ؟ فالبيت موحش وبارد ..صحيح ان أجسادنا أعتادت الأماكن الغريبة..لكثرة الترحال والتنقل لكن الروح تبقى مثل طفلة مدللة لا تطمئن ولا تهدأ..الا في حضن امها الدافىء..والمليء بالرحمة ..والبيت رحمة..البيت أبجديتنا الأولى..هناك تأكل وهنا تنام ..وفي تلك الزاوية من البيت..أودعت أسرارك الأولى وخبأتها تحت الوسادة. وعلى ذلك الحائط كتبت الحرف الأول "
هكذا تبدأ حكاية المواطن ..هوالعاطل عن العمل في بلاده.. تغتصب الشرطة بيته ( تصّيره مخفرا لها) فيضيع تاريخة فيرحل في شتات منافيه يعيش مع الجدران الباردة والجرذان في غربة يطول أمدها ولم يبق من بغداده سوى سدارة وعباءة يلف بهما روحه التي تحلق في متاهة غريبة ولفترة مجهولة ..
يجسد مناضل عدة شخصيات بمهارة أدائية مستخدما قدرته في تلوين القاءه لحوار تلك الشخصيات ومستخدما قطعا بسيطة من الملابس والأكسسوار المسرحي ولغة الجسد المرنة فكان عنده الأنتقال من شخصية الى أخرى يتم بمرونة عالية وبأنسيابية وتلقائية .. قابلها الجمهور بالأستحسان الذي تجسد بعاصفة التصفيق التي أعقبت اعلان مناضل عن انتهائه من الأداء.
واعقب ذلك عرض وثائقي السيرة الذاتية ثم ابتدأ القسم الثالث من الأمسية والتي مهد له السينمائي علي رفيق بطرح بعض التساؤلات والمحاور التي تمنى على ضيف المقهى الأجابة عنها والحديث عنها في توصيف الحالة المسرحية العراقية التي أعقبت التغيير في 2003..لكنه أكد ان هذه ليست سوى مقترحات وترك لأختيار الفنان الضيف عماذا سيتحدث وهو القادم من بغداد وقد عاش التجربة فعلا بيومياتها واعطاءنا القول الفصل فيها.
في البدء تحدث الفنان مناضل داود عن أهمال واضح للثقافة العراقية وعدم أكتراث من الحكومة .. وذكر ان العراق فيه كل شيء .. فيه شباب تريد ان تتعلم وتجرب ، نتوسم فيهم كل خير فهم الذين سيصنعون مستقبل الفن ..لكن في الوقت نفسه للأسف هناك شباب يتركون المدارس وباتت الأمية تنتشر مجددا في العراق فتنتج الجهل والتخلف.. المسرح ينبثق من الواقع الحالي .. الان هناك جهة مسرحية هي دائرة المسرح .. فكما عبر عنه استاذي سامي عبد الحميد .. أذ قال ان المسرح العراقي اليوم (اعرج) ..لانه سابقا كانت بالاضافة الى الجهة الرسمية الوحيدة (الفرقة القومية) ، كانت هناك فرق أهلية هي الشعبي والحديث واليوم واتحاد الفنانين و14تموز وغيرها ومسارح بغداد والشعب والستين كرسي والرشيد.. المسرح الآن يعاني شحة الدعم المادي والتمويل الذي يأتي من وزارة الثقافة فقيرة الموازنة أصلا.. وهذا العامل الأساس بالضرورة سيحد من الطاقات الفنية .. فالعروض انطلاقا من هذا قليلة .. وانتاجها الفقير لا بد من ان يؤدي الى هبوط سوية النتاجات المسرحية وابتعادها عن الحرفية .. الوضع الأمني في البلاد أثر بشكل كبير على ارتياد الجمهور للمسرح الوحيد ..فصارت العروض تقدم بدءا في النهار .. ثم فيما بعد الظهر ..الى ان اصبحنا تدريجيا ندفع وقت العروض الى المساء .. والوضع نفسه يؤثر على حضور الممثلات والممثلين للتمرينات المسرحية لكثرة التفجيرات وانقطاع الطرق ..الخ من معوقات .
انا نفسي اثناء عملي المسرحي ..كنت عندما أقوم باخراج عمل ما والتدريب عليه لعدة أشهر ..لم أحصل على التمرين على الخشبة ..لأرى مدى نضوج عملي والتمرن على ديكوره وانارته واكسسواره ،سوى قبل يومين من العرض وهذه معضلة ..أي انني لا أرى عملي كما ينبغي .
هناك خاصية جديدة طرأت على المسرح الحالي ، أكدها د.مناضل داود في حديثه الا وهي ان المسرحيين الشباب اليوم هم بدون آباء .. تنحسر ظاهرة مفهوم الـ(بيداغوغ – المعروفة في لغات عديدة) وبالعربية المعلم – المربي .. هناك كثيرا من الدكاترة في المسرح لم يمثلوا او يخرجوا مسرحية مثلما دكاترة في السينما لم يعملوا في حياتهم لقطة سينمائية واحدة .
وعن تساؤل الفنان علي رفيق عن مدى ايجابية انعدام الرقابة على النصوص المسرحية ومدى حرية الخطاب المسرحي وتراجع النص ازاء التجريب وشيوع مسرح الصورة والاهتمام بالسينوغرافيا والكيروغرافيا.. اجاب الفنان داود انه يتمنى ان يرقى المسرح الى التوجه الى الحداثة او حتى ما بعد الحداثة والاهتمام بمسرح الصورة والسينوغرافيا وهذه ظواهر صحية نجد لها صدى في بعض نتاجات الشباب فأنها في العراق، كما في العالم هي على الدوام تخضع للتجريب والتجديد وتطوير وسائل وادوات الممثل وتقنيات المسرح.. وقال ان هناك معضلة بنايات العرض المسرحي ففي بغداد فيها مسرح واحد فشلت كل المساعي في اعادة تأهيل مسرح الرشيد المخرب جراء القصف ..مسرح بغداد استرجعه مالكه وهو مكب للنفايات اليوم ومسرح الستين كرسي ليس فيه ولا كرسي .. والمشكلة التي يعانيها المسرح العراقي هو ظاهرة انحسار العنصر النسوي بفعل قيود دينية وعشائرية يفرضها المجتمع.
الجزء الرابع للأمسية هو ملك جمهورها ، هكذا ، أعتاد المقهى ، حيث يكتمل حوار الموضوعة ، فأبتدأ الأستاذ صبيح منديف ( ابو نوري ) معلقا على ان الفنان داود شَخَّصَ بشكل صائب سواء بعرضه المسرحي اي بلغة الفن ام بحديثه حين اشار الى انقسام المجتمع العراقي الى مجتمعين احدهما متطور جدا وآخر متخلف جدا .. وحسب قوانين الديالكتيك .. ان تعمق الردة الى الوراء ستتبعها قفزة نوعية باتجاه تطور ايجابي متقدم . ثم تقدمت السيدة ساهرة فاشادت باداء مناضل الجميل والذي اكد لها ان المسرح العراقي مازال بخير وعن ماطرحه حول غياب الآباء فقالت انه نفسه من الآباء . أما مداخلة الاستاذ صباح يعقوب فكانت عن شيوع ظاهرة المسرح الذي يركز على موضوعات دينية فقط.. ويرى ضرورة الاهتمام أيضا بجوانب الحياة الأخرى..اما الأستاذة ثناء البصام قالت ان شهادتها مجروحة بعمل الفنان مناضل فهي قد واكبت تمريناته اثناء أخراجه لـ "روميو وجولييت في بغداد" والذي كان أبكاها خلالها كما ابكاها في عرض اليوم .. وتحدثت عن مايقوم به الشباب المسرحي في العراق من اعمال ناجحة لكنها تلاحظ قلة جمهور المسرح واكدت ان ملاحظاتها استنتجتها من معيشة ذاتية كونها عادت لتوها من بغداد اما عن التساؤل الذي طرح حول الحرية فقالت :"هناك الحرية ..نعم انها موجودة لكنها في العراق تتنناسب عكسيا مع الأمن اينما يوجد الأمان لاتوجد حرية ، واينما هناك فوضى وكثرة انفجارات تغيب الحرية. وهناك شيء يتعلق بحرية المسرح وسؤالي هنا للدكتور مناضل هو : عندما يكون النص جريئا ومشخصا لسلبيات ويحرض على التغيير ما فائدته عندما لا يصل الى الجمهور الواسع ليتمم مهمته بتوعيته الناس لتتبنى تحقيق التغيير بكفاحها وبنفسها ، خاصة اذا عرفنا ان المسرحيات الجادة تعرض في العراق لايام معدودة فقط؟". اما الفنانة المسرحية الشابة لبوة القادمة من العراق اشادت بطبيعة الأمسية واعربت عن سعادتها بالحضور والنقاش وذكرت ان في بالها سؤال دائم تطرحه على نفسها وتريد توجيهه للأستاذ مناضل هو ان المسرح التجاري يحظى بجمهور واسع على عكس المسرح الجاد ( واشارت انها لا تحبذ هذه التسمية)..والسؤال ما الذي ينبغي علينا فعله لجذب الجمهور؟. وتساءل السيد ابو ستار عن موقع المسرح الكوميدي في مسرحنا العراقي اليوم واختتم الدكتور صباح الشاهر مداخلات الأمسية :" الحقيقة انا اليوم أحسست بنشوة هائلة ، أولا للأبداع الحقيقي الذي شاهدته في أداء الفنان مناضل في تنوع التعبير وامكانات ادواته الجيدة وهذا ما أفرحني ..وأقول طالما موجود عندنا مثل هؤلاء الأشخاص فهذا مما يشجعني على التأكيد ان مستقبل مسرحنا سيكون ايجابيا ، وقال ان هناك موضوعات دينية تقدم مآثر التضحية في سبيل الخير وكلنا يتذكر مسرحية عبد الرحمن الشرقاوي (الحسين ثائرا ..الحسين شهيدا)."
في ختام الأمسية كان لابد للفنان الضيف د.مناضل داود ان يجيب :" ابدأ من المداخلة الأخيرة فأقول ان اطروحتي للدكتوراه كان عنوانها – مسرح التعزية في العراق - واعتبرت الطقوس هي بمثابة مسرح لأنها تعيد تمثيل الحادثة وتحاكيها .. وعندما عدت للعراق بعد التغيير تأكد لي ذلك .. اما بالنسبة لما طرح عن الحرية فانا أؤكد ان وجودها لا ينبغي عدم الأعتناء بالنص والمعالجة الدرامية وعلى الرغم من وقوفي وأصدقائي ضد وجود الرقيب ونجاحنا في الغاء لجنة فحص واجازة النصوص لكننا اكدنا على وجود لجنة المشاهدة التي تفحص النص والمعالجة الأخراجية .. طبعا يجب ان تكون خطوط حمراء لتتماشى مع الحرية والحفاظ عليها بشرط ان لا تسيء للآخر .. اما عن المسرح الكوميدي في العراق فلا يوجد متخصص لمثل هذا المسرح ..لكن الكثير من المسرحيات التي تقدم تنطوي على جانب ساخر وناقد بطريقة كوميدية وهذه تشبه المسرح الروسي اما ما تم طرحه حول قلة الجمهور فأعزيه الى ضعف الثقافة العامة اوقلة الاهتمام بالمسرح من جمهور واسع ، بسبب الظروف القاسية التي يمر بها البلد والمواطن والتي جئنا على ذكرها " واجاب على كثير من الأسئلة غيرها .. وهاهي أمسية أخرى ذات طابع آخر ونكهة مغايرة يقدمها المقهى .