فضاءات

التشكيلي يوسف الناصر: رسمت الحروب على العراق مطرا أسود

" طريق الشعب "
أعتدنا في لندن ان نقضي ، مرة كل شهر ، وقتا ممتعا ، بدعوة للحرث في أحد حقول الثقافة العراقية ، يهيىء مستلزماته المقهى الثقافي العراقي ، بامكانات واضح للعيان ،فقرها.. حيث تطالعنا جنب بوابة القاعة طاولات صفت عليها، بعناية، مجموعة كتب ، قديمة وحديثة الأصدار، يتبرع بها كتابها ، يقبل عليها زبائن المقهى فيقتنوها لقاء أثمان عرفنا انها تسهم لحد ما، بدعم ديمومة نشاطات المقهى ، أضافة الى صحن فارغ الى جانب عدة الشاي والقهوة ، يمتليء بقطع نقدية معدنية .. هذان مصدران ، اضافة الى تبرعات بعض الأصدقاء، هي الممولة لنشاطات المقهى الثقافية التي تواصلت لسنوات عديدة .
هذا المساء الأمسية عنوانها ، حسب الاعلان (البوستر) : " الفنان يوسف الناصر – حديث عن التجربة البصرية والأبداع في شكل الحافة " من تقديم الشاعر فوزي كريم .
وكما اعتادت " طريق الشعب " في نقل وقائع أماسي المقهى اللندني ، وبعيدا عن المقدمات ، اليكم وقائع أمسية اليوم كما جرت:

السينمائي علي رفيق " أفتتح الأمسية .. متحدثا باسم المقهى فقال في استذكار من رحل من مثقفي ومبدعي شعبنا منذ أمسية المقهى الشهر الفائت :
" سلاما ووداعا يوسف العاني
سلاما ووداعا عبد الجبار البنا
سلاما ووداعا عمانوئيل رسام
انتم باقون معنا .. بما تركتم من منجز أبداعي ..وهو أضافة أثرت ثقافة شعبنا ..الذي سيحفظ في ضميره ذكراكم ابدا.."
ثم نوه الى ان المقهى يسعى بشكل جاد الى تطوير فعاليته ويرجو ، بل يطلب من الجميع المساهمة في ذلك وأشار انه ستوزع في كل أمسية على الحضور استمارة استبيان لتجمع منهم الآراء والملاحظات والمقترحات ..ووعد بان المقهى سيعمل بها وحسب الإمكانيات.. واعلن عن بدء أمسية اليوم مرحبا بالفنان التشكيلي العراقي يوسف الناصر ودعا الشاعر العراقي فوزي كريم لتقديمه.
فوزي كريم : تعرفت على يوسف الناصر حين جاء في أوائل التسعينات الى لندن.. في الوطن كنت أراه في اتحاد الأدباء ببغداد يأتي مع صحبة من الأدباء والشعراء وكنت أتوهمه شاعرا بينهم.. لكننا لم نتعارف هناك..فهم كانوا كتلة بالغة الحيوية ونحن كنا ايضا كتلة بالغة الحيوية ايضا..لكن هنا في لندن تعرفت عليه بشكل جيد..ولم أستغرب حينما كشف لي يوسف أنه كان يكتب الشعر أولا..قبل ان يجرب قلمه مع الرسم ، منذ فترة مبكرة ، في دراسته بالمتوسطة، يوسف أراني تجاربه في مجموعة كثيرة من القصائد، حتى كان يلقي عليّ شيئا من شعره، ومن شعر الشعراء الآخرين يقرأها بطريقة بالغة السلامة.من النادر أن أجدها من أبناء جيله من الشعراء ، خاصة في موضوع الوزن واللغة العربية، فقراءتي لقصائده كانت تعطيني هذا الأنطباع انه خلق لديه نوع من التشتت ، او لنقل، الأنقسام الداخلي ، كأنسان ينتمي الى الكلمة وفي نفس الوقت الى الخط.. انا نفسي أرسم لكن ليس لديّ هذا الأنقسام في الحقيقة لأني أشعر دائما أن الرسم بالنسبة لي هو فاعلية جانبية ، أذهب اليها حينما أحتاجها، لكن الشعر عند يوسف، نشاط يكاد ان يكون دائما، ولكن غير منشور .. والسبب هو التالي: لأن يوسف كيان ، في الحقيقة، ملتبس..بالغ الألتباس على الآخر وعلى النفس ايضا .. انا دائما أقول اننا نرى الناس والأحياء في مرآة مقعرة.. لا تستطيع ان ترى الحياة كما هي : تضع مرآة مقعرة وتنظر الى الأشياء والى البشروالطبيعة .. طبعا هذه الطبيعة والأشياء والبشر يظهرون ليس باشكال شائهة وانما مضطربة المقاييس..كلنا نتوقع ان الانسان الذي عنده هذا الهاجس الداخلي لابد ان ينعكس على رسمه..وحينما كنت أزوره وما زلت الى بيته او عندما يأتيني هو ويطلعني على بعض تخطيطاته انتبه الى الشيء الآتي: أنه اولا النسبة الكبرى من أعماله التي ينشغل بها بشكل يومي هو التخطيط.. هو الخط.. والخط جوهر تعبيري..بالقياس الى اللون .. فاللون جوهر انطباعي ، أذا أخذنا الأنطباعية والتعبيرية بنظر الأعتبار ،باعتبارها تيارات مؤثرة.معظم تخطيطاته وهي كثيرة جدا ، يعني احيانا تصل الى مئات بل آلاف الأوراق.. منها متضمنة في كراسات ومنها متناثرة، فيها مسعى وكأنه يحاول رسم " سكيج " دائم للوحة مقبلة.. لا أمل في رسمها .. ولذلك حتى في لوحته ، بالحقيقة، تشعر ان هناك هاجس التخطيط.. وكأن التعبير في داخله لا يستطيع ان يستعين باللون .. حتى اللوحات الكبيرة التي عملها ..اللون يكاد يكون فيها خفي ، بالغ الشفافية، ويكاد يتلاشى.. والخط هو الذي يأخذ الموقع الأساسي طبعا بالتأكيد هذا الخط او هذا اللجوء الى الخط هو نزعة تعبيرية لكيان ملتبس داخلي .. ولذلك ربطت هذا بهذا .. اللوحات السابقة.. انا لا أعرف ماذا سيعرض يوسف عليكم الآن ..لكني اتحدث عن الأعمال التي رأيتها له على مدى سنوات طويلة ، في تخطيطاته ولوحاته..يكاد يتجنب اللون كما قلت ويعتمد الخط والخط دائما خشن وحاد بالتاكيد، بسبب هذه النزعة التعبيرية التي ترتبط بشكل مباشر بالتكوين السايكولوجي .. تكوين يجب ان ينتزع على الـ " كانفس " او على الورقة ، ولا ينتزع الا بهيئة
تخطيط بالغ الحدة. يوسف من مواليد 1952 .. ولد في العمارة .. و العمارة فيها اهوار ومن حيواناتها المألوفة جدا ، الكلب، وهو حميمي في كل بيوت العراقيين في الجنوب ، والاهوار المشهد الحميمي الذي فيها هي الأسماك، كلاهما رمز وداعة وجمال .. لكن في فترة ما .. وانا لا أعرف فيما اذا ما زال يوسف.. متشبث بهذا الكلب وهذه السمكة اللذين كنت أراهما دائما في لوحاته ..ولكنهما لا ينطويان على تلك الوداعة التي نفترضها في كلب الأهوار وأسماك الأهوار ..دائما هناك وجوه لكلاب شرسة مدببة الشكل متجهة تجاه الناظر الى اللوحة .. الأسماك دائما قائمة..مدببة.. طبعا من المؤكد ان لهذا تفسيرا سايكولوجيا ..قسم منه واضح وقسم منه غائب ..ولكنه ، كما قلت ، أنتزع الحميمية من هذين واعطاهما طاقة بالغة الشراسة وكأنه يحارب بها شخصا ما .
لا اريد ان أأخذ الوقت الكثير من يوسف .. ولا من وقتكم .. يوسف جاء الى لندن في بداية التسعينات وانا أعتقد أذا كان هو الان منصرف الى الرسم فقد بدأه بشكل حقيقي في لندن ..لانه عاش في قبرص وقد زرته هناك ايام زمان .. وتعرفت عليه .. ليس بشكل عميق.. لكني وجدته كان يخطط ويرسم ..لكن بدايته الحقيقية كانت في لندن ، وانا أعتقد أن يوسف جدي في أكثر من جانب ، أحب ان اذكره قبل ان أختم ، وربما بفعل أنتسابه الى الكلمة كما قلت، باعتباره يتعامل مع الكلمة في مطلع صباه ، هو أهتمامه بالموقف النقدي ، وهذا يثير اعجابي فيه حينما نتحاور ، هو من القلة الذين أحب الحوار معهم .. وادعوه الآن ليقدم ما عنده لكم ولتحاوروه انتم ايضا.
أستعرض الفنان الضيف يوسف مراحل دراسته للفن وبداياته وانتقالاته وعرض نماذج لبعض من اهم مشاريعه الفنية ولوحاته واستخدامه للونين الابيض والأسود وخاصة في معرضه المهم "مطر أسود" بعد وقوع بلده تحت وابل القصف وعصف التفجيرات في حروب دائمة .. فكانت ما تمطره السماء من حمم في لوحات يوسف مطرا أسود احرق الزرع والضرع في بلاد مابين النهرين .. وواصل ضيف الأمسية حديثه، بعد عرض لنتاجاته من تخطيطات ولوحات على شاشة المقهى الكبيرة:
يوسف الناصر:
اذا كانت هذه الأمسية مخصصة للحديث عن عملي الفني وعرض بعض نماذجه ، فاني الى جانب هذا
ومع ضيق الوقت ، لا أستطيع التغافل عن ذكر بعض الملاحظات المتعلقة بالشأن العراقي العام وبالذات ما يخص الدراسات والبحوث الفنية والنقد المتخصص وحال مدارس الفن في العراق ومعاهده.
وضمن المنحى ذاته أقترح على أصدقائي في المقهى الثقافي اعادة أطلاق وتنظيم حلقات نقاش ودراسة لموضوعات الفن العراقي خارج الآماسي الشهرية المعتادة ، وذلك بالنظر الى الحاجة الماسة اليها.. حيث لم تحصل مثلها ، فيما عدا بضع دراسات عن الفن العراقي ، أنجزت في مرحلة مبكرة من بداياته، يكاد المشهد الفني العراقي يبدو خاليا، او في احسن الاحوال فقيرا، ولا نحتسب هنا النقود الصحفية التي تنشر في مختلف وسائل الاعلام رغم جدية بعضها واهميته ، ولا يكاد يوجد جانب من جوانب الفن العراقي تمت دراسته والبحث فيه بما يستحقه من اهتمام، وبالامكان القول دون تجن ان الكثير مما يكتب الان يتصف بالسطحية والسهولة، او يمكن وصفه بالادب اكثر منه نقدا.
حدث ان كنت ابحث في سياق اعداد هذه المادة في تاريخ معهد واكاديمية الفنون في بغداد فلم اجد سوى ما يتعلق بتاريخ تأسيسهما واسماء بعض الاساتذة واسماء بعض الابنية التي شغلاها ، اضاف الى بعض الحوادث والقصص الطريفة . ان مدرستين من اهم مدارس العراق في العصر الحديث ، تخرج منهما معظم فنانيه منذ الثلاثينيات وحتى اليوم في الرسم والنحت والموسيقى والتمثيل وغيرها ، تكاد ان تكون مغفلة ومنسية. لا تكاد تجد شيئا عن مناهج التدريس وطرقه ومواده وحتى الأساتذة الذين درسوا فيهما - فيما عدا عدد قليل جدا - لا يوجد ذكر لهم ، دعك عن دراسة آثارهم ومنجزهم الفني لا احصائيات ولا متابعات للمتخرجين ولا لأثر المدرستين في الحياة الثقافية او التربوية او العامة في المجتمع .يحدث ذلك بينما نشهد غزارة وفيضا لم يشهدهما التعليم في العراق سابقا في منح شهادات الماجستير والدكتوراه عن دراسات متهافتة ، وموضوعات ما أنزل الله بها من سلطان، تتجاوز وتتجاهل كل ما يجب دراسته والبحث فيه من موضوعات جدية وضرورية وتنحو نحو السهل والمبتذل وما لا حاجة لأحد به ، وحتى في البعض الذي يبدو جديا ورصينا فأن المتابع الحريص لا يخطيء حجم الأستعارات والأخذ من دراسات أخرى ، أوربية على الأغلب، دون الأشارة للمصدر.. وبالمناسبة فقد قرأت عن منح شهادة ماجستير لبحث في الوان السجاد المفروش في حضرة أحد الأئمة .
أحترف البعض النقد الفني لا عن دراية او تخصص عميق ، بل لأسباب أخرى لا علاقة للفن بها، مثل خلو الساحة من النقاد الذي أغرى بعض الأدباء لحيازة مواقع لأنفسهم ، وأستسهال عملية الكتابة الذي تشجعه المؤسسات والصحف وحتى الأحزاب . ومن أغرب الأشياء ان حركة فنية ثرية ومتأصلة مثل الحركة الفنية العراقية لم تنتج نقادا بمستواها ، وبقي الفنانون يتصدون للمهمة بأنفسهم ، ونحن نعرف ان حركات ومدارس فنية عديدة ظهرت في العراق كتب بياناتها الفنانون المؤسسون.
ان دعوتي للأهتمام بأمر النقد وأخذه بما يستحقه من جهد وأدخاله في مناهج التدريس، لا تمليه فقط أسباب اكاديمية ، انها ضرورية لفهم ما آل اليه الفن العراقي حاليا من ترد وتراجع ، انها ضرورة وطنية تمليها الحاجة للتصدي لمحاولات اطفاء الفن العراقي وتدميره التي يشترك فيها كثيرون ، بعضهم من دون قصد وبعض عن قصد ووعي مثل الاحزاب والمتدينيين الذين يحكمون العراق الآن.
وعن ( متحف الغرباء ) تحدث الفنان الناصر بانه مشروع طرحه على السيد محافظ البصرة الدكتور خلف عبد الصمد اثناء زيارته للوطن صيف عام 2012 ، وقال انه قدم كل حيثيات المشروع وتصاميمه ووثائقه للجهات الرسمية وحسب طلبها ، ورغم ترحيبها بالفكرة والحاحها على استكمال مخططات وتفاصيل المشروع ، والتي قال عنها التشكيلي يوسف استغرقته لفترة طويلة امتدت لأشهر ، وأكد للمسؤولين انه لايريد مكافأة او اجورا عليها ، انما هو يقوم بها بشكل تطوعي ، وفاء منه لوطنه ، الذي تغرب عنه قسرا ، لكنه أكد انه لم يستلم اي رد ، انما على العكس كان لا أحد يجيبه على اسئلته ، حتى من المسؤولين الذين كانوا يتابعونه ، ومن الغريب في الأمر انه سمع مؤخرا ان مشروعا مشابها لفكرته قد نفذ بشكل بائس ويسيىء للفكرة أصلا ، وهو بصدد التحري عن ذلك .. ولمعرفة تفاصيل المشروع طبع بعض النسخ عن المشروع ووضعه تحت تصرف الحضور.
محاور الأمسية وموضوعاتها أثارت كما جرت العادة في اماسي المقهى الثقافي ، نقاشا وتساؤلات وحوارا من الحضور ..أضافت للأمسية زخما معرفيا وجدلا مفيدا حريصا الى التوصل لفهما مشتركا بين الحضور وأفكار التي طرحتها الأمسية .
في نهاية الأمسية توجهت " طريق الشعب " الى الفنان يوسف الناصر للتعرف عن انطباعاته عن مغزى الأمسية وما جرى فيها من حوار حول الموضوعات التي طرحها، فأجابنا مشكورا:
-المقهى الثقافي الآن يشكل في حياتنا في لندن واحدا من أهم المنابر الثقافية ان لم يكن أهمها جميعا، فالآن نحن نعيش في واحدة من أسوأ فترات تاريخنا الثقافي والفني ، حيث أنحسرت او أختفت فرص المثقفين والفنانين الجادين في ايجاد الوسائل المناسبة لطرح أفكارهم الى الآخرين .. يقوم المقهى بالتصدي لهذه المهمة بعمل تطوعي لا يعود بأي منفعة مادية على القائمين به ، ويسد فراغ مؤسسة الدولة الغائبة لجهتنا، فهي ليس غائبة لأيصال ونشر الأفكار الرجعية والمتخلفة والتافهة..كنت سعيدا بلقاء أصدقائي والحدث اليهم وأيصال صوتي الذي هو جزء من صوتنا جميعا ، وهمنا المشترك. وبذل أصدقائي جهودهم دون مقابل من أجل مساعدتي على أيصال صوتي ومنحي هذه الفرصة.