فضاءات

"طريق الشعب" في حقيبة المدرسة / د. مزاحم مبارك مال الله

رضعنا من عائلاتنا كلمات، التحرر، السلام، الحقوق، النضال، الشهداء، الأشتراكية، فهد وماركس ولينين، الحزب وغيرها مئات بل آلاف الكلمات والعبارات والمعاني والأفكار.
وفي الثالث متوسط في عام 1969/1970،
وبين أمواج الطلبة في الألتحاق والأنصراف، وبين خضم الدروس والتحضيرات والأمتحانات اليومية والشهرية، بين هذا المدرس الطيب وذاك الصعب، كنت أسأل نفسي: "هل يعلم الناس أن في داخلي أسراراً لا يمكن البوح بها .. كما أوصاني الكبار في البيت؟!، هل هناك من يعلم بعقد الأجتماعات السرية في بيتنا والتي لا أعرف ماذا يتحدث أخي الأكبر فيها مع (جماعته) وراء الأبواب الموصدة؟! ولأني لم أكن أفقه في السياسة وفي التنظيم، فلم ادرك أن هناك الكثير غيري من الزملاء لديهم نفس الظروف والأجواء والحياة.
وكان يوماً آذارياً رائعاً عام 1970 حينما أنتهى الدوام وخرجنا أسراباً بأتجاه البياع واذا بـ (محمد) يأتي مسرعاً من خلفنا هامساً في أذني:
" من فضلك مزاحم أريد دفتر الأنكليزي مالتك، بس أشوف الواجب وأرجعه ألك".
- شلون تشوف الواجب وأحنا جاي نمشي؟
• "ولا يهمك أنت أمشي حتى ما تتأخر وراح أرجعه ألك هسّة"
وفعلاً أستمررت بالمشي، مفتخراً كوني مرجعاً للطلبة في الانكليزي وقلقاً على دفتري من ناحية أخرى. وكلها دقائق بسيطة وأذا بـ (محمد) يقول لي:
• "اين حقيبتك؟"، واضعاً دفتري فيها بسرعة خاطفة، "شكراً"، وأختفى بين جموع الطلبة.
وصلت البيت، استخرجت كتبي ودفاتري من الحقيبة فالواجبات كثيرة وفيها دروس أعشقها ففيها تحضيرات للرسم والجغرافية والعلوم، ولفت أنتباهي أن دفتر الأنكليزي (منفوخ)، في داخله شئ بانت بعض أطرافه !!
أنتابني شعور غريب ومباشرة خطر على بالي أن (محمد) قد وضع شيئاً ما في دفتري، بين الخوف والفضول، تسارعت ضربات قلبي، أقتربت يداي من اللغز، فأذا بها مجموعة من الأوراق مطوية وفيها كتابة ذات حروف دقيقة جداً، خشيت أن أفتحها ولكن أحساسي أن شيئاً سرياً موجوداً فيها.
أنتابني شعور غريب في كيفية التعرف على ما مكتوب في هذه الأوراق المطوية، وضعتها بسرعة في جيب (البجاما) وصعدت الى السطح الثاني من دارنا.
فتحت تلك الأوراق العديدة المطوية وكانت بحجم A4 في وسطها عنوان (طريق الشعب) بحجم كبير يختلف عن باقي الكتابة التي أصطفت باعمدة ومربعات ومستطيلات، تحت العنوان قرأت " لسان حال الحزب الشيوعي العراقي"، على أحد الجانبين عبارة(ياعمال العالم أتحدوا) وعلى الجانب الثاني (وطن حر وشعب سعيد).
وبدأت أقرأها وبدا لي أني لست الاّ أحد الذين تداولوها فقد ظهرت علامات تداولها من قبل عدد من الأشخاص.
عناوين كثيرة وكلمات غير مفهومة كثيرة، موضوعاتها جميعاً تصب في كشف الظلم الذي يتعرض له الشعب.
في ذلك اليوم شعرت أني أمتلك سراً شخصياً خصوصياً أضافياً الى أسرار عائلتي، وعرفت أن أصحاب هذه الجريدة قد أختاروني من بين مجاميع الطلبة، وأن لابد من أسباب كثيرة جداً تجعل تنضيد هذه الأوراق بحرف صغير الحجم، و..و ...
في مغرب ذلك اليوم المميز في حياتي جاء زميلي وصديقي الشهيد فيما بعد (جودت)، وعند الباب الخارجي للبيت ، سألني :
"ها مزاحم قرأت الجريدة"؟ تفاجأت، أندهشت، أنبهرت ... يعني جودت هم من جماعتنا ؟
• نعم، وأريد أقراها بعد ..
- طيب لا تجيبها للمدرسة ، أني أجي أخذها منك بعدين
ذهب جودت، أدركت أني أمتلك كنزاً لا تعادله أموال الدنيا، بل فضلته على كنوزها .. أنها طريق الشعب.