فضاءات

مناضلون من بلادي.. والدي وانقلاب شباط الاسود / جلال رومي

عمل والدي دحام رومي في مجال التعليم بعد تخرجه من معهد المعلمين العالي في بغداد في اواخر اربعينات القرن الماضي وتخصص في مادتي الرياضيات والطبيعيات واصبح من المعلمين المرموقين في لواء المنتفك ( الناصرية ) ونتيجة لتربيته العائلية وانتمائه إلى الحزب الشيوعي العراقي مبكرا اصبح من اعلام مدينة الناصرية بأخلاقه العالية ومساعدته المحتاجين بكافة المجالات الممكنة. تأثر بالأفكار الماركسية بشكل كبير بعد الانتصار على الفاشية وقد استفاد تأثر بأبناء اعمامه دلي مريوش وحزام عيال الذين قضوا سنوات طويلة في السجون الملكية في أربعينات وخمسينات القرن الماضي وبدوره اثر بشكل كبير على اخوته واخواته واقاربه واصدقائه وشجعهم على الانضمام إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي. في وسط هذه الأجواء أشرقت ثورة تموز حتى أصبحت أعداد الحشود الداعمة للثورة كبيرة جدا فتوزعت بين الانتماء إلى النقابات العمالية والمهنية إضافة الى الاعداد الكبيرة من النساء اللواتي انتمين الى رابطة المرأة، والطلبة الى اتحاد الطلبة العام. شكل الجميع ورش عمل لدعم الثورة ومساعدة الجماهير بكافة المجالات فكان بيتنا عبارة عن خلية نحل يتحرك فيها الرفاق من العمال والطلبة والفلاحين والمقاومة الشعبية حيث يقوم المتطوعون بحراسات ليلية لحماية مؤسسات الدولة من تخريب المعادين للثورة من القوى الاقطاعية والرجعية. فتحت النقابات ورابطة المرأة والمنظمات الأخرى مراكز ثقافية وتعليمية وورش عمل لتصليح الاجهزة الكهربائية وغيرها بشكل مجاني للجميع فالمهني يعمل مساء بالمجان بعد انتهاء عمله الوظيفي لمساعدة الكادحين وكذلك الأطباء والمعلمين. كان هناك شعور وطني لا يوصف واعتزاز وزهو بالثورة فكانت حمامات السلام وأغصان الزيتون رمزا مميزا للثورة. في تلك الأيام كان الجميع ضد أي سلوكيات تسيء إلى الثورة فلم يتعرض أي من المعادين للثورة إلى الإساءة فهناك حدث يتذكره أهالي المدينة في بداية الثورة حيث حاولت مجموعة من الجنود الثوريين المندفعين سحل أحد الرموز الرجعية و هو آمر حامية الناصرية رشيد مصلح الذي أصبح بعد انقلاب شباط الأسود الحاكم العسكري وعندما سمع رفاق الحزب وكان والدي على راسهم قاموا بفك وثاقة وأطلقوا سراحه وأدانوا هذا العمل وبدوره شكر والدي على موقفه. كيف كان رده بعد الانقلاب ؟ سوف نراه في السطور الآتية.
القوى الرجعية والمعادية للثورة امتصت الصدمة وبدأت تجميع قواها بهدوء، احتفالات الذكرى الأولى للثورة جرت في جميع انحاء العراق واشترك فيها الملايين من كافة طبقات المجتمع من عمال وفلاحين ومثقفين، ملايين الناس خرجت إلى الشوارع لإحياء ذكرى الثورة التي حققت الاستقلال والغت المعاهدات مع الدول الامبريالية وأصدرت قوانين لخدمة الكادحين، وكذلك لخدمة المرأة. وفي المقابل فإن القوى الرجعية والقوى القومية المرتبطة بالمخابرات الغربية لم تهجع ولم تنم لها عين فكانت تستغل كل مناسبة لضرب الثورة وجماهيرها ومؤيديها و لم يستمع عبد الكريم قاسم للمخلصين له وللثورة وأبقى اكثر الأجهزة القمعية بيد القوى الرجعية وابعد القوى التقدمية من هذه المراكز الهامة فبعد محاولة اغتياله الفاشلة في خريف 1959 بدأت تضغط على القوى المساندة للثورة من شيوعيين وانصارهم وقد تعرضت عوائلنا في الناصرية إلى مضايقات لا تحصى وكانت زيارات رجال الامن وتفتيشهم بيتنا أسبوعيا، فانتهكت حرمة البيوت، إضافة إلى التهديد واستفحلت القوى الرجعية والقومية، ولم يكن هناك أي رادع والحكومة في بغداد لا تعمل شيئا. في أحد الأيام تفاجأنا بدخول رجال الامن بيتنا وبأعداد كبيرة ونحن غير مستعدين فبدأ الصراخ من الجميع واصطدم أبي وعمي وعماتي بهم من اجل التخلص من المحاضر والمنشورات الحزبية قبل ان تسقط بيد رجال الامن فتلقفها عمي الشجاع محسن وهو ابن العشرين ولحقة ضابط الامن فقام أبي وعمتي بمسكه ومزقا رتبته العسكرية، صعد عمي إلى ىسطح الدار وقفز إلى بيت عمه المجاور وكان تنورهم مهيئا للخبز وكان الوقت ظهرا فألقى كل الأوراق في التنور، كانت هناك مستمسكات حزبية مخبأة خلف إحدى الصور في غرفة عمي جبار تعرفها عمتي الرابطية زكية ام وليد فطلبت مني أن ابكي بصوت عال حتى تأخذني إلى الغرفة لتخفي هذه الأوراق فنفذت ما تريد ودخلنا الغرفة وتلقفت الأوراق بلمح البصر واخفتها في ملابسها الداخلية. فتشوا كل شيء حتى العجين فلم يجدوا شيئا سوى حمامة السلام المصنوعة من القطن فكانت هذه بمثابة سلاح كان الشيوعيون يحاربون به فقد عثروا على هذا السلاح القاتل للقوى الرجعية وبالأحرى البعثية. اخذوا والدي وعمي وهنا جاء شيء جديد وهو اتهامهم بتمزيق رتبة الضابط وأطلق سراحهما بعد أسابيع من اعتقالهما بتدخل المعارف ودفع الرشاوي، هذه واحدة من الممارسات التي شجعت والدي على الانتقال إلى بغداد وترك مدينته التي احبها وناسها وكنا ثلاثة أخوة وثلاث اخوات وكان ذلك في عام 1960.وكان أكبر اخوتي هو جمال وعمره 9 سنوات سكنا في ساحة الوثبة ودرسنا في مدرسة الشواكة مع الوالد. عشنا وشاركنا في كل المناسبات وشاهدنا الجماهير كيف حملت سيارة عبد الكريم قاسم على اكتافها، عشنا أجواء الثورة من جديد والتقينا بأناس جدد وبدأنا بتقليد اللهجة البغدادية التي لا نجيدها، كنا ثلاثة أخوة لم نفترق دائما سوية وكان أخي كمال من المتفوقين جدا في الدراسة بالرغم من صغر سنه. كان يكلف من قبل مدير المدرسة بتدريس الصف، بالرغم من أن المدير كان بعثيا لم يتمكن من معرفة اتجاه والدي السياسي وكان والدي يعمل بالخط العسكري للتنظيم، تعرفنا على مناضلين جدد مثل ابن عم ابي دلي مريوش وزوجته المناضلة خانم زهدي وعمتي البطلة خيرية مريوش حيث عملت لعشرات السنين مراسلة حزبية. هؤلاء قضوا حياتهم اختفاء وسجون وفي خدمة الحزب.
بدأت الأوضاع في العراق تتغير بشكل دراماتيكي لصالح القوى الرجعية والقومية المرتبطة بالمخابرات الغربية هكذا يقول الشارع وعبد الكريم قاسم لا يريد الاعتماد على الحزب الشيوعي لمساندته في حماية الثورة. لا أحد يعرف لماذا الاغتيالات والسجون الممتلئة بالشيوعيين وانصارهم، حرب في كردستان واعتقالات واضطهاد لمن يطالب بالسلم لكردستان، أغلقت جريدة الحزب وأغلقت أغلب مقراته وعبد الكريم لا يقبل نصيحة ولا شكوى حتى بدأت كلمة الدكتاتور تتردد على كثير من الالسنة، حاول الحزب أن يخفف الكثير من نشاطاته العلنية لأنه متوقع للأسوأ ويبلغ قاسم بذلك والأخير لا يستجيب.
والدي كان منضبطا جدا في عمله بالخط العسكري لا أحد يعرف علاقاته التنظيمية. في نهاية 1962 كنا نسكن في علاوي الحلة أبلغني والدي بأن ألتقي بشخص في الباب الشرقي وأجلبه إلى البيت بدون التحدث معه. التقيه واقفا في الجانب الأيسر من نصب الحرية يحمل بيد جريدة واليد الأخرى كتاب وسألته أين سيارات العلاوي فكان جوابه في باب الشرقي، فرحت بهذه المهمة وكان شخصا اسمر طويل القامه في نهاية العشرينات من العمر قلت له اتبعني ونفذت وصية والدي بعدم التحدث معه ودفع كل منا أجرته حسب توجيهات الوالد، وصلنا العلاوي وانا معتز بنفسي لان والدي اعتمد علي في هذه المهمة دون اخوتي وانتهت مهمتي بوصوله إلى البيت، مرت الأيام وأصبحت زيارات هذا الشخص إلى بيتنا أسبوعية ونحن نقدم له الشاي أو البيبسي ووالدي ينادينا باسمائنا.
حدثت كارثة الانقلاب الأسود ولم تكن مفاجأة، والدي أبلغ القيادة الحزبية بما لديه من معلومات عن الضباط البعثيين والرجعيين حيث أنهم لم يغادروا المعسكرات ولم يتمتعوا بإجازاتهم، هناك انقلاب سيحدث، عبد الكريم قاسم يعرف، والحزب يعرف وابن الشارع يعرف لكن من سيتمكن من إفشال الانقلاب ؟ غرور قاسم وقناعته بان الجماهير سوف تمنع ذلك، وكن كيف لعزل بدون سلاح مجابهة مؤامرة مخطط لها بأقبية أعتى المخابرات العالمية ؟!
في الساعات الأولى للانقلاب وظهور طائرات الميغ 17 وقصفها وزارة الدفاع كان هناك امل لدى الجماهير بأن تفشل المؤامرة لكن والدي جمعنا واوصانا بان نكون أقوياء ونتعاون مع امنا من اجل تمشية امورنا بدونه.، كان مقتنعا بأن الكارثة حلت بالشعب نتيجة مواقف قاسم وستسيل دماء كما قال وقلت له ربما سيأتي شخص آخر أفضل من قاسم فأجابني بأن هذا غير ممكن وقاسم رغم أخطائه فهو وطني. ما يتعلق ببيانات الحزب رميت في التنور على عجل. عند الساعة 11 من نفس اليوم طلب مني والدي أن أخرج إلى الشارع العام لأرى ما إذا جاء الشخص الذي التقيته في ساحة التحرير ثم أعود لأخبره كي يلتقيه وفعلا وصل الرجل وعرفت اسمه حمزة من والدي، أخبره والدي أن يلتحق بوحدته ويقاوم وعرفت بعد ذلك من والدي بأنه نائب ضابط في القوة الجوية والتحق بوحدته وقاوم والقي القبض عليه. مرت ساعات صعبة والجميع لا يعرف ماذا سيحدث، على ما يبدو أن مخططي الانقلاب كانوا دقيقين في كل المفردات، في الساعة الواحدة بعد الظهر جاءت الدبابات متجهة الى الاذاعة التي قصفت صباحا حاملة صور عبد الكريم قاسم والجنود يرددون عبارات عاش الزعيم والجماهير انطلت عليها الخدعة وبدأنا نصفق ونبشر بعضنا بان الدبابات جاءت لإسقاط الانقلاب.
نجح الانقلابيون وسرقت ثورة تموز وسالت الدماء وحشر عشرات الألوف في المعتقلات والسجون والمدارس والمعسكرات ومراكز الشرطة، عاش الجميع في رعب، أبي لم يعتقل في الأيام الأولى للانقلاب لأن اتجاهه السياسي لم يكن معروف الاتجاه في المدرسة والمنطقة.
في 17 آذار اعتقل والدي بعد وصول إخبارية عنه من مدينة الناصرية وزج به كغيره في المعتقلات وبعد أيام عرفنا بوجوده في سجن خلف السدة ولم نستطع رؤيته لعدم وجود مواجهات لكن النساء المناضلات زوجات الشيوعيين واخواتهم يقضين ساعات طويلة في البرد والمطر من اجل كشف مصير السجناء، في هذا السجن أو المعسكر زج آلاف المناضلين في ظروف قاسية ومعاملة لا انسانية لخيرة أبناء الشعب من أساتذة وأطباء ومعلمين وكسبة وفلاحين. في نهاية نيسان طرق باب الدار وفي هذه الظروف لم نكن نفتح باب دارنا لأي طارق حتى نتأكد من يكون لأن عمي دلي مريوش كان مختفيا عندنا وهو من المطلوبين لكونه عضو منطقة بغداد للحزب وشخصية معروفة من زمن الملكية حيث قضى نصف عمره بين التشرد والسجون، ففتحنا الباب بعد صعود عمي إلى سطح الدار فإذا بضابط يسأل عن صاحب الدار فتسابقنا بالإجابة بيت دحام رومي ثم يسأل من هم أولاده فيحصل على الجواب رأسا جمال وكمال وجلال وأين هو الآن ونجيبه عندكم مسجون وبعد أن يعرف كل شيء يشكرنا ويذهب وتابعناه فإذا بسيارة جيب تنتظره وفيها نائب الضابط مقيد اليدين وعلى ما يبدو لم يتحمل التعذيب بعد اعتقاله وهو جريح واعترف على والدي الذي لا يعرف اسمه ولكنه يعرف اسماءنا عندما كان والدي ينادينا بها.
أخذوا والدي إلى سجن رقم واحد التابع للقوة الجوية وبقي فيه 17 يوما لاقى فيها شتى صنوف التعذيب حتى اقترب من الموت ثم تركوه وأعادوه إلى سجنه القديم جثة هامده بين الحياة والموت فكان هناك رفاق أطباء مثل دكتور تحسين عيسى السليم ورفاق رائعون مثل العم صبري درويش ومن خلال علاقات مع حراس السجن حصلوا على أدوية ومواد مساعدة حتى استعاد جزءا من عافيته.
سجن أكثر الرفاق من دون محاكمة ولا أحد يعرف مصيرهم بعد وكانت هناك محاولات من خلال وساطات لإطلاق سراح والدي وكان عندنا أمل وخاصة بعد أن علمنا بأن رشيد مصلح اصبح الحاكم العسكري العام بعد الانقلاب الذي كان والدي قد انقذ حياته بعد محاولة بعض الجنود المندفعين سحله بعد ان ربطوه بسيارة جيب ومن خلال جدتي وانتظار لايام لمحاولة لقاء رشيد مصلح تمكنت من التحدث إليه وعرفت نفسها إليه بأنها أم دحام الذي انقذ حياته وهو الآن مسجون ولا يوجد سبب لسجنه وطلبت منه المساعدة لإطلاق سراحه فرد عليها بعبارات قاسية ومخيبة للأمل (كيف انقذ حياتي إن لم يكن شيوعيا؟) وتركها وركب السيارة، هذا هو سلوك الطغاة