فضاءات

شهادة جامعية في وضع سياسي مضطرب / أمير أمين

بجسد نحيل مرهق وكسرين في عظم كف اليد اليمنى وخيبة أمل من حلفاء قاتلوا معنا ضد عدو مشترك ثم غدروا بنا تكبدنا من قبلهم عشرات الشهداء الشباب الاماجد لأننا اتخذنا خطا وطنيا واضحا وثابتا لا يقبل المساومة التي أبداها الجانب الآخر و ارتضى لنفسه السير تحت نعل الديكتاتورية البغيضة , في تلك الظروف القاهرة ومع شدة الألم الذي أحدثه الكسر في يدي بالإضافة لإنعكاس ذلك على المعاناة والألم الذي إنتابني وأنا أفقد خيرة أصدقائي بسبب خيانة الحلفاء وإرتمائهم بأحضان العدو, جرى ترشيحي من قبل حزبنا الشيوعي للخروج من كردستان لغرض العلاج والدراسة وبالطبع رفضت القرار وناقشتهم بصدق بأنني سوف أضيع إن إبتعدت عن الحزب وأنا هنا مرتاح مع رفاقي وأشعر بفرح في عملي رغم الصعوبات الجسدية والنفسية الكبرى , ضحكوا ولم يقتنعوا قائلين ..أينما تذهب تجد رفاق حزبك ثم أردف الرفيق المسؤول قائلاً سوف أطرح القضية على أختك أنسام وهي سوف تقنعك.. وحصل ما قاله لي حيث أنها أكدت أن حركة الأنصار سوف لن تتوقف بعد خروجك وحينما تنتهي من العلاج والدراسة فيمكنك العودة مثلما جئت الى هنا ..سافرت الى القامشلي ومنها الى دمشق ومنها الى اليمن وفي اليمن عرفت أنني يمكن أن أمتحن خارجي للحصول على شهادة الثانوية العامة والتي لم تكن بحوزتي فدخلت للامتحان الوزاري بعد أن درست الكتب والمصادر المقررة لمدة شهر وكانت أسهل من التي لدينا في العراق ونجحت من الدور الأول وبمعدل قدره 71..لم أدخل الجامعة لأني كنت أريد العلاج في إحدى البلدان الاشتراكية والدراسة هناك أيضاً ...لكني لم أمنح المقعد الدراسي لهذه السنة لأسباب أجهلها مما حدى بمنظمة الحزب في اليمن أن ترشحني للدراسة الحزبية في معهد العلوم الاشتراكية المسمى حينها معهد عبد الله باذيب نسبة الى المفكر الماركسي المشار اليه هنا...تخرجت من المعهد وكانت مدته لسنة ونلت درجات جيدة وجيدة جداً في بعضها وإستلمت الشهادة من الرئيس علي ناصر محمد بعد مصافحة بيني وبينه وقد إستدار ناحية القيادي في الحزب الاشتراكي اليمني أبو بكر باذيب قائلاً له ..مين الأخ ..! فرد عليه عراقي.. صافحني الرئيس بحرارة متمنياً لي دوام التقدم بعد أن أخذت له التحية المدنية التي أعرفها وقد فعلتها أنا فقط وهي للإحترام ولذلك فقد سأل عني دون الآخرين الذين كان أغلبهم من المنظمات الفلسطينية ومن حركات التحرر الوطني ..أخذت الشهادة وقرأت درجاتي ثم نظرت لخلفيتها وقرأت ./.أن الطالب الحاصل على هذه الشهادة يمكنه دخول كلية التربية فرع الفلسفة في الصف الثاني مباشرة أي تخطي الصف الأول /..فرحت كثيراً بذلك ونسيت إهتمامي بالزمالة في البلدان الاشتراكية ورحت أسأل رفاقي عن أحقيتي بالقبول بالجامعة في عدن فشرحوا لي كل شيء وتوجهت اليهم وتكلمت مع العميد وأعطيته شهادتي لكي يطلع عليها.. قال لي ..ما في مانع روح داوم صف ثاني فلسفة لكن قبلها إذهب لمسؤول كرسي الفلسفة في الكلية وإخبره وسوف يعطيك التفصيلات حول المناهج وغيرها ..طرقت باب الأستاذ وسلمت عليه وفي يدي شهادة الثانوية العامة وشهادة تخرجي من المعهد وشرحت له كل ما أريده ..نظر لي بتفحص وبإستعلائية وقال نحن لا نقبل إلاّ إذا اردت البدء معنا في المرحلة الأولى ..! قلت له إنظر ماذا مكتوب خلف هذه الشهادة ..قال لا يهمني ذلك وعلى جميع المتقدمين الينا المباشرة إذا قبلناهم في الصف الأول ..أكدت له ما دار من حوار لي مع العميد فأشار الى أنه هنا هو المسؤول الأول عن كرسي الفلسفة والعميد هو مسؤول الكلية الأول ولم يقتنع. ثم شرح لي الفروقات في المناهج بين الدراستين الحزبية والأكاديمية وكان يتكلم بعجرفة واستخفاف ويرفض قبولي في الصف الثاني كما هو مقرر .كان هذا هو الدكتور العراقي نمير العاني الذي أتكلم معه لأول مرة بعد أن كنت قد سمعت عنه وعن شهادته العليا سابقاً ..لم أرضخ لما قاله لعدم قناعتي بذلك لأني مستند الى وثيقة سوف لن يتحداها مهما كانت مسؤوليته في الجامعة ..عدت للعميد وشرحت له ما دار بيني وبين الدكتور العاني فقال لي إذهب اليه مجدداً وقل له أنني قبلتك وعليه أن يقبلك بعد أن أكد لي أنه أستاذ صعب ولكن القانون معك فلا تغضب ..!عدت اليه ومعي قرار العميد زائداً الوثائق المطلوبة وتكلمت معه هذه المرة بقليل من العصبية العراقية المعروفة.. رد قائلاً حتى لو قبلتك في الصف الثاني فسوف تكون محمّل ببعض المواد والتي تدرّس عندنا في الصف الأول ..وافقت على ما قال ورحت ودخلت للصف الثاني وداومت مع الطلبة الذين رحبوا بي كثيراً واستفسروا عن عدم وجودي معهم العام الفائت فشرحت لهم كل شيء وإستمريت أداوم بالكلية لإسبوعين الى أن جاء رفاقي في منظمة الحزب في اليمن لكي يخبروني بحصولي على الزمالة الدراسية في بلغاريا لدراسة الزراعة التي أحبها والتي كنت أود أن ادرسها في المستقبل...كنت محتاراً بين الإستمرار بكلية التربية ولم يتبق أمامي سوى ثلاث سنوات لنيل شهادة البكلوريوس أو أن أترك كل شيء وأذهب لبلد أوربي بعيد وبارد في رحلة قد تستمر طويلاً ...! ولكن الحاح الرفاق كان أقوى في إقناعي بترك اليمن والتوجه للسفر الى بلغاريا مع ثلاثة آخرين من رفاقنا.. تركت الكلية وودعت زملائي الطلبة من الجنسين ولم أودع الدكتور العاني الذي حضرت له درساً واحداً فقط وكان من كتاب للمفكر حسين مروة..!.. كانت دراستي للغة البلغارية صعبة جداً وخاصة فيما يتعلق بالعمر والبرد والتغرب وصعوباته بالإضافة الى قوانين هذا البلد الصارمة بحيث كان النهوض الساعة السادسة صباحاً والدوام كان في السابعة ويمتد الى ما بعد الظهر.. ثم أنهيت دراسة اللغة بحوالي سبعة شهور في مدينة روسة ثم إنتقلت الى الدراسة الجامعية في الصف الأول بكلية الزراعة في مدينة بلوفديف في معهد كان يسمى فاسيل كولاروف...وهنا أيضاً واجهت صعوبات كثيرة وخاصة بعد أن تم إخباري بإستشهاد أخواتي موناليزا وسحر وأيضاً إستلامي لمسؤولية المنظمة الحزبية للمدينة في السنة الأولى لحين توفير كادر آخر لإستلامها مني في السنة القادمة وترافقت هذه الصعوبات مع نوعية السكن الرديء جداً وعدم وجود حمامات في الغرف التي كانت قديمة ومبنية منذ عشرات السنين الماضية بالإضافة الى نوعية الطلبة والذين توافدوا للدراسة من عدة بلدان وخاصة من البلدان المتخلفة كأثيوبيا وأفغانستان وغيرها.. ومما زاد من الصعوبات الوضع المضطرب الذي يمر به بلدنا العراق والذي كان يخوض غمار حرب طاحنة بينه وبين إيران والتي كانت في أشد ضراوتها في مراحل دراستي الأولى وقلقي على أهلي وأصدقائي وإنشغال الناس بها وقلقهم الذي أراه من خلال شاشات القناة الأولى البلغارية التي كثيراً ما تتحدث عن الحرب ونتائجها المدمرة للشعبين الجارين ...ثم انتهت الحرب ولا من رابح ولا من خاسر سوى مئات آلاف الجنود والضباط وأيضاً المدنيين من الجانبين الذين أزهقت أرواحهم بدون هدف يذكر !! بينما صار الوضع بعد أن انزاح غبار المعارك هادئاً ولم يسقط النظام العراقي مثلما توقع الكثيرون من أبناء شعبنا ومن خارجه وكنت حينها أرقب المشهد و أهيء نفسي ومعي شهادتي الجامعية التي أحملها والتي جاهدت كثيراً بالحصول عليها بعد أن تنبثق حكومة وطنية ديمقراطية تصفي ما خلفته الديكتاتورية من أثقال هائلة على صدر شعبنا.. لكن تلك الاحلام الثورية الجميلة ذهبت أدراج الرياح حينما دخل الجيش العراقي الى الكويت وضمها اليه باعتبارها المحافظة التاسعة عشر ..!!...كنت وقتها أستعد لكتابة إطروحتي لنيل شهادة الماجستير في صنف أعناب المائدة بمجال تكاثر هذه الأصناف.. لكن الإحباط واليأس بدأ يدب في جسدي ونفسي وكنت لا أرى أي ضوء يشرق في نهاية النفق العراقي المظلم فيما لو أنهيت الكتابة وتخرجت فإلى أين سأتوجه بها . وفكرت بالعمل والسكن والمعيشة ثم الزواج والاستقرار في كل هذا الوضع السياسي الهائج ولم أقتنع بالبقاء بعد تخرجي في بلغاريا حيث كانت عندهم قد فشلت التجربة الاشتراكية وصار الوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي وظروف العمل معقدة جداً..! ولم تكن حينها لدي أية فكرة عن اللجوء لبلدان اوربا الغربية بعد أن انتشرت اخبار اللجوء اليها كالنار في الهشيم وخاصة بعد فشل انتفاضة آذار عام 1991 ولما هبت جموع شعبنا في هذه الانتفاضة العارمة لتسقط السلطة , كانت إطروحتي قد وضعت عليها الأستاذة المشرفة آخر البصمات بعد أن نالت إعجابها.. كنت حينها أحدث نفسي بأن وقت تخرجي سيترافق مع نجاح الانتفاضة التي ستطيح بالنظام وحينها سأسافر فوراً الى بلدي العراق وأستثمر شهادتي الجامعية للعمل بها ضمن تخصصي وسوف أسكن في بيت لائق يتيح لي الزواج والاستقرار بعد كل تلك السنوات البالغة الصعوبة ..لكن خيبة الأمل انتابتني فجأةً وأنا أشاهد على شاشة التلفزيون الفريق سلطان هاشم وزير الدفاع العراقي وهو يدخل خيمة صفوان بكامل قيافته ورتبته العسكرية ويوقع صاغراً على كل ما تطلبه منه أمريكا وحلفائها السعوديين وغيرهم من شروط مذلة لإركاع قيادة ورئيس العراق والعمل على السماح بالسمتيات العراقية بقصف المدن التي سيطر عليها المنتفضون والقضاء على الانتفاضة وعودة النظام الى قوته وجبروته ..! بقيت دون هدف وجاء يوم التخرج بعد دفاعي أمام لجنة مكونة من خمسة أستاذة وكانت من ضمنهم أستاذتي ماشيفا .. وحصلت على درجة جيد جداً بينما نلت في التطبيق العملي درجة ممتاز ..كنت أنا وزملائي نترقب بلهفة وقلق توزيع الشهادات الحمراء علينا من قبل عميد الجامعة بينما كنّا نفكر كثيرا بهموم وأحزان الوطن المنهك والمثقل بالجراح ..بدأ عشرات الطلبة الإنصات لخطاب السيد العميد وكان من العمداء الجدد الذين جاؤا بعد تغيير النظام الاشتراكي ..كان يوم 19 حزيران عام 1991 حاراً بشكل ملفت وشعرنا به ونحن في أجواء صعبة لما سيقوله العميد الجديد الينا من كلام ..لكنه عبر عن بالغ فرحه بالنتائج التي حصلنا عليها سواء كان ذلك في الإطروحات أو في درجات السنوات الدراسية بمجملها ..فرحنا لكلامه ثم أعلن عن الناجحين الأربعة الأوائل في الكلية وكان واحد منهم من نايجيريا والآخر من فيتنام والآخر من جيكوسلوفاكيا والرابعة بنت من جيكوسلوفاكيا أيضاً , صفقنا لهم ثم بدأ بتلاوة بقية الأسماء ومصافحة الطلاب وكان إسمي قد سبقه أسماء عشرين زميلاً وصافحت يد العميد الذي سلمني وثيقة التخرج وإستمعت الى تمنياته لي بعد أن رأى الحزن مرتسماً على وجهي وعيوني وكان هذا الحزن أعمق حينما عملت لنا عمادة الكلية حفلة لجميع الخريجين وكنّا حينها ثلاثة من العراق ومن الحزب الشيوعي بالتحديد نفكر بطريقنا الموصد للتوجه للوطن ..فما نفع الشهادة إذا لم نعمل بها في وطننا وبين أهالينا ومعارفنا وأبناء شعبنا بالوقت الذي رأينا فيه في السنوات السابقة كيف سافر العراقيين من أتباع السلطة الى بلدهم بعد تخرجهم مباشرة ..! وفي هذه الحفلة كنت حزيناً ويائساً وعملوا للحفل كاسيت فيديو بكل وجوهنا الفرحة والحزينة ورقصنا وضحكنا وما فعلناه أثناء الاحتفال ولكني لم أستطع من شراء نسخة منه لأن ثمنه كان باهضاً وما يعادل عشرة دولارات لم تكن لدي ..! وأيضاً أخذوا لنا عدة صور تذكارية لم أحصل على واحدة منها وفي الأيام اللاحقة تناثر الزملاء كل ذهب الى وطنه وتدهور الوضع السياسي أكثر في بلغاريا وصارت المعيشة فيها صعبة للغاية وكان الشباب البلغاري يسخرون من الشيوعيين وحزبهم وتحولت أعداد هائلة منهم فجأةً الى المعارضة راكبين الموجة للاستحواذ على المناصب والهبات التي تمنحها لهم السلطة الجديدة وكم أستفزنا عملهم الشائن بوضع الازبال والقاذورات فوق ضريح ديمتروف والكتابة النابية على جداره والضغط على الحكومة لدفنه وهذا ما تم لاحقاً بحيث دفن بمراسيم لائقة بمقبرة قرب قبر والدته....لاحظ زميلي سمير المغربي وهو شيوعي من حزب التقدم والاشتراكية ..ملامح الحزن مرتسمة على وجهي فجاء يترجاني بالذهاب معه الى المغرب وهو سوف يتكفل بتوفير عمل لي كمهندس زراعي...شكرته على مسعاه ولم أقتنع بالفكرة لأني لا أعرف بلده ولم أزره فخفت أيضاً من الضياع.. أن المحزن حقاً هو أن كل الذين تخرجوا معنا تلك السنة استطاعوا السفر الى بلدانهم ومنهم بعض المنتمين الى الأحزاب الشيوعية العربية كالأردن وفلسطين وغيرها إلاّ نحن الشيوعيين الثلاثة فقد لاحظنا أن كل الأبواب كانت موصدة بوجوهنا وبقوة ..! ومن هنا بدأت فكرة رحلة اللجوء المجهولة والمحفوفة بالمخاطر ووصلت للدنمارك بينما وصل زميلاي الى السويد وهنا صرت بين فترة وأخرى أخرج شهادتي من الكوميدي وأنفخ عنها الغبار وأنتظر ساعة الخلاص من النظام لكي أعود وأباشر العمل فيها ولما سقط النظام في نيسان عام 2003 خاب أملي أولاً حينما لم نسترجع بيتنا الذي إستولى عليه دون حق النظام المقبور وثانياً حينما إستلم سدة السلطة إبراهيم الجعفري وقرأت من على إحدى الشاشات الواسعة الانتشار أنهم أرسلوا زمالات دراسية الى نفس الدولة والمدينة والكلية التي تخرجت منها بالوقت الذي كان عليهم أن يعيدوا لنا حقوقنا ويستدعونا فوراً للعمل بوطننا وكل ضمن إختصاصه وهذا لم يتحقق بالطبع.. ومن هذه اللحظة أبقيت شهادتي للحفظ والصون كتذكار شخصي يعيدني الى مرحلة شائكة وصعبة ولكنها لا تخلو من المتعة بعد مضي ربع قرن على نيلي لتلك الشهادة الجامعية