فضاءات

غفار كريم .. جندي مجهول في صحافة الحزب الشيوعي / كفاح حسن

في خريف 1973، ترك غفار كريم مدينته حلبجه، متوجها إلى بغداد ليلتحق بالدراسة في كلية الصيدلة في جامعة بغداد. لقد جاء إلى بغداد فرحا، حيث كانت بغداد هدفا قضى الليالي مجاهدا للوصول إليه. حيث ينحدر غفار من عائلة فقيرة، وكان مصابا بعوق في ساقه منذ ولادته. أجبرته الظروف الاقتصادية الصعبة على العمل كمساعد خياط في حلبجه إلى جانب دراسته في إعدادية حلبجه اليتيمة. رغم ذلك جاهد غفار للسعي في دراسته للحصول على معدل جيد يوصله إلى كلية الصيدلة في بغداد. كانت بغداد له محطة يستثمرها للوصول إلى أحلامه الأكاديمية والسياسية، فلقد ضاقت مدينة حلبجه به.

ولم تكن المساعدة الدراسية التي تصرف للطلبة الجامعيين كافية له للعيش والدراسة. فسعى للبحث عن عمل ليلي في بغداد يعينه على مقاومة ظروف المعيشة الصعبة. فعرض عليه الصحفي الشيوعي محمد كريم فتح الله ـ أبو سامان ـ العمل في صحيفة الفكر الجديد ـ بيري نوي ـ في مقر هيئة التحرير الواقع في شارع السعدون عند «بارك السعدون». حيث يمتلك غفار مقدرة ملحوظة في الترجمة إلى اللغة الكردية. وتمتاز لغته الكردية بالسلاسة والسباكة المتينة. وإلى جانب عمله كمترجم وصحفي، عرضت عليه الإقامة في مقر هيئة تحرير الفكر الجديد بدلا من السكن في القسم الداخلي للطلبة، ليتمكن من تقليص تكاليف معيشته الصعبة.
ومنح غفار كريم اسما حركيا هو «نوزاد»، حيث عرف به وسط أسرة تحرير طريق الشعب والفكر الجديد والثقافة الجديدة. وشاركه في المعيش والعمل هناك الفقيد حاجي جمال، الذي فقدناه في حادث سيارة في محافظة أربيل في مطلع تسعينيات القرن الماضي بعد حياة ازدحمت بالمآثر البطولية، والذي عرفه رفاقه بطيبة قلبه الشديدة وحبه الكبير لرفاقه.
لم يكتف نوزاد في إداء عمله الصحفي الرتيب بالترجمة والإعداد باللغة الكردية. بل توجه إلى تحسين وصقل لغته العربية ليقوم بالكتابة باللغة العربية أيضا. وجرى تنسيبه للعمل في صفحة الطلبة والشباب في طريق الشعب. وهناك كان لقاؤنا. حيث التقينا في منتصف عام 1975 في مقر هيئة تحرير الشعب الواقع في شارع السعدون بالقرب من سينما بابل.
و لم يكتف بالعمل الصحفي والدراسي، بل وسعى لأن ينشط حزبيا في المنظمة الطلابية للحزب في بغداد. وتم تنسيبه للعمل في منظمة الحزب الطلابية في الجامعة المستنصرية، حيث كلف بالعمل على تشكيل شبكة من المراسلين الصحفيين لصحافة الحزب داخل هيئات الحزب في الجامعة.
حيث اعتمدت صحافة الحزب في السبعينيات على شبكة من المراسلين الصحفيين المتطوعين امتدت إلى كافة منظمات الحزب في العراق. حيت تم ربطها مع المكاتب الصحفية في اللجان المناطقية والمحلية. وعملت مع نوزاد في المكتب الصحفي الطلابي في بغداد، والذي كانت تصله يوميا مئات الرسائل والقصاصات الورقية من أعضاء وأصدقاء الحزب. وكنا نعمل بشكل شاق لجرد هذه المساهمات وإرسال ما يصلح منها للنشر في صحافة الحزب بعد إعادة صياغتها. لقد ساعدتنا هذه القصاصات على صقل قدراتنا اللغوية والصحفية والفكرية. كما جعلتنا قريبين جدا من واقع ومعاناة الطلبة في مختلف كليات ومعاهد ومدارس محافظة بغداد. وكان الشهيد ساهر ـ باسل كمونة ـ من أنشطنا في استقبال وإعداد هذه القصاصات . أما نوزاد، فكانت هذه القصاصات فرصة له لتقويم وتهذيب لغته العربية. وكان معنا رفيق آخر قادم من أهوار الناصرية، وكان طالبا في الجامعة التكنولوجية، واستشهد خلال الهجمة الشرسة التي شنها البعث ضد الحزب الشيوعي في نهاية سبعينيات القرن الماضي، حيث انكب لإعداد وصقل القصاصات الواردة، ولم يقم بكتابة مساهماته الخاصة إلا ما ندر.
لقد كان المكتب الصحفي الطلابي ـ مصط ـ والمكتب الصحفي لمنطقة بغداد ـ مصب ـ رافدين مهمين لصحافة الحزب آنذاك. حيث تنوعت المساهمات إلى كافة أقسام النشر في صحافة الحزب، سواء طريق الشعب، الثقافة الجديدة والفكر الجديد. حيث اعتمدت صفحات حياة الشعب والتعليم والمعلم والطلبة والشباب والمهنية والمرأة بشكل كبير على ما يردها من مصب. وكذلك الصفحات الثقافية والعمالية والزراعية ومنوعات. وساهم مصب في تزويد مجلة الثقافة الجديدة بالدراسات الأكاديمية القيمة.
لقد كانت المكاتب الصحفية سببا رئيسا في نجاح عمل صحافة الحزب في السبعينيات. حيث جعلت صحافة الحزب قريبة من الناس ومعاناتهم. ورغم الرقابة الشديدة المفروضة على ما ينشر في صحافة الحزب من لدن هيئة التحرير، إلا إن مساهمات المكاتب الصحفية تمكنت من النفوذ إلى النشر بعد الغربلة.
إن زحمة العمل في مصط، جعلتنا نلتقي بشكل يومي في مبنى هيئة تحرير طريق الشعب. ونخرج سوية بعد عمل شاق لنكمل السهرة في مقاهي أبو نؤاس العامرة، أو نكتفي بسندويجات الشاورمة عند الباب الشرقي، أو نحو مطعم صغير عند بارك السعدون كان يبيع كبة الموصل. وأحيانا كنا نصطاد الوقت لمشاهدة فيلم في دور العرض السينمائي المنتشرة في أطراف شارع السعدون. لقد أصبحنا عائلة واحدة. وكنا نكن الاحترام الكبير للرفيقتين أماني وفاطمة اللتين شاركتانا العمل في مصط. ولقد تألمت كثيرا حين استشهد بالقرب مني زوج الرفيقة أماني عند سفوح جبل سفين في حزيران 1984 في كمين غادر وقعت فيه مفرزة من مفارز أنصارنا في قاطع أربيل. حيث كنا في مصط نتابع كيف التقت الرفيقة أماني بزوجها من خلال العمل الحزبي، وكيف نمت العلاقة بينهما لتصل إلى الزواج بعد جهاد عسير وإصرار عنيدين، حيث واجهوا معارضة عائلية شديدة، بسبب من اختلاف الانحدار القومي والديني لهذين العاشقين. لقد كان زواجهما تعبيرا عن وحدة الشعب العراقي، ولكن رصاصات الغدر في سفين سفكت هذه المغامرة العاطفية.
في منتصف عام 1977 واصلت قيادة البعث التضييق على عمل منظمات الحزب بشكل واضح وسافر، بعد قمع الانتفاضة الجماهيرية العفوية عند منطقة خان النص التي تتوسط المسافة مابين وادي الطف وهضبات النجف. كما أتخذتم قرارات إدارية بمنع تداول صحافة الحزب في دور العلم ودوائر حكومية. وبدأت القصاصات والرسائل تصل مصب ومصط تعكس الخناق الذي بدأ يضيق بمنظمات الحزب وأصدقائه. وتوجت حملة البعث السافرة ضد الحزب في إعدام كوكبة من أعضاء الحزب في أيار 1978.
وفي أيار 1978 تم إيفاد الرفيق نوزاد إلى باريس لتغطية مهرجان الشبيبة الشيوعية هناك. حيث كلف بالمشاركة في فعاليات المهرجان وإلقاء كلمة باسم شبيبة الحزب، إلى جانب تغطية وقائع المهرجان. وبعد سفره، كلفت هيئة تحرير الجريدة منظمة الحزب في باريس بتبليغ الرفيق نوزاد بالبقاء هناك وعدم العودة، بسبب قرار الحزب الانسحاب التدريجي من العمل العلني، وحماية كادر الحزب من الهجمة البعثية الشرسة. إلا إن الرفيق نوزاد رفض الالتزام بهذا القرار، لآنه كان مكلفا ـ من البداية ـ بالمشاركة في هذا المهرجان والعودة إلى العراق. وكانت معه بطاقة وموعد العودة. واعتبر بقائه في باريس نوعا من الغدر برفاقه الذين تركهم في العراق. فقفل عائدا إلى الوطن، بالرغم من إلحاح منظمة الحزب في باريس عليه بالبقاء. وما أن وصل إلى مطار بغداد حتى قامت أجهزة أمن المطار بإلقاء القبض عليه، واقتيد مخفورا إلى أقبية دوائر الأمن في بغداد. واستشهد الرفيق الصحفي الشجاع غفار كريم ـ نوزاد ـ تحت التعذيب ليلتحق بكوكبة شهداء الصحافة الشيوعية في السبعينيات .. إسماعيل خليل، باسم كمونة، ياسين طه، خليل المعاضيدي.. وكوكبة بررة معهم.. فهم الخالدون، وقاتلوهم المخزيون.