اعمدة طريق الشعب

ضريبة المواطنة الصالحة..!/ عبد السادة البصري

الجمعة الماضية كانت موعد احتفاء التجمع الثقافي الحديث في البصرة بتجربة الشاعر البصري عزيز داخل، وقد طلبوا منّي تقديم الجلسة. ذهبت صباح الجمعة حسب الموعد رغم غرق الشوارع بمياه الأمطار التي نزلت ليلتها، ولمّا وصلت الى مكان انعقادها في مقهى الأدباء بالعشّار لم أجد الشاعر المحتفى به، فهو لم يحضر بسبب غرق بيته بفضل المطر. فقدّمت اعتذاره وتم تأجيل الجلسة الى الجمعة اللاحقة!
وأنا أقدم اعتذار صديقي الشاعر الذي غرق بيته نتيجة هطول الأمطار تذكّرت حالتي أيام التسعينات من القرن المنصرم حيث كنت أسكن في مخزن وعند هطول الأمطار كان السقف يُسرّب الماء من جميع جوانبه فكنا نسهر الليل كله أنا وزوجتي نفرّغ الأواني والقدور التي وضعناها تحت الأماكن التي يتسرب الماء منها، ونداري أطفالنا النائمين بالأغطية. كما مرّت في خيالي أكثر من حادثة لطفح المجاري وفيضان البيت الذي استأجرته قبل سنوات، إضافة الى حكايات أصدقائي الأدباء وما أشاهده من بؤس وخراب على شاشة التلفزيون. كذلك طافت في مخيلتي تلك اللحظات عندما كنّا معتقلين في سجن الرضوانية سيء الصيت عام 1992 أنا وعدد من أصدقائي أدباء البصرة الشباب آنذاك، كنا نتحدث عن الوطن وعشقنا الأزلي و تضحيتنا بأحلى سني العمر جنوداً لم نرتكب أية مخالفة انضباطية. كان صديقي الشاعر كريم جخيور يقول: عمرنا ما عرفنا خيانة الوطن، لماذا يصفوننا بالغوغاء والخونة. لقد قاتلت كجندي ولم أهرب طيلة خدمتي العسكرية ـ ولم أتجاوز على مال أحد أو أختلس من دائرة ما. كنت أجيبه: إنها ضريبة المواطنة الصالحة يا صديقي هذا الذي ندفعه الآن!
نعم المواطنة الصالحة التي تعلمتها من أبي ورضعتها من ثدي أمي وقرأتها في كل كلمة زادتني معرفة ووعياً وثقافة، كما زادتني عشقاً جنونياً لهذا الوطن الذي لم أمتلك فيه لحد هذه اللحظة شبرا واحدا، فمنذ نزوحنا القسري من الفاو عام 1980 وأنا أتنقل بين مأوى وآخر، وألهث وراء لقمة العيش!
وكما أعشق الوطن يعشقه الكثيرون غيري من الطيبين الذين حملوه بين شغاف قلوبهم، إذ تجدهم يسعون في مناكبها دون أن تهفو أنفسهم الى لقمة سحت أو حرام، أو تمتد أياديهم ليستولوا على أموال الدولة والناس بحجج واهية، أو يعيثوا فسادا في الأرض تاركين الناس تحت رحمة المطر وطفح المجاري وعبث الفاسدين وفتك الأمراض والأوبئة، وانتشار المحسوبية والمحاصصة والطائفية، ليسكنوا في قصور وأبراج عالية فلا يعيشون ساعة قلق خوفا من غرق البيوت أو طفح المجاري أو من جوع ولحظة فاقة وعوز!
المواطنون الصالحون عليهم أن يدفعوا ضريبة حبهم وانتمائهم الحقيقي للوطن وغيرتهم عليه وعلى ناسه الطيبين. انه لهم مهما طال ليل الفساد وامتدت أياديه الى كل ركن لا بد أن يأتي يوم وينكشف الغطاء وتسقط الأقنعة ليعود الناس يحبون المطر ويتغنون به فرحين كما الأطفال وهم ينشدون ((مطر مطر حلبي... عبّر بنات الجلبي)).