فضاءات

غناء ناصر حكيم كان المخدّر / ئاشتي

الثلج غول من نار ينشب أنيابه في الأجساد التي تتوهم أنها في مأمن من نيرانه. يهوى القمم العالية وينام مطمئنا على السفوح. تزعجه أحيانا اشعة الشمس فيتكلس قسم منه والقسم الآخر ينساب بهدوء ليصل إلى الأنهار والعيون. قساوة الثلج تكمن في تسرب ضراوة نيرانه إلى الأطراف التي تنغمر دون الاحساس به، لهذا تتضح آثاره بشكل مفاجئ وكأنها تريد الانتقام ممن سولت له نفسه وغامر بالسير حافيا بين طياته، مثلما غامر الرفيق أبو حازم واسمه الصريح (حسين علي كَزار).
جنوبي البشرة والطباع، كان في مدينته لا يسمح لأزلام السلطة أن تمسه أو رفاقه، صلب مثل صخرة في الموقف من أجهزة الأمن، التي عجزت عن ترويضه. يعرفه أبناء مدينته الشطرة مثلما يعرفه أبناء مدينة الناصرية. لا يتردد لحظة واحدة في الرد على من يحاولون الإساءة للحزب الشيوعي. يملك من طاقة التحمل ما يحمله جبل أصم، لهذا لم يتردد لحظة عندما طلبوا منه الذهاب إلى مقر الانصار في "كوماته" مشيا رغم نزول الثلج بشكل كثيف.
سار أبو حازم في الطريق الذي يمر عبر الأراضي التركية. كان الثلج يصل إلى منتصف جسد الانسان، وكان هو كالعادة يرتدي الحذاء المصنوع من إطارات السيارات لأنها لا تتجمد في الثلج. مر أكثر من ست ساعات على المسير فليس في الثلج مكان للاستراحة، ولكن حين وصل مع رفاقه إلى مكان ليتناولوا قليلا من الخبز، اكتشف أبو حازم أنه كان يسير حافيا!
واصل السير بعد أن لف كوفيته حول قدمه الأيمن. وحين وصلوا إلى هدفهم في كَوماته نزع الكوفية عن قدمه، فبان الاحمرار على أصابع قدمه، ولم تمر أيام خمسة حتى تغير لون الأصابع إلى الأزرق.
عند ذلك قرر الدكتور (أبو ظفر) قطع هذه الأصابع حتى لا تمتد الغرغرينا إلى بقية القدم والساق. ولكن كيف؟ ومقر كَوماته ليس فيه غير منشار لقطع الأخشاب. ناقش الأمر مع قيادة القاطع فلم يحصل على امكانية قيام هكذا عملية جراحية. ناقش الأمر مع أبي حازم وسأله عن استعداده لتحمل الألم، وكان أبو حازم تتجمع في روحه شيوعية الانتماء والخجل الجنوبي. لهذا أبدى استعداده لاجراء العملية مهما كان الألم. ولكنه نظرا لانعدام المخدر تمنى الحصول على قنينة عرق عراقي وكاسيت مسجل لناصر حكيم.
تم توفير قنينة العرق رغم أنه ممنوع في مقرات الانصار، وبدأ صوت ناصر حكيم من مسجلة صغيرة يعيد إليه ذكريات صباه ( لو ضكتك دنياك ها بالك تصيح). لهذا طلب (خاولي) يعض عليه بأسنانه لكي لا تسمع صرخته.
بدأ الدكتور عمله وهو يعرف مقدار الألم الذي يسببه لهذا الرفيق، الذي كان العرق يتفصد من جبهته وهو يكز بأسنانه على( الخاولي). الدماء غطت البطانية والدكتور يجاهد أن لا يضعف أمام آلام رفيقه، لهذا أكمل قطع الأصابع الزرقاء وهو يردد معه أغنية ناصر حكيم (أرخي الرمح بجلاك وأصبر لما أتطيح).