فضاءات

في الذكرى التاسعة والثلاثين لاستشهاد الرفاق الأربعة حامد خضير خير الله، كريم عبد الله ديوان عبد الزهرة محمد حسن، وصميدح خديم

ناصر حسين
مرت قبل أيام الذكرى التاسعة والثلاثون لاستشهاد كوكبة من مناضلي الحزب الشيوعي العراقي الذين أعدموا بقرار جماعي اتخذته قيادة البعث والدولة نكاية بالحزب الذي عرى نهجهم وفضح سياستهم التي تتعارض مع مصالح الشعب وحذر من مغبة الوجهة التي كان يدفعهم إليها المقبور صدام حسين، في التقرير السياسي الذي أقرته اللجنة المركزية للحزب الشيوعي العراقي في اجتماعها الذي عقد في شهر آذار من العام 1978 .
من بين من أعدموا في الوجبة الأولى في شهر أيار من العام 1978 أربعة رفاق من منظمة الحزب الشيوعي العراقي في مدينة الديوانية والمذكورة أسماؤهم في أعلاه.
كتبت أكثر من مرة عن اعتقالهم وإعدامهم. وفي العام الماضي خصصت ما كتبته في المناسبة للحديث عن الشهيد حامد خضير خير الله البدري. وأود اليوم الحديث عن الرفيق صميدح خديم.
ولد الشهيد وتربى بين أحضان عائلة كادحة من عوائل مدينة الديوانية. ولم يعد خافياً على أحد أن محافظتي الديوانية والمثنى، وهما كانتا محافظة واحدة تمتد حدودها من مدينة الكفل حتى حفر الباطن، تصنفان الآن في دوائر التخطيط والإحصاء على أنهما أفقر محافظتين في الدولة العراقية.
لذا لم يكن غريباً أن تربط عوائل الكادحين في الديوانية مصيرها بمصير الحزب الشيوعي العراقي وتخوض النضال تحت رايته ضد الفقر والجهل والتخلف والمرض والبطالة التي كانت السيطرة الاستعمارية على العراق تتسبب بها، والتي أخذ يتسبب بها بعد تحرر العراق بقيام ثورة الرابع عشر من تموز 1958 المجيدة، رجال احتلوا مواقع متقدمة في زعامات السلطة منذ انقلاب الثامن من شباط 1963 الأسود، وجعلوا من أنفسهم خدماً للبرجوازية الطفيلية التي كانت مصالحها تتطلب المصاهرة بينها وبين البرجوازية البيروقراطية المنتشرة في أجهزة الدولة المختلفة والتأثير على قرارات قيادة السلطة كي تصب في مصالح تلك المصاهرة و الطغمة المتشكلة على ضوئها بعيداً عما تقتضيه مصلحة الشعب.
أتذكر النصف الثاني من العام 1959 يوم أدار الزعيم ظهره للديمقراطية، واضطررنا الى غلق مقراتنا في المدن المختلفة، والتي كانت تحمل اسم "اتحاد الشعب"، والتحول تدريجياً إلى العمل السري. ولم يعد الفلاح لدى مراجعته دوائر الدولة يجد من يصحبه من العاملين في مقرات "اتحاد الشعب" لتسهيل معاملته، وأصبح مضطراً للمراجعة المباشرة لهم، فيستقبل بالإهانات والعراقيل والقرارات الظالمة التي لا تنصفه أبداً، فاسمعونا هوستهم الشعبية التي عبرت أسطع تعبير عن الواقع الجديد "بعدك يشيوعي ذلّينه".
ولذا أيضاً لم يكن غريباً أبداً أن ينتسب الشهيد صميدح خديم إلى صفوف الحزب الشيوعي العراقي في سبعينيات القرن الماضي ويكون واحداً من أنشط رفاق الحزب في مدينة الديوانية وخصوصاً منطقة أهل الشط.
أواخر العام 1975 صدر قرار حكومي يقضي بتأميم ما تبقى من حصص الشركات النفطية الذي لم يشمله قرار التأميم عام 1972 .
انطلقت في الديوانية تظاهرة كبرى احتفاءً بالقرار، كنا مساهمين فيها بموكب خاص بشعاراتنا الخاصة، أتذكر أحدها أهزوجة "جبهة وطنية، وبيها انحطم الاستعمار".
عندما وصل الموكب إلى الساحة المواجهة للمحافظة فوجئنا بهجوم واسع ممهد له من قبل زمر الأمن وبعض عناصر البعث، كان أحدهم يمثل البعث في لجنة الجبهة في المحافظة، يقودهم كل من ضباط الأمن: علي حسن الخاقاني، محمد عباس، وفاضل.. وأخذوا يعتدون على رفاقنا بالضرب الشديد وبدون تمييز، وكانوا يهزجون بشعارهم المسخرة ( شعب شعب كله بعث موتوا يا رجعية) فاضطررت للتدخل وسحب رفاقنا وأصدقائنا من الساحة ومن التظاهرة.
عدت إلى البيت متعباً، لذا لم أستطع الاطلاع إلا صباح اليوم التالي على أن امن المحافظة قام بمداهمة دور الرفاق حامد خضير وأبو واقد عبد الزهرة محمد حسن وصميدح خديم واعتقالهم، وعند الصباح قاموا باعتقال الرفيق كريم عبد الله ديوان الذي كان يعمل محصلاً في مصلحة نقل الركاب الحكومية، كلفنا الرفيق عبد الأمير ناصر الجميلي بالاتصال بهم ،بالبعثيين ، باعتباره مسؤولاً للعلاقات في ذلك الوقت، ومعرفة سبب اعتقال رفاقنا والمطالبة بإطلاق سراحهم، الا أنهم فاجؤونا بالرد بأن الاعتقال جاء عن قضية أمنية وهم لا يحق لهم التدخل فيها.
بعد تعذيبهم في مديرية أمن الديوانية نقلوا الى الأمن العامة، وهناك تعاملوا معهم بسياسة العصا والجزرة، من جهة التعذيب المبرح لجعلهم يعترفون باعترافات باطلة، ومن جهة يفاوضونهم ويقدمون لهم المغريات،وكما قال الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري في قصيدته المعروفة "هاشم لوتري" :
حشدوا علي المغريات تسيل صغراً لعاب الارذلين رغائباً
وبأن أكون ضحى وزيراً مثلما أصبحت من أمر بليل نائباً
رفضوا بإباء وشمم كل المغريات التي قدمت لهم، وأجابوا بكرامة نفس جواب المناضلة السودانية فاطمة إبراهيم عام 1971 يوم عاد جعفر نميري إلى السلطة بدبابات وطائرات أنور السادات ومعمر القذافي، بعد أن أسقطه انقلاب الشهيد هاشم العطا واعتقل زوجها القائد في الحزب الشيوعي السوداني رئيس اتحاد النقابات العمالية في السودان الشهيد الشفيع أحمد الشيخ، وكلف شقيقها معاوية إبراهيم ليطلب منها أن تقنع الشفيع ليقدم طلب استعطاف الى نميري كي يعفو عنه ويطلق سراحه فأجابت "الاشرف للشفيع أن يرتقي سلم المشنقة من أن يركع عند حذاء نميري" وقامت بإخفاء ابنه كي لا يحس به ويلحقه بابيه الذي ارتقى أرجوحة الإبطال حاله حال هاشم العطا وعبد الخالق محجوب وغيرهم، ولم تظهره إلى العلن إلا بعد إن رحل عن مقاليد السلطة كل من نميري وحسن الترابي الذي ورط قائد الجيش عمر البشير للقيام بانقلاب عسكري، ويقيم في السودان سلطة طائفية بغيضة وضعت أهل الجنوب السوداني أمام خيارين أما إشهار الإسلام والتخلي عن مسيحيتهم أو الموت تحت زناجير الدبابات وصواريخ الطائرات، فتسببوا في النهاية بسياستهم الخاطئة والضارة إلى أن يصبح السودان الموحد دولتين: دولة السودان الإسلامي في القسم الشمالي ودولة السودان المسيحي في القسم الجنوبي، ومثلما رفضت المناضلة فاطمة إبراهيم عروض نميري ومغرياته رفض الرفيق صميدح خديم وباقي الرفاق كل المغريات التي قدمت لهم من أجل إلغاء أحكام الإعدام التي صدرت في حقهم. لقد كنا على اتصال بهم ونعرف جيداً ما قدموا لهم من مغريات، وقد بذل الحزب كل ما لديه من إمكانات وجهود من أجل إنقاذ حياتهم ولم يستطع، ونفذت وتلطخت من جديد أيادي البعثيين بدماء الشيوعيين في أيار 1978 ودخلوا سجل الخالدين. بعد استشهاد صميدح فارق والده الحياة، ومازلت التقي بين حين وحين بشقيقه وولده علاء. فالمجد للشهيد صميدح خديم يوم ولدته أمه ، ويوم عاش حياته عضواً في صفوف الحزب الشيوعي العراقي مناضلاً باسلاً من أجل أن يكون وطنه حراً وأن يعيش شعبه سعيداً. والمجد كل المجد له وهو يواجه رصاص الجلادين يهتف لشعبه وحزبه ووطنه الحر الموحد المستقل وبسقوط الفاشست.