شهداء الحزب

مفرزة بهدينان الكبرى والشهيد الأول النصير أبو إيفان / أمير أمين

في أواخر شهر أكتوبر تشرين الأول من عام 1980 تحركت مفرزة صغيرة من قاطع بهدينان متوجهةً الى عمق مناطق كردستان لغرض تعزيز التنظيم المدني وإعادة ربط الصلات المفقودة جراء عمليات البطش الدموية التي قامت بها السلطة وأجهزتها الإجرامية ضد تنظيمات الحزب الشيوعي في عموم مناطق العراق ومنها كردستان....أقمنا لهؤلاء الرفاق الأنصار حفلة في قاعة السرية الثانية وكانت كبيرة الى حد ما وكان من ضمن الرفاق الذين إحتفينا بهم مودعين الرفيق أبو إيفان الذي كان فرحاً ومنتشياً وهو يودع رفاقه ذاهباً الى المناطق الأليفة والمحببة الى نفسه فكان يتحفنا بالأغاني الآشورية ومنها أغنيته المفضلة والتي يبتدأ مقطعها ب ( باكية خوش باكية .. روشة لاوندية ..) بحيث عمل هو وعدد من الرفاق الآخرين كورس للرقص والغناء حول المدفئة التي كانت تتوسط القاعة وكنّا نحن الجالسين على الجوانب نصفق لهم ونردد معهم الأغنية ويقوم بعضنا بالرقص معهم للتشجيع دون أن يعرف شيئاً عن الكلمات التي ينطقون بها...
وفي صباح اليوم التالي قمنا بتوديعهم بكلمات الود وشحذ الهمة والحذر وما هي إلاّ عدة أيام حتى قامت قيادة القاطع بتكوين مفرزة كبيرة للتوجه لعمق ريف كردستان وتحركت من القاعدة في مثل هذا اليوم في الثاني من تشرين الثاني عام 1980 بقيادة آمر القاطع العسكري النصير الراحل توما توماس وضمت في صفوفها عددا كبير من قادة السرايا والفصائل والمستشارين السياسيين والإداريين وكان قوامها 36 رفيقا وكانت المفرزة لأكبر في ذلك الوقت بالنسبة للعدد والكفاءات وضمت في صفوفها طبيب القاعدة الشهيد الدكتور عادل وقادة سريتين هما الشهيدين أبو فؤاد وأبو ماجد وعددا من المستشارين والمسؤولين الحزبيين كالأنصار الشهداء أبو سلام وأبو فارس من اليزيديين الأكراد وأبو رؤوف وغيرهم، وكان الشهيد عادل يعالج مرضانا وسكان القرى ويقدم لهم ما تجود به عليجته
من أدوية شحيحة ولكنها تنفعهم في العلاج فيقومون بالتشكر من الحزب الشيوعي وأنصاره...كانت المسيرة في البداية شاقة جداً وإستمرت طيلة النهار ولما داهمنا الليل أوعز القائد أبو جوزيف للجميع بالتوقف وأمر بإيقاد النار وقمنا بجمع الحطب بشكل سريع وعملنا حسب توجيهاته بإشعال أربعة مواقد ينام حول كل منها عدد من الرفاق بينما يتناوب الأخرون على الحراسة وكان الحرس يلقم النار بين الفينة والأخرى بمادة الخشب لكي تستمر الى الصباح وكان البرد شديداً جداً فكان يسخن جزء من جسدنا القريب من النار بينما تبقى الأجزاء الأخرى عرضة للهواء الرطب البارد وشعرت بأن عظامي قد تجمدت ولم أستطع النوم إلاّ بضعة دقائق محدودة وقد أصبت بالإسهال الشديد في اليوم الثاني ومرض رفاق آخرون لكننا واصلنا السير بهمة عالية ولم نشعر الآخرين بمرضنا وكنّا نتوقف في القرى الصغيرة التي نصادفها في طريقنا فتقوم مشكورة بتقديم الطعام والمؤونة لنا لمواصلة السير الى أن وصلنا الى قرية بوتيه بعد أن عبرنا جبل متين الشاهق وإسترحنا بها بعد عناء طويل لعدة أيام وبالضبط في يوم 14 من نفس الشهر والسنة هزنا من الأعماق نبأ إستشهاد النصير العزيز أبو إيفان من خلال الأخبار التي كان أهالي القرى يتناقلونها أصبنا بالصدمة الكبيرة وقمنا بمتابعة حيثيات النبأ الحزين وعرفنا أنه حدث بعيد ظهر يوم 12 من تشرين الثاني حينما كان الشهيد أبو إيفان مع النصيرين ناظم وأبو داود جالسون يحتمون من المطر في إحدى الشكفتات ويقومون بإعداد وجبة خفيفة وسريعة من طعام الغداء عند كلي آفوكي وبعد أن واصلوا مسيرتهم وكان الشهيد أبو إيفان الأخير بينهم أثناء المشي وبينما هم ينزلون قام نفر من مرتزقة السلطة الذين يطلق عليهم الشعب الكردي لقب الجحوش بإطلاق النار عليهم من المكان المحصن الذي كانوا يختبئون به ولأن عملية
الإطلاق جاءتهم من الخلف لذلك أصيب فوراً النصير أبو إيفان وفارق الحياة وقد جرح النصير ناظم الذي إستطاع الإنسحاب مع النصير أبو داود الى مكان بعيد عن مرمى الأعداء ..ترك إستشهاد النصير أبو إيفان حزنا كبيرا عند جميع الرفاق وكان التفكير منصباً على عملية مواراته الثرى ...،... كيف ! ومتى ؟ بعد مدة قليلة علمنا بأن رفات الشهيد وضع في مكان أمين كان بعلم بعض الرفاق المسؤولين وعدد من الحلفاء من حدك...في عصر يوم 15 أي بعد حوالي ثلاثة أيام على الفاجعة قمنا بالصعود الى قمة جبل كارا وهناك تناولنا طعام الغداء ثم تابعنا النزول الى أسفل الجبل وعند المنحدر وضّح لنا الرفاق وأشاروا الى المكان الذي إستشهد به الرفيق ويقع قريباً من نهاية الكلي عند منطقة النزول ... رأيت عيون الرفاق الحزينة وخاصة الراحل أبو جوزيف الذي إختلطت مشاعره الحزينة بالغضب ، توقفنا قليلاً وكان الصمت مخيماً على رفاق المفرزة ونحن نستمع لكلمات الراحل توما توماس وهو يتحدث عن المصاب الجلل ويدعو رفاقه للمساهمة في عملية دفن الشهيد قائلاً : من منكم يريد المساهمة فليرفع يده ونحن نريد بحدود خمسة رفاق ، كنت من ضمنهم ومنهم أيضاً أبو مسار وجرى تشخيص النصير أبو أمجد للإشراف على الدفن وهو من أهالي المنطقة بالإضافة الى كونه كان يحتل موقع مستشار سياسي لإحدى السرايا.. تحركنا الى الموقع المشار اليه بينما توجه باقي الرفاق الى قرية سواره, كان الشهيد مسجى على أغصان خضراء يانعة وبقايا الدم المتخثر كانت تغطي بدلته البنية وهي نفسها التي كان يرتديها لحظة توديعنا له في مقر السرية حينما توجه مسروراً الى عمق الوطن ..كنت أنظر اليه بألم وكان يبدو وكأنه نائم..بدأ الرفاق يحفرون بسرعة كبيرة خوفاً من المفاجئات ولا سيما وأن الليل قد دب دبيبه وكنت أحمل بيدي الكفن الذي قمت بوضعه الى جانب القبر لكي أستلم واجبي في الحراسة في الوقت الذي ينتهي فيه الرفاق من عملية الحفر ..كنت على مقربة منهم حينما كفّنوا الشهيد بالكفن فوق ملابسه الكردية بعد أن أزاحوا حذاءه من قدميه وكان من الروغان الأصفر ورفع النعش أربعة رفاق وضعوه بعناية في المكان المخصص له وعلى جانبي القبر قمنا بتفريغ رصاصتين من البارود وأشعلنا شعلتين صغيرتين كرمز توديعي لأننا لم نستطع من إطلاق الرصاص توديعاً له كما هو الشائع لحراجة الموقف ثم وضعنا الأغصان والصخور فوق القبر ووقفنا دقيقة حداد على روح فقيدنا الغالي وكان معنا بعض الإخوة من حدك وساهم أحدهم بالحفر ...كان ضوء القمر وهاجاً رغم الغيوم التي كانت تقف في طريقه ، أنهينا ترتيبات الدفن عند تمام الساعة السادسة من مساء يوم 15 تشرين الثاني عام 1980 في ذلك المساء الحزين وبعد الإنتهاء غادرنا المكان للإلتحاق برفاقنا في قرية سواره وتوزعنا على بيوتها بمعدل رفيق إضافي لكل بيت مع رفاقه الآخرين فكنت في ضيافة عائلة الشهيدين هلال وجاسم وكان هناك الرفيقان أبو جوزيف وأبو فؤاد اللذان كانا في حالة حزن وقلق وكانوا جميعاً يتحدثون مع أهل الدار في كيفية مجرى الأحداث وإستشهاد النصير أبو إيفان وقد إستفسروا مني حول عملية الدفن وأبرز الصعوبات وبينت لهم أن كل شيء جرى بصورة طبيعية ..بعد ذلك بعدة أيام إستطعنا من إقامة حفل لتأبين الشهيد في إحدى المناطق الأكثر أمناً ...واصلت المفرزة عملها الأنصاري ضمن نطاق منطقتها ولكن الحزن ظل يعتصر قلوب الجميع لفترة طويلة ..
المجد للشهيد النصير هرمز يوسف بوكا أبو إيفان في ذكرى يوم إستشهاده في الثاني عشر من شهر تشرين الثاني عام 1980 والموت لجلاوزة السلطة المقبورة.