فضاءات

وفاءً لذكرى الشهيد زهير جرجيس مقدسي / كمال يلدو

قد تدفعنا وطنيتنا وأعتزازنا بالشهداء للكتابة عنهم، والاحتفال باستشهادهم، خاصة وأنه كان من أجل قضية وطنية تخص الكل. هذا صحيح، خاصة اذا اقترن بتحقيق كل او جزء مما ناضل الشهيد من أجله. لكن والحال (اليوم) يجعل فرصة الفرح محدودة إن لم أقل ممزوجة بمرارة ، سيما وإن من قطف ثمار التضحيات وقوافل الشهداء هم ناس غرباء على الوطن والوطنية، فان هذا يصبح جزءاً من لواعج الذكرى!
لكن للمشهد لوحات أخرى، والوقوف امامها والتبحر في صور وأسماء الشهيدات والشهداء، وبمجرد النظر الى عيونهم يمكن أن نطوف في عالم الاحلام ونسأل: كيف كانت ستكون حياتهم لو لم يُقتلوا؟ أين كانوا سيقطنون الآن لو لم يغيّبوا، وماذا كان يمكن للوطن ان يستفيد منهم لو لم تُنه رحلتهم بهذه العجالة، وبهذه الطريقة؟
اسئلة كثيرة تبقى عصية على الاجابة، إلا من يقين واحد بأن نحترم حرية الاختيار عند الشهيد أولاً، ونطالب بتقديم الجناة للعدالة وإنصاف الشهداء وعوائلهم ثانيأً.
في رحلة استذكار الشهيد زهير جرجيس مقدسي، الذي تنحدر عائلته من مدينة (القوش) السخية بالمناضلين والشهداء، حيث ولد عام ١٩٤٨، ودرس الابتدائية في مدرسة القديس يوسف في بغداد وبعدها في متوسطة الرشيد، ثم أكمل الثانوية في مدرسة النجاح المسائية. أدى الخدمة العسكرية بعدها، وعمل عاملا في معمل نفط الدورة ، ثم نقل الى السماوة. انقطعت أخباره بعد العام ١٩٧٩، وعُرف لاحقاً انه استشهد على يد النظام الدكتاتوري بتأريخ ٢٣ كانون الاول ١٩٨٢ كما في الوثيقة التي نشرها الحزب الشيوعي العراقي في تموز ٢٠٠١٣، عقب جمعه وحصوله على بيانات المخابرات والأمن حول (بعض) جرائم الاعدام.
يتحدث شقيقه (فؤاد مقدسي) فيقول: بالقدر الذي تنجدني الذاكرة، فقد كان انساناً طيباً الى درجة كبيرة، اجتماعيا وصاحب معشر. لم نتفق انا وهو على قضية العمل السياسي. غادرت العراق اواخر السبعينات، وطلبت منه الالتحاق بي وبدء حياة جديدة، لكنه كان يرفض ويقول ان له مشوارا في الوطن. ثم سمعت بالاخبار وأنا خارج العراق. ما عساي أن افعل وما عساي أن اقول، سوى أن الكثير من السياسيين في بلدان الشرق لا يقبلون بالفكر الآخر ، ومهما قالوا وفعلوا فهم في آخر سلم البشرية من ناحية التطور والديمقراطية .
أما شقيقته (فائزة) فتقول: كنت شابة في مقتبل العمر اواخر السبعينات، وكل ما أتذكره من توجيهات أبي حينها، بأن لا اعطي أية معلومات عن أخي او عائلتي الى ( الاتحاد الوطني) في المدرسة. وإذا طُرق الباب فعليّ أن لا افتحه. هكذا كانت الاجواء. لكن من عشية سفر أخي (في وقت ما من العام ١٩٧٩) اتذكر جملتين مازالتا ترنان في ذهني : دروا بالا لخاثي ـ أي أعتنوا باختي واحموها ـ والثانية : أنا راجع في العيد! وها قد مر ٣٨ عيدا ولم يأت!
في الحقيقة، تغيرت حياتنا كلياً، حيث لم نعرف عن مصيره أي شئ، سوى إن الأمن كان يأتي ويضرب أبي أو يهينه ويعتدي عليه ويسألونه عن أخي ، ونحن لا نملك الجواب. وفي احدى المرات اعطوا والدي (علبة جكليت فارغة) وقالوا : هذه من ابنك، وعندما فتحها وجد فيها طلقات فارغة، ولك ان تعرف معنى الرسالة.
نعم تغيرت حياتنا نحو الاسوأ، ما بين غياب اخي ومعاناة العائلة ، فما كان منّا إلا مغادرة العراق عام ١٩٨٠ للخلاص من هؤلاء الاوباش، وها قد مرت السنين ، وتغيرت امور كثيرة، لكن هناك حزناً عميقاً في عائلتنا. اولاً نريد أن نعرف شيئاً عن مصيره، أين هو ، وإذا كانوا اعدموه (كما تشير وثائق الحزب الشيوعي نقلا عن بيانات الامن العامة) فأين هي رفاته وأين هو قبره؟ والشيء الاسوأ هو مصير هذا الوطن، فهل يُعقل أن تقدم عائلتي وآلاف العوائل الاخرى قوافل من الشابات والشباب شهداء من أجل قضية انسانية، ثم يستباح الوطن من قبل اللصوص والقتلة، هل هذا معقول؟ ماذا عن الجناة والقتلة؟ من سيحاسبهم...؟
ألم كبير يعتصر قلبي .. وقلوبنا .. ولا ادري كيف سنداويه.
الذكرالطيب والخلود للشهيد زهير جرجيس مقدسي
المواساة لعائلته الكريمة وأهله ومحبيه
ونبقى بأمل تقديم الجناة والقتلة للمحاكم وفضح جرائمهم القذرة
شباط ٢٠١٧