ادب وفن

أرصفة الجحيم واشكاليات السرد (2-2) / حميد حسن جعفر

عين الكاميرا/ الراوي، قد يكون الروائي نفسه. ويعمل على الاستفادة من منجز شعري. والمفصل/ المنجز هذا في النص الروائي يدور حول التكرار والتأكيد وتشكيل البؤرة واستفزاز القارئ. ففي الصفحات "17، 18، 19" هناك استخدام للفظة "طُرق"، استخدام تأكيدي على أهمية المكان في الحضور وفي الغياب وفي الموت وفي الحياة.

هناك أكثر من أربعين استخداما للفظة "طرق" حيث المكان المؤدي الى اللاواقع، الى المتاهة. هكذا يعمل الكاتب على صياغة الفراغ.
***
قد لا تشكل الجوانيات/ الدواخل مفصلاً مهماً من مفاصل الكتابة السردية لدى "السعيدي"، بل تبدو اشتغالاته مأخوذة بالخارج/ البرانيات، من كائنات وجوامد. إنه يشاهد الأشياء للمرة الأولى. إنها الدهشة التي تؤدي الى محاولة خلق حالة من الإشباع. حالة من الإحساس بأن ما يحيط به ما هو إلا أمور زائلة، حياة محاطة بالزوال. في لحظة الإحساس هذه تتحول الأشياء الى كائنات سريعة التلف؛ ومن أجل الحفاظ عليها، من أجل صناعة الخلود، يعمل الروائي على صناعة البقاء/ الكتابة.
وكما استطاعت أمنا حواء أن تكون أنيسة لأبينا ادم، كذلك يعمل الروائي على تحويل "اناغيم" الى حالة من الأنس بالنسبة للمقاتل نائب العريف الدرع اسعد فيضي عبد الكريم.

"4"
إن تدمير الخط المستقيم لزمن السرد، هو محاولة لتدمير التراتب/ تسلسل الأحداث. وهذا ما يبدو واضحاً، بل يعتبر واحداً من تقنيات السرد الذي يعتبره الروائي امراً استثنائياً، محاولاً الالتفاف على الذاكرة. فتوالي الأحداث لا يتيح للكاتب الاشتغال على الحدث الواحد المنتخب، بل يراه القارئ يتنقل سردياً كما العازف، حين الاشتغال على السلم الموسيقي. واذا ما كان الموسيقي/ العازف معتمداً على وحدات السلّم، فإن الروائي نراه مشتغلاً على تعدد البؤر، تعدد مناطق الحكي. فالجميع، أمكنة وبشراً، بحاجة الى الحديث عنهم. هذا الفعل لا ينتمي الى التشتيت، بل الى حال من التجميع؛ من أجل تشكيل رد أكثر قوة على بشاعة الحرب، على قدرتها على تمزيق الكائن البشري.
***
قد تكون وحدة الموضوع، وتوفرها على طول الخط، سبباً ومبرراً لأن يندفع الروائي في عدم استقصاء حيوات أبطاله: الاهتمامات، الاشتغالات، التواريخ، الارتباطات، الفكر، الوعي، المعرفة. وفي عدم استقراء مستقبلهم: الأهداف، الطموحات، الأحلام. فالحرب كفيلة بلملمة الأحداث المتعددة.
وحدة الموضوع/ الحرب التي تمتد على مسافة أكثر من ألف كيلومتر من الممكن أن تتيح للكاتب القفز على الزمن. وكذلك تتيح له صناعة أكثر من شخصية ثانوية؛ لأن الحرب ذاتها هي التي تحتل كل مفردات النص السردي.
فالحرب وما تنتج هي التي تدير شؤون السرد في "أرصفة الجحيم"، وهي التي تضع الحدث، وهي التي تحول استقامة الزمن الى نثار، الى مجموعة نقاط.. وهي التي تلملم أطراف العلاقات الفردية. وهي التي تحاول أن توفر فضاءً لاشتغالات المرأة.
المرأة لدى الكاتب تقف خارج الحرب، رغم وجودها في لجتها. وكذلك هي موجودة داخل الذاكرة.
كل النساء: سلمى، اناغيم، ندى، يقفن خارج الجندية، وعلى القارئ أن يعاين. إن المرأة/ الأنثى في طول الفصول وعرضها لا تمتلك من التعريف سوى الاسم الأول. اسم من الممكن أن يلصق بأي كائن نسوي: رفاه، نضال، مآثر، مديحة.
وليلاحظ كذلك أسماء الذكور الثلاثية: اسعد فيضي عبد الكريم، صفاء شاكر عمران، زاهر عبد القادر منير، مراد جاسم نعيم. فهناك أكثر من عشرين شخصية تمتلك ذكورية الاسم الثلاثي المعتمد في الأوراق الثبوتية.
هذه القسمة الضيزى هي من صنع السارد. إنها حالة من الخوف من أجل أن يتشكل اسم شخصية القص ليطابق شخصية المرأة على الواقع. إن محاولة صناعة الوهم والضبابية هي محاولة للتخلص من سلطة الواقع.
إضافة الى إن هؤلاء النسوة لا ينتمين الى التشكيل العائلي. أي إن الروائي قد عمل على إقصاء المرأة من الدرجة الأولى؛ لا اثر للبيت وللعلاقات العائلية، لا وجود للحميمية.
***
إن محاولات السارد/ الروائي في الابتعاد عن ساحة الحرب لم تستطع أن توفر حالة تضامن مع أبطال النص. بل إن العديد من العنوانات ـ طقوس الدم ص64 ـ التي لم تستطع أن توفر حالة كشف أو إضاءة. شخصيات تتحرك خارج البؤرة.
لقد استطاعت السرديات الحديثة أن تتيح للسارد الكثير من الحريات سواء على مستوى الشخصيات أو الوقائع، أو الأزمنة، أو الأمكنة. كل هذا من أجل صناعة حالة اكتناز للنص. من أجل صناعة تأثيثات غير مسبوقة. من أجل دفع الروائي الى الخوض بأمور لم تكن متاحة للأسلاف من الروائيين. عبر هكذا مفاصل استطاعت الرواية أن تلج أغوار النفس البشرية. بل أصبح تيار الوعي/ التداعيات يمثل منهجاً وطرقاً ووسائل متقدمة في الكتابات السردية الحديثة. واستطاعت الرواية كذلك أن تمنح المخيال أكثر من مبادرة، وصولا الى المطموس من حياة الناس، والكتابة عن الأمور التي تقف في منطقة الممنوعات، حيث الجسد والعلاقات المتشابكة شرعيةً كانت أو غير شرعية، سواءاً على المستوى الفردي أو الجمعي. حتى بات النص السردي يحمل أنماطاً كتابية غير قابلة للاستنساخ. وتحول اللامعقول واللامتداول موضوعات تستأثر باهتمامات الكاتب والقارئ كذلك. نصوص متفردة، نصوص لا تنتمي الى فن السرد بل لسواه من الكتابات.
بل إن عملية التجنيس ما عادت أمراً سهلاً، بعد أن استطاع الروائي أن يمد أصابعه الى أجناس قد لا تكون أدبية. حيث استطاع البعض من الروائيين أن يحول السرديات الى أدوات للبحث والاكتشاف، ولتتمكن الرواية من أن تقول ما لم يقله سواها.

"5"
ولأن النص الروائي المعاصر لم يكبل نفسه، وكذلك لم يحجم قدرات الروائي بأزمنة وأمكنة ولا بنهايات ولا بحلول. قد تشكل الكتابة المعاصرة وفق مناهج كهذه امتحاناً لقدرات الكتاب، وكذلك امتحاناً لقدرات القارئ على استقبال النص ومحاكمته، وكشف مخبوءاته.
فالكتابة والقراءة فعلان ينتميان لمفصل الثقافة، وكل منهما غير مقتنع بما تطرح الظواهر، رغم أهميتها في إنتاج ما يوافقها.
"أرصفة الجحيم" كتابة حاولت أن تنقل البعض من مفردات الحرب، تلك التفاصيل التي من الممكن أن يقول عنها القارئ إنها تنتمي الى معايشة الحدث. أي إن الراوي وكذلك الروائي هما من مكونات ومنتجات الحرب. دخلاها سوية ليخرجا منها كذلك سوية محملين بالكثير من آثارها.
لقد كان الراوي الذي لا يشكل سوى العين الرائية، وبالتحديد عين الكاميرا، رغم عدم اعترافه بالحرب كمفصل حياتي، حاله حال الفقر والجوع والمرض والأمية. واذا ما كانت هذه المفاصل تشكل الوجه الآخر للحياة، حيث الوجه القبيح، فإن الوجه الآخر/ الجميل لم يستطع الروائي أن يعايشه. أو أن يعلن عن وجوده أو إنه يشكل حالة حلم أو طموح أو هدف. فالسلام والأمن والبناء والطمأنينة وفرص العمل والتعليم والمعرفة وحق المواطن في الحياة، هذه المفاصل هي الوجه الأكثر اشراقاً والأكثر إضاءة للحياة ذاتها.
***
الفنون السردية التي تتخذ من الحروب موضوعاً وهذا ما يشكل جانباً مهماً من اهتمامات الأدباء الروائيين والقصاصين وكذلك اهتمامات المراسلين الحربيين، لا يمكن أن تكون قوة شاطبة للآخر/ الند أو الخصم.
كان من الممكن أن يكون هدف الروائي منصباً على انعكاسات الحرب على المدن. ومن الممكن أن يكون استهلال الراوي في "لقاء"، و"حكايات وادي الموت"، من أكثر العنوانات، الفصول الثمانية عشر قدرة على منح القارئ صورة فيها الكثير من جماليات الإنسان، وكذلك المكان. رغم النفايات التي راحت تغطي شوارع المدينة.
المتابع لما تقول الرواية سيضع يده على عقد من السنوات أو دون ذلك. سيضع يده على العديد من الحروب، خارجية وداخلية، محلية وإقليمية.. وعلى مساحات واسعة من الأراضي الحدودية شرقاً وجنوباً. وعلى مساحة تقترب من خمسمائة ألف كيلو متر مربع من وطن مهدد بالانقراض. سيضع يده على عشرين مليوناً من مواطنين مهددين بتهم الخيانة وشتم السلطة.
لقد كان الروائي وكذلك الفعل السردي وسط حال من الامتحانات. الأسئلة تتدفق والإجابات تتعدد. وكل سؤال أمامه العشرات من الاختيارات. ربما تكون جميعها على خطأ. والسلطة القامعة، والحرب الشاطبة، استطاعا أن يتحدا من أجل صناعة الموت. لقد كانت الحروب، جميع الحروب وسيلة لتدمير الآخر. سواء كان خصماً أو لم يكن كذلك. ربما يكون الموضوع/ الحرب أكبر من الشخصيات. وقد يكون أكثر سعة من محاولة النظر اليه من خرم إبرة.
***
هل من الممكن أن تعلن "عين الكاميرا" السارد العليم خيانته للروائي؟
هل من الممكن أن يكون السارد العليم أقل قدرة ومعرفة من الروائي؟
هل من الممكن أن يتنازل الروائي عن قدراته لصالح العين؟
لقد كان السارد العليم ومازال كائناً هلامياً. قد يتحول الى ألعوبة بيد الروائي، فهو لا يمكن أن يكون أكثر من قناع لشخصية مجهولة الملامح، رغم وقوف الكاتب خلفه. قد يكون مجرد بوق ـ سبيكر ـ آلة تمتلك حنجرة الروائي. وكل ما يمتلك من معارف كتابية، وخبرات، وتجارب حياتية. من الممكن أن تنتمي الى التناقضات. ورغم هذا يظل السارد العليم هذا عين الروائي وخزانته.
لقد أراد، أو حاول أن يقول أشياء كثيرة، وأن يكتب أحداثاً، ووقائع صنعتها أزمنة عديدة في أمكنة عديدة كذلك.
إلا إن الراوي العليم الذي من المفترض أن يكون المخول في القول نيابة عن الروائي وضمن فضاء من الاستقلالية وفق صيغة إن السارد ليس تابعاً لآخر. إن أسئلة كهذه من الممكن أن تشق طريقها للظهور أثناء الفعل القراءاتي للرواية. ولأن النص الروائي "أرصفة الجحيم" لا يعتمد التسلسل الزمني، فهل من الممكن أن يقول القارئ، أو أن يتساءل حول إمكانية تغيير أماكن الفصول تقديماً وتأخيراً، وإعادة قراءتها حسب الرغبة مرة أخرى؟ هل من الممكن أن يحصل هذا؟ وهل إن الفصل الأخير المعنون "ما تبقى"، من الممكن أن يشكل فعلا حتمياً ولابد منه لصناعة نهاية للكتابة السردية التي شكلت تأثيثات الواقع المعاش وتأثيثات ذاكرة الكاتب.
لقد استطاعت "أرصفة الجحيم" أن تقول أشياء عديدة، وأن لا تقول أشياء لا عد لها.

"6"
لقد كتب وأنتج القصاصون والروائيون العراقيون عن الحروب كما كتب سواهم من روائيي الشعوب الأخرى التي عانت وقاست من ويلات الحروب الكثير الكثير، حتى بات الماضي ـ الاحتراب والاقتتال ـ يشكل ذخيرة من الصعب التخلص منها. وأصبح الكتـّاب يتحدثون عما مضى أكثر من حديثهم عن المستقبل، ويتحدثون عن الدمار والديكتاتوريات أكثر من حديثهم عن البناء والسلام وتجارب الشعوب في الوصول الى صناعة أنظمة تعتمد الحوار وصناديق الاقتراع متخلصة من تحويل الآخر الى هدفٍ معادٍ.
لقد توفر للكاتب العراقي ـ رغم حداثة الكتابة العراقية للسرد مقارنة مع تجارب سواهم ـ تجارب كثيرة اشترك في كتابتها أكثر من جيل، واتبـّعت في كتابتها وسائل ومناهج مختلفة. ورغم محاولات السلطات السابقة من أجل أدلجة الرواية أو الأدب وتحويل الأديب الى مفصل من مفاصل آلته القمعية سواء على مستوى الفعل الثقافي السياسي أو على مستوى الفعل العسكري.
ورغم كل شيء يظل الكاتب العراقي: الروائي، القاص، المسرحي، الشاعر، صاحب ذخيرة متنوعة في كتابة القصة أو الرواية التي تتخذ من الحرب موضوعاً ومن الجند والمقاتلين شخصيات.
لقد استطاع الكاتب العراقي أن يقرأ الكثير من الآداب عامة، ورواية وقصة الحرب خاصة، وأن يطلع على تجارب كتـّاب عالميين سواء باللغات الأصلية أو مترجمة. وتمت كتابة الآلاف من القصص القصيرة والعشرات من الروايات التي اتخذت من الحرب ثيمة أساسية في الكتابة. قد يكون الكثير منها مؤدلجاً، فقد استطاعت ثقافة النظام السابق أن تجند العشرات من الكتـّاب والكثير من الروائيين والقصاصين ليبشروا بمنتجات الحرب وأن يجملوا وجهها القبيح وأن يحولوا الحرب الى أنواط شجاعة وأن يصنعوا ابطالاً وهميين على شكل "السوبر مان" وإن "قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار" محاولين تحويل الفكر الديني والقومي الى مبررات لصناعة الحرب وتدمير الآخر.
غير إن البعض الآخر من الكتاب العراقيين كان يشكل أكثر من دعوة لوضع اليد على قباحات الحروب وما تنتج من خراب. ورغم هذا وذاك فقد كان للعديد من التجارب الكتابية عن الحرب، شكلها وأساليبها، وقدراتها على إنتاج نص روائي أو قصصي قادر على الوقوف الى جانب جماليات الحياة. ونبذ ارتباكات الحروب وما تنتج من قوى شاطبة تتميز بتدمير الآخر والتي لا يمكنها أن تعيش حياتها من غير وجود غابة من الخصوم وألاهداف المعادية. تلك الأهداف التي لا وجود لها إلا في أذهان القائمين على أمور الحرب، وفي تصورات السلطات العسكريتارية.