غالبا ً ما كنت أحضر تمارين الأعمال المسرحية، بحكم عملي في الصحافة واشتغالي على النقد بعد قراءة النصوص، والحرص على تأشير تعديلات المخرج أثناء التجارب، وكنت أحرص بخاصة على حضور تجارب فرقة المسرح الفني الحديث،إن في مقرها "مسرح بغداد" في البتاويين، أو مقرهم السابق في الباب الشرقي، بعد أن أعيدت للفرقة التي أسسها إبراهيم جلال عام 1952 باسم فرقة المسرح الحديث، الإجازة عام 1968 تحت مسماها الجديد، وكانوا يشتغلون على "الشريعة"، وتابعت انهماك العاني على تمثل وتشخيص دور دعبول البلام، كما هي عادته بكل الأدوار التي يؤديها وتظل عالقة به أينما يذهب حتى تختمر وتخرج على الناس كافة بصيغتها في العرض الأول وتستمر قابلة للتعديل في العروض الأخرى، فالعاني يتقبل وإن بضيق وأحيانا ً بصدر غير رحب، ملاحظات صحبه وبعض النقاد، لكنه يستجيب لأوامر المخرج ويرضخ لها مع إضافته الشخصية، وكان الفنان كاظم حيدر يعد ديكور العرض المسرحي، تصميما ً وتنفيذا ً، وذات المساء فاجأهم بطلب شراء أو تأجير "بلم" بحجم وقياس معين، وأشار عليهم ببلامة العبرة بين شريعة وزارة الدفاع والمستنصرية في جانب الرصافة ومبنى التقاعد العامة في جانب الكرخ.. استغربوا بادئ الأمر لهذا الطلب، لكن يوسفا ً فرح أكثر من سواه حين عرف السبب، فقد كانت فكرة الفنان كاظم حيدر بأن يمد بصريا ً وإيحائيا ً بعمق المسرح إلى حيث الجمهور، بموحى كسر جدار الوهم بين الممثل والمتلقي، إذ تتلبسك رؤية بانورامية وترابط نفسي بوضع البلم في الأرضية تحت خشبة المسرح وأمامها وليس فوقها، كما جرت عادة التأثيث في السينوغرافيا.
ومن رواق القاعة ستشاهد صورة شعرية للبصرية السردية في مكونات "السينوغرافيا" وشموليتها، وبمثل هذا المد في الرؤية الواقعية يرقى العرض بالحالة المألوفة إلى صياغة جمالية مميزة، وهذا الفضاء ظل يشغل بال العاني ويتكئ عليه في أغلب الأعمال التي اشتغل عليها تأليفا ً أو تمثيلا ً، ذلك أنها تجاوبت مع حسه الشعبي، في أن يكون المسرح وليمة مفتوحة البسيطة لفئات الناس كافة تمنحهم المتعة الجمالية واللذة في تماهي الفكرة والصورة مع مدركاتهم بحيث يتغيرون في التو، أو تترسب في أعماق لاوعيهم المخبوء صورة الأفضل والأجمل، فاللحظة الجمالية الملفتة، كما الفكرة النيّرة، تغيرهم بالحتم وبالضرورة، وإن آجلا ً..
وبالفعل كانت بعض العروض التي قدمتها فرقة المسرح الفني الحديث تستمر أشهرا ً متعاقبة متواصلة، ويأتيها الجمهور من كل فج بعيد من المحافظات، بحافلات كبيرة مؤجرة مثل فريق متكافل،كما لو كانوا يمارسون الطقس الشعبي التقليدي المعمول به في الأحياء الشعبية عند زيارة المراقد المقدسة.
هكذا صار تأثير المسرح، في الترابط الاجتماعي بين فرقة المسرح الفني الحديث والشعب، طقسا ًتعويضيا ًخلاقا ً نحو الأفضل فكرا ً وسلوكا ً وتطلعات، يستحق الزيارات الممنهجة.. وكان جمهور العروض مختلفا ً ومتفاوتا ً في الذائقة والثقافة والخلفيات البيئية والإثنية، كما فئات الشعب بعامة، لكن الجميع كان يتلقى العروض متجاوبا ً ومستمتعا ًبحسن الأداء والتمثيل، فتصلهم فكرة النص ورسالته وخطابه بالكلمة أو بشفرات جسد الممثل وإيماءاته بشكل سريع ولماح، فيضحك أو يحزن، وينفعل بما يراه في التو والحين، ويخرج من القاعة وقد اكتنز بمشاعر أخرى.، وبذرت في صلب روحه نويات تغيير ستعطي أكلها، يوما ً ما.
تماما ً كما كانت فئات الشعب كافة تتفاعل و قصائد الجواهري، بخاصة حين ترى إليه وهو يلقيها بقامته وصوته وتعبير أصابع كفيه، كما لوكان ممثلا ً متقنا ً لدوره، وقدرته العالية على الأداء والتوصيل، وبالشعرية البصرية المبهرة، التي تسحر الجمهور المتلقي.
هنا يكون سحر الشخصية من متطلبات الشعرية البصرية، وعلى أوجها في التعبير الإشاري الذي يخلق تفاعلية عالية بين الجمهور والشاعر، بين الجمهور والفنان المسرحي القدير والعرض المسرحي بمجمل علاقاته المتواشجة ألوانا ً وأصواتا ً وإنارة وأثاثا ً وأزياء، وحوارات وحركات.
إنّ ما كان يعطيه يوسف بن اسماعيل العاني من جذوة حياته ونور بصيرته وشفرات جسده ، لم يخالجني لحظات، ويغادرني أخرى، بل ترسبت أعماله طيلة سنوات تعارفنا وتصادقنا ورفقتنا في طريق شقاء العقل، من دون أن نترك للوحشة أن تحرق أطراف ثيابنا.. وإن اختلفت الوسائل وتغيرت الأمكنة، وطرائق الخلاص من الشِراك، فالقلوب لم تتغير، وإيقونة حب الناس هي معلقتنا الأزلية في الرقاب وفي الضمائر.
وآن لي هنا أن أدرج مساحة مضافة قد تبدو جد خاصة تتعلق بشخصية هذا الفنان القدير، لكنها تفاصيل تحترمها الذاكرة الشخصية والبحثية، وتوثقها، وإن تبدو للبعض خارج السياق "الجاد المدلهم المُعـِّبس الأشعث" الذي اعتادت عليه بعض النقود والمتابعات في الصحف، وما يتم تقنينه على الكتاب، لكني هنا أطمح بما تيسر من مساحة الحب العريض الذي تمنحه "الطريق" لسالكيها، من زوادة الكتابات حين تختص بسيرة الإبداع والمبدع، وهي مساحة مضمونة من الحب الأحمر العميق، فشكرا ً سلفا ً؛
كنت استشعر العاني يؤدي دوره في الحياة بالتلبس ذاته، استشعره يطبق ثيمات ستانسلافسكي ووصاياه، أو يشتغل على التغيير البرشتي، أو قوة الخطاب في حركة شارلي شابلن وحضوره شديد الإضاءة على الشاشة، إن كان الفيلم صامتا ًبالأسود والأبيض، أو ناطقاً وبالألوان..
في ليلة جميلة ضيفتنا بها الروائية الرائعة ليلى العثمان وزوجها الناقد الصديق وليد أبو بكر، تألق الأستاذ.. ووقف يؤدي مشهدا ً بانتوميميا ًعلى إيقاع الدف تضرب عليه ليلى والطبلة ينقر عليها الأستاذ حقي، وتألق يوسف فقد كان بين أخوته، كما لو كان على خشبة المسرح، إنه فنان يحب الحياة حتى الألق، ويشعر بأن المسرح والحياة صنوان، ولابد أن يُزين الإثنين بالصورة التي تقطّـِّر جماليات ومحبات، ففي الصورة الجميلة يستطيع النص أن يمرق إلى الجمهور بيسر مثل وميض موعد متحقق بين عاشقين،وينسل إلى روحه وعقله، ويسري في جسده، مثل رعشة النشوة ولذتها..
في ندوة التراث العربي والمسرح التي عقدت في الكويت، لم يكلف الفنان يوسف العاني بأيما ورقة، كان حضوره بوصفه نجما ًكبيرا ً هو كفالة للمناسبة وتشريف لها، لكن بعض الباحثين وبخاصة الدكتور علي الراعي وخورشيد، لم يشيرا لأيما عمل عراقي في بحثيهما الطويلين عن المسرح العربي والتراث، وكانا قدما كتابين في واقع الحال، فتشاورت ويوسف وإخوته سامي عبد الحميد وقاسم محمد وخليل شوقي بأن نمنهج تداخلاتنا على بحوث الغير باستشهادات عراقية من تجاربهم تحديدا ً، حتى لو كانوا غير مكلفين ببحوث، اتضح أنها تحسب لكاتبيها على عدد الكلمات!.
وبادرت بمداخلة نظرية عززتها باستشهادات تفتح الأفق لتجارب الحاضرين المميزة من أعلام المسرح العراقي، وتم لنا ذلك بدءا ً بتجربة الرائد حقي الشبلي، أغناها الفنان يوسف العاني بالحديث والأداء المباشر أمام جمهور الندوة وعدسة التلفزة التي توثق الوقائع، كذلك فعل قاسم محمد وسامي عبد الحميد، وهكذا قدم يوسف وأخوته ما أثرى الندوة وأغناها من أعمالهم وتجاربهم الطليعية.
كذلك ركزنا في ندوة التلفاز الخاصة بنجوم الندوة، التي أدارها الإعلامي الصديق عبد الستار ناجي، من زاوية النقد، والمسرح، والإعلام، والتمثيل، وكانت ضمتني والصديق المبدع خليل شوقي والفنان العربي دريد لحام، فسقنا اتجاه الندوة لأن يتحدث دريد بمحبة عن جمهور المسرح في العراق وكيف استقبل فريق "كاسك يا وطن" حين قدموها على مسرح "الجامعة المستنصرية" والترحاب الذي لقيه الأشقاء في العراق من الجمهور والمؤسسات ذات العلاقة على حد سواء.. وكانت علاقة فناني سوريا بالفنان يوسف العاني وأخوته محورا ً مهما ً من محاور هذه الندوة. والأفق المضيء في خاصية المسرح العراقي وأدبيته السردية النابعة من واقع المجتمع والمعالجات التجريبية والثورية التي طرحها عبر تاريخه الطويل، ودور الرواد في تعميق هذا المساق الجمالي البارز على صعيد التجارب النظرية في البلاد العربية بعامة..
أيامها كان الفنان فؤاد سالم زائرنا المواظب كل مساء في فندق الحياة ريجنسي، وفي دارة الفنان المسرحي الصديق عباس الجميلي، حيث استضافنا، غنى فؤاد ما أبكى قلوبنا: غريب على الخليج قصيدة بدر شاكر السياب، من ألحان طالب غالي، الذي شارك فؤاد بالعزف على العود والغناء معا ً.. واستذكرنا غربة السياب وبصرته التي خرج منها فؤاد وطالب في غياهب المجهول كما خرج بدر.