فضاءات

لبطولتهما تنحني الهامات .. الشهيدان منقذ عبد المجيد وحسام كاظم / لؤي الزبيدي

في كل شباط تتحفز الذاكرة، لتطوف بك سماء بغداد وأزقتها ، بذكريات استوطنت زوايا العقل والروح ، لمحطات مرت في حياتنا ولرفاق وأحبة عاشوا معنا، ضحوا بحياتهم من اجل ان نعيش نحن، هم ارتقوا سلم السماء كواكب براقة ،. لهذا تسقط كل الأبجديات في حضرتهم.
احاول اعادة حكاية الحزن هذه، حكاية أحلامنا الورية وأمنياتنا الفتية الغارقة في حب الحياة، ولكنني افشل في الوفاء لهم، فالكلمات تصطدم برصاصات غادرة نالت من قلب حسام كاظم في جبال كردستان وأعواد المشانق تمكنت من منقذ عبد المجيد
كنّا قد تعارفنا اولا أنا والشهيد منقذ بعد ايام من قبولنا في إعدادية الرسالة في بغداد عام ٧٦ وكانت مصادفة حين لمحته يشتري جريدة "طريق الشعب" من أحد بائعي الصحف في ساحة الميدان قرب ساحة الطوب وقد أصبحت زيارة هذا الكشك عادة يومية لنا نحن الثلاثة ثم نستقل بعدها باص ٥٦ سوية باتجاه بيوتنا ،. بعد ايام من علاقتي بمنقذ عرفني على الشهيد حسام (هذا من جماعتنا) وكانت هذه العبارة كلمة الوصل التي جمعت الكثير منا.
ارتأيت الكتابة عنهما لأننا طيلة فترة دراستنا لم نفترق حتى اشتداد الهجمة ضد حزبنا.
بين ضحكات منقذ وجدية حسام كنت أقف بينهما لطول منقذ الفارع ونعومة جسم حسام ،.. كنّا نقضي الساعات سوية حيث اعتدنا الخروج من المدرسة التي انتقلت من شارع الرشيد الى مكان قريب من جسر العيواضية، نسير الى منطقة الميدان ، تجري نقاشات بيننا حول فلم شاهدناه أو مسرحية حضرنا عرضها، يتمحور النقاش أحيانا حول نقد كتب في جريدة (طريق الشعب) ،. ايام الخميس كنّا قد اعتدنا المواصلة الى الباب الشرقي وشارع السعدون خصوصا إذا كان هناك فلم او مسرحية معينة ذَات مضمون جيد ، مثل النخلة والجيران او بغداد الازل أو نسعى إلى مشاهدة فلم العصفور او عودة الابن الضال ،. أتذكر بعد أن شاهدنا فلم عودة الابن الضال اقترح علينا منقذ ان ننهي جولتنا بقنينة من بيرة فريدة نشتريها ونشربها تحت شجرة من أشجار ابو نؤاس ، مع رفض حسام (اخاف يشوفنه الحزب وعيب شيگولون علينه) فاز مقترح منقذ بالأغلبية .
نقاشات واحلام لا تنتهي تشعلها رياح الثورات والتغيرات التي تحدث في فيتنام وكمبوديا وانتصارات موزمبيق،. احلام مكنتنا جميعا من الصمود في وجه الهجمة الفاشية،. احلام وأمان رافقت وبكل تأكيد منقذ عندما صمد وشقيقته سحر في زنازين الموت ودوائر الأمن العامة وحين اعتلى أعواد المشانق.
احلام مكنت حسام من تجاوز البعد عمن كان يحب، سنوات تحد ومصاعب في جبال ووديان كردستان.
في ايام صعبة من العام 19٧٩ التقيت بحسام في أحد شوارع بغداد ليبلغني بأخبار سيئة عن محاصرة منقذ وان علينا الحذر بالرغم من ان منقذ كان وعلى العكس من حسام كثير الحديث عن تفاصيل حياته وعائلته ،. كان آخر لقاء معه في الشهر الرابع من العام نفسه ليسلمني نسخه من كتاب "كيف سقينا الفولاذ" مع إلحاحه بضرورة قراءته، منقذ الذي اعتقل فيما بعد مع شقيقته في موقف بطولي تحدث عنه جيران العائلة حيث دافع عن شقيقته امام قوة من الأمن في العام 1981 وكان لمواقفهما المشرفة وصمودهما البطولي ان أوقفا سلسلة الاعتقالات لمن كان على علاقة بهم .
التحق حسام بقوات الأنصار في كردستان نهاية الشهر العاشر من العام ٨٢ ويومها كنّا في مفرزة جوالة تعانقنا بحرارة، وقد تم تسليمه بندقية بطول قامته اثارت تذمره، وكنت امازحه بأنها تلائم شاربه وعلاماته الفارقة،. سهرنا حتى الصباح قرب موقد النار نتحدث وكان ثالثنا منقذ حدثني عن منقذ وظروف اعتقاله، أخبرت مستشار سريتنا السياسي الرفيق الفقيد ابو علي الشايب (كاطع عجلان الساعدي) باني اعرف كل التفاصيل عن هذا الرفيق وليعود لي الرفيق ضاحكا بعد ايام (تقول انك تعرف عنه كل شيء)وكان صديقك المقرب ولم تكتب عن شقيقته الكبرى ،كان مصادفة لم اكتشفها انها كانت مسؤولتي الحزبية، يتمتع حسام بانضباط حزبي وكتمان أسرار يصعب تصوره.
كنّا في نفس الحلم وقد كرر أكثر من مرة نحن هنا لنعيش بكرامة او نموت مرفوعي الرأس ،..
وشاءت الظروف ان تكون تلك رسالة حسام التي تركها فقد استشهد وهو مرفوع الرأس، فالشجاعة صفة مكتسبة تخلقها الظروف اما رباطة الجأش فهي صفة يمتلكها المرء، وهذا الذي كان عليه حسام وهو يتقدم احدى المفارز التي تعرضت إلى كمين محكم وباتفاق مع أحد الخونة وكانت الخطة استسلام جميع من كان في المفرزة الا أن حسام برباطة جأشه بادر بالرد على إطلاق النار وكان ذلك كافيا لإنقاذ رفاقه في المفرزة وليتلقى هو وحده رصاصات الغدر ويستشهد، كان ذلك في آب 1987 في منطقة قريبة من العمادية.
منقذ الذي قرأت اسمه ضمن قوائم الشهداء في العام ٢٠٠٣ بجوار اسم شقيقته ، صمد منقذ وبصموده كتب لنا ان نحيا ولم ينبس ببنت شفة تلحق الضرر بحزبه ورفاقه، استشهد الاثنان ومعهما كوكبة من الشهداء ، فهل لنا ان نستعيد دفء تلك الأيام وعنفوان شبابنا في التغيير؟ ام اننا وامام طوفان التخلف نطوي صفحة الوطن وأحلام رفاقنا الشهداء؟
تنحني رؤوسنا أجلالا امام بطولاتهم ولنتذكرهم بكلمات تليق بتضحياتهم.
• حسام كاظم ( اوميد) من مواليد 1959 بغداد منطقة الشعب وهو شقيق وحيد لثماني اخوات استشهد في عام 1987 اثناء عبور الشارع العام القريب من قرية زيوة التابعة لقضاء العمادية
• منقذ عبد المجيد من مواليد البصرة عام1961من سكان منطقة التربية في بغداد ، الشقيق الأصغر لعائلة تتكون من ثلاثة اشقاء وشقيقتهم سحر التي أعدمها السفلة البعثيون وبنفس الساعة مع شقيقها منقذ يوم7/8/1983 منقذ الذي كان مولعا بالقراءة يعزف الجيتار، يبتسم ويضحك من القلب لأبسط حدث يبعث على الضحك.