فضاءات

مختار يعيد إبداع ومكانة الكويتي من طي الإهمال والنسيان / عبد جعفر

في محاضرة ممتعة جمعت بين البحث الأكاديمي الرصين، وسماع نماذج مختارة من الأغاني والموسيقى العراقية القديمة، أدخل الفنان أحمد مختار زبائن المقهى الثقافي في لندن أجواء وعوالم الفنان الراحل صالح الكويتي. أذ أكد أنه لا يوجد توثيق جيد للموسيقي العراقية، منذ الثلاثينات، ولهذا فأن معرفة مصدر النتاج الموسيقي الذي يعود للكويتي بحاجة الى معرفة شهادات الذين عاصروه، وتحليل الأغنية والموسيقى، من إختيارات الكلمات والمقام التي تؤشر الى شخصية الملحن.
وأضاف أن أي معلومة قابلة للحوار بشرط أن تكون المعلومة مستندة على مصدر موثوق، مشددا أنه أستند في معرفة نتاج المنسوب للكويتي من خلال مصادر عديدة منها شهادات الفنان نفسه وشهادات فنانين مختصين في دراسات الموسيقية منهم حسقيل قوجمان، سالم حسين، حميد البصري وغيرهم بالأضافة الى شهادة سلمان الكويتي إبن الفقيد.
وأكد مختار أن المتفحص لألحان صالح الكويتي ، سيجد أنها أعتمدت على أصول المقام ولكنها لا تتقيد به، ولكن تتماشى مع الموروث الإيقاعي والنغمي العراقي في الخمسينيات، ولكن ليس بالضرورة أن تعتمد على خطوات الأداء المقامي ومساره اللحني الذي أصبح بطئيا قياسا ببعض المقامات ذات البدوات المتعددة ، و الميانات الطويلة التي كانت منسجمة مع عصرها نهايات القرن التاسع عشر ، وأراد صالح أن يضيف ما يعبر عن زمنه وحركته الإيقاعية والعاطفية النغمية لذا أستخدم سلام المقامات العراقية وليس خطواته وفروعة وأستخدم إيقاعاته و بسرعات جديدة، فهو يعتمد جذور الموروث الموسيقي العراقي ولكن مع توسع في التطريب والأفق وتحديث لبعض الأصول ، وهذا ما دعا اليوم بعض قراء المقام إلى التخلص من المقامات الطويلة وإعتماد تلك التي تحتوي على بدوات وقطع وأوصال وميانات قصيرة وخفيفة تعتمد الإيقاع الحيوي وليس الثقيل، لذا نرى شيوع مقام البنجكاة، والدشت، والجمال، والاورفا، و أفول مقامات مثل الرست البيات.
وشدد المحاضر على أهمية أن تعمل وزارة الثقافة بإنشاء مكتبة خاصة للحفاظ على جميع المواد ذات الصلة بالملحن صالح الكويتي وجميع كافة المواد المتعلق به مثل الإسطوانات والتسجيلات والبرامج الإذاعية والمصورة والكتب والمقالات والقصص من رواة معاصرين والصور الفوتغرافية .

وفي حديثه عن تارخ الكويتي قال أنه ينحدر من عائلة عراقية ، أنتقلت من مدينة البصرة، و هناك من يقول من مدينة العمارة إلى الكويت للعمل في التجارة في الكويت ، فولد صالح بن عزرة بن يعقوب عام (1908)، وأبدى شغفا بالموسيقى منذ الصغر، وتلقى هو وأخوه داوود دروسا في العزف والغناء لدى الفنان الكويتي خالد البكر. وحين أتقنا العزف والغناء قدما الكثير من الحفلات ، أذ تميز صالح في العزف على الكمان إما داوود فقد أتقن الغناء و العزف على العود .
وفي عام 1927 رافقا المطرب الكويتي المعروف عبد اللطيف الكويتي إلى البصرة لتسجيل بعض الاسطوانات. وحين وصلا البصرة أصبحا يُلقبان بالكويتي. إستثمر وجودهما المكثف في البصرة لتوسيع مداركهما في أصول المقام العراقي وتفرعاته فتعلما على أيدي موسيقي المدينة الكثيرين المتخصصين بالمقام العراقي. وبعد فترة جاء مطرب المقامات العراقية الكبير محمد القبانجي الى البصرة ، وبعد التعرف عليهما مهد القبانجي لصالح الكويتي أن يتعرف على المطربة العراقية المشهورة سليمة مراد باشا التي وضع بعض الإلحان الخاصة لها، منها هوّه البلاني، آه يا سليمة، ما حن عليّ، ، خدري الجاي خدري و قلبك صخر جلمود، حيث لقيت هذه الأغاني إقبالا كبيرا، الأمر الذي شجع صالح الكويتي علي إعطاء جانب التلحين الإهتمام الأول وصار يعشقه. وغنى له العديد من المطربات والمطربين.
كما قدم حفلات لدعم المدارس في بغداد ومنها المدرسة الحسينية، ولحن أناشيد مدرسية عدة، ولحن للملك في ميلاده و في توليه العرش، و كذلك في وفاة الملك فيصل الأول.
في عام 1947 وضع صالح الكويتي الموسيقى التصويرية لأول فيلم سينمائي عراقي – عليا وعصام – ولحن جميع أغانيه التي أدتها بطلة الفيلم المطربة سليمة مراد.
أخطاء شائعة
وأوضح مختار أن هنالك خطأ شاع مفاده إن صالح الكويتي ترأس أول فرقة للإذاعة العراقية عام 1936 ولكن أكثر الموثقين الباحثين يؤكدون بأن رئيس أول فرقة موسيقية في الإذاعة العراقية هو يوسف بتو عازف السنطور أما صالح الكويتي فكان عازفاً للكمان في تلك الفرقة.
كما كان يعتقد أن صالح الكويتي شارك مع فرقة قارئ المقام الكبير محمد القبانجي في مؤتمر الموسيقى العربية الأول في القاهرة عام 1932، لكن ما هو مؤكد أن الفرقة التي رافقت القبانجي في مؤتمر القاهرة المذكور هي فرقة الجالغي البغدادي ، وبأعتبار الكويتي عازف كمان فلا علاقة له بفرقة الجالغي التي تتكون من آلات موسيقية مثل الجوزة والسنطور، وهنا لا مكان لآلة الكمان ضمن هذه الفرقة التقليدية في الغناء العراقي، ويذهب المؤرخ المعاصر للكويتي الكاتب حزقيل قوجمان الى أن ما ميز الوفد العراقي المشارك في المؤتمر المذكور هو الخصوصية التي يتفرد بها عن سائر الفرقة العربية المشاركة، والخصوصية تلك أنجحت مهمة الوفد الموسيقي هي فرقة الجالغي التي لم يمكن الكويتي ضمن عازفيها بالإضافة إلى قرآة المقام.
وتناول المحاضر لقاء صالح مع الفنانين الكبيرين أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب، وقد أشار الكويتي نفسه بالقول: أستفدت من خبرة عبد الوهاب وتعرف على الغناء المصري، وبالمقابل تعرف عبد الوهاب على الغناء العراقي و الكويتي من خلالي.
كما تناول عمله في الاذاعة العراقية حين تأسيسها عام 1936، وكذلك مسيرته الفنية مع أخيه داوود.
التهجير
في عام 1951 أسقطت الجنسية عن صالح الكويتي . وهُجر إلى إسرائيل في عام 1951، بعد سحب الجنسية من الأخوين الكويتي كان عليهما أن يتركا العراق و ترك كل شيء من وراءهم وظائفهم وجمهورهم ودارهم وأصدقاءهم. ورغم الصعوبات المعروفة، تمكن صالح وداوود من ممارسة العزف في الحفلات بعد فترة وجيزة من وصولهم على اسرائيل. كما عمل الأخوان الكويتي في القسم العربي في الأذاعة الأسرائيلية، فشكلا فرقة موسيقية مع بعض الموسيقيين العراقيين ، محاولين أعادة صلتهما مع الجمهور العراقي مرة أخرى عبر الإذاعة، فمارس صالح الكويتي نشاطه التلحيني بتشجيع من الجالية اليهودية العراقية هناك..
خلال حكم الدكتاتور
ولم يكن حال ما تركاه من أرث موسيقي في العراق بأفضل من وجودهما في إقامتهم الجديدة، فخلال حكم الدكتاتورية في بداية السبعينيات تشكلت لجنة خاصة مهمتها 'إعادة ترتيب' المحفوظات العراقية الموسيقية أطلق عليها اسم "لجنة إعادة صياغة التراث"، ترأسها محمد سيعد الصحاف حين كان مدير إذاعة و تلفزيون أنذلك. كانت تلك اللجنة عبارة عن غطاء الهدف منه القضاء على أسماء المعارضين للدكتاتورية والمختلفين معها سياسياً، وكذلك القضاء على نتاج الموسيقيين اليهود وإتلافه. ولكن كان من الصعب ذلك خصوصا بالنسبة لمنتج صالح الكويتي الذي ترسخ في ذاكرة الناس، وهذا من ساعد على بقاء موروثه .
وأكد المحاضر ان إن لجنة مثل ( لجنة إعادة صياغة التراث ) أسمها هو جنحة بحد ذاته. إذا يحاسب عليها قانون منظمة اليونسكو باعتباره تلاعب بالموروث الإنساني. وهي جريمة ثقافية تضاف إلى جرائم النظام الدكتاتوري .
اليوم تغيرت النظرة إلى إعمال صالح الكويتي وبشكل كبير، ويجري حاليا مناقشة أعماله وبثها وحفظها وتوثيقها على العلن وفي جميع وسائل الإعلام. كما قُدمت بعض البحوث عن أعماله في جامعات العراق وبدون أدنى خوف، و تم تناول إنتاجه الفني من كافة الجوانب لبراعة وأهمية الأغاني وملحنها.
وفي ختام هذه الندوة ، جرت مناقشة وحوار طويل بين المحاضر و زبائن المقهى حول إشكالية عائدية بعض الألحان بين الكويتي و الفنان ناظم نعيم ، وعلاقته مع الفنانة زكية جورج الذي ظل يحبها حتى أخر لحظة في حياته. وحول أثر الغناء الديني على الألحانه أشار المحاضر الى أن في فترة الخمسنيات وما سبقها تحولت الكثير من الأغاني الدينية الى أغاني عاطفية، عكس ما يجري اليوم أذ يجري تجويل الأغاني العاطفية الى أغاني دينية.
ويذكر أن أحمد مختار من مواليد في بغداد بالعراق عام 1969 وتخرج من معهد الفنون الجميلة في بغداد، كما درس في المعهد العالي للموسيقى في دمشق، وفي كلية لندن للموسيقى وحصل على الدبلوم العالي، كما حصل على شهادة الماجستير في العزف المنفرد من كلية الدراسات شرقية و الأفريقية . يعزف على العود وآلات موسيقية عربية أخرى منذ العام 1979م. وقد قام بكتابة العديد من الأعمال الموسيقية لعدد من المسرحيات والبرامج الوثائقية. وأشترك في العديد من المهرجانات العربية والعالمية. وصدرت له العديد من الأعمال الموسيقية. حصل على عدد من الجوائز وكان أخرها جائزة "الحمرا"
من قبل هيئة الإبداع الإسلامية الدولية.