ادب وفن

الاغتراب.. قصيدة «المجرشة» نموذجا / فرحان قاسم

في اللغة يعني الاغتراب الذهاب والتنحي والابتعاد والنأي عن الناس والنزوح عن الوطن، وهذا النوع من الاغتراب يخص الاغتراب المكاني الذي يأخذ اشكالا وأسبابا متعددة وقد عبر عنه الشعراء العرب قدماؤهم ومحدثوهم كثيرا في قصائدهم.

فالطغرائي في لاميته يطرح سببا اقتصاديا اجتماعيا:
فيم الاقامة في الزوراء لا سكني بها ولا ناقتي فيها ولا جملي
تقدمتني رجال كان شوطهم وراء خطوي لو امشي على مهل
لو ان في شرف البقيا بلوغ منى لم تبرح الشمس يوما دارة الحمل
والجواهري يصور في قصائده الاغتراب المكاني بسبب الظلم والاضطهاد السياسي:
يا دجلة الخير يانبعا افارقه على الكراهة بين الحين والحين
وكلمة الاغتراب تعود في الاصل الى الميدان الحقوقي، وهي تعني « الفعل الذي بموجبه يتخلى الانسان بالهبة او بالبيع عن متاع يملكه «.
أما في الاصطلاح فان الاغتراب تناوله الكثير من الفلاسفة وعلماء الاجتماع وعلماء النفس، كل من زاوية نظره، وعرّفه ماركس بأنه « العملية  اي اللحظة التاريخية - التي يصبح بها الانسان غريبا عن العالم الذي يعيش فيه «، ويكاد يكون هذا التعريف جامعا مانعا للاغتراب.
وعبر عن هذا المحتوى للاغتراب الكثير من الشعراء العرب. فقد خاطب الشاعر اليمني الاعمى ابا تمام «حبيب بن أوس الطائي» في ذكراه الالفية:
اذا امتطيت ركابا للنوى فانا في داخلي امتطي ناري واغترب
حبيب تسال عن حالي وكيف انا شبابة في شفاه الريح تنتحب
والاغتراب فلسفيا: يفيد «عملية تحويل منتجات النشاط الإنساني والاجتماعي إلى شيء مستقل عن الإنسان ومتحكم فيه «. عند (هيغل) يعني الاغتراب «انفصال الجزء عن الكل»، ويحدث هذا عندما يقوم العقل المطلق الفكرة المطلقة بخلق الطبيعة والإنسان، فهي بذلك قد طرحت جزءاً منه خارجها وأصبح هذا الجزء غريباً عنها وهذا ما يُسمَّى باغتراب «الوعي عن عالم الطبيعة والأشياء الطبيعية «، وانقسام الذات عن الموضوع، والخلاص هو عملية إنهاء الغربة وحالة النفي، اي تصبح الذات موضوعاً والعقل واحداً مع الطبيعة، أي أن «العقل المطلق يستعيد الطبيعة من خلال فهم العقل المتناهي «الإنسان» لها والسيطرة عليها». وليس التاريخ «سوى محاولة الإنسان الدائبة أن يتعرف على الطبيعة ومن ثم تنمية وعيه بالمطلق»، إن الروح المطلق في حالة اغتراب بعد انفصال الإنسان والطبيعة عنه. و رأى «هيغل» «إن الاغترابَ في صميم بنية الحياة الكلية، وعالجه بكيفية مجرَّدة تنأى عن الواقع الحسي «.
إن هذا الاغتراب ينتج اولا الاغتراب عن البنية الاجتماعية الذي يترتب عليه، ثانيا الاغترابٌ عن الذات. وهذان الاغترابان يُفْضِـيَان إلى الاغتراب عن العقل، و يمكن تجاوُز الاغتراب «بتنازل الفرد عن ذاته حتى يتم الالتحام بينه وبين البنية الاجتماعية، وهذا الالتحام يؤدي إلى عودة النشاط الطبيعي للعقل».
وهذا المعنى للاغتراب عند «هيغل» يعود في أصوله الى آراء «جان جاك روسو» في انفصال الذات عن الجوهر الاجتماعي الذي ينتج عن انعدام وعي الفرد بحقيقة وجوده واستسلامه وتنازله عن حقه في السيادة على نفسه للآخرين اي تنازل الفرد عن استقلاله وتوحده مع الجوهر الاجتماعي. ورأى «روسو» أن الاغتراب هو انقطاع الإنسان عن طبيعته الأصلية التي يمكن أن تكون إما أصوله البدائية أو طبيعته الجوهرية الثابتة، والتغلب على الاغتراب هو العودة إلى هذا الجوهر «الثابت أو البدائي»، وهذا هو الاغتراب الايجابي. اما الاغتراب السلبي فيتمثل في ضياع الانسان في مجتمعه وانفصاله عنه. وانطلق مفكرون آخرون من تحليل روسو للاغتراب الايجابي حيث اكدوا ان الخلاص من الاغتراب هو التمرد والثورة للوصول الى مجتمع اللاغربة.

أنواع الاغتراب:

1. الاغتراب الوجودي: يرى الوجوديون ان الاغتراب ظاهرة حتمية رافقت الانسان منذ وجوده على الارض وستظل لصيقة به وانه يدور «في إطار العزلة واللاجدوى وانعدام المغزى»، لأن الإنسان القي على هذه الارض دون رغبة منه، «حيث تعيش الذات تجربة الانفعال في نطاق «الأنا أفكر». أن الاغتراب هنا « خاصية وجودية متأصلة في وجود الإنسان فوجود الإنسان سابق على ماهيته، فقد «ألقي» به في هذا الوجود بغير سند أو عون، وعلى غير إرادة منه أو اختيار حيث يمضي في الحياة بوصفه كائنا مغترباً يكابد القلق ويحيا نهبا لمشاعر الهجر فهو كائن مهجور واغترابه دائم لا يمكن قهره. وأن حدة الاغتراب تزداد في المواقف التي تتميز بقهر الحرية والاضطهاد والتشيؤ واستلاب الذات».
2. الاغتراب من وجهة نظر ماركس: ارتبطت دراسة «ماركس» للاغتراب بتحليلاته المعمقة عن التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية التي وصفها قائلا ان: « ما يميز العصر البرجوازي عن جميع العصور السابقة، هو التثوير الدائم للإنتاج، و الاخلال المتواصل بجميع الشروط الاجتماعية، وحالة عدم يقين وهياج دائمة. كل العلاقات الثابتة والشديدة الجمود سوية مع قاطرتها من الاحكام المسبقة والآراء القديمة والهشة، تزاح من الطريق، كل الاشكال الجديدة منها تصبح قديمة قبل ان تتحجر، كل ما هو صلب ينصهر في الهواء، كل ما هو مقدس يدنس، والإنسان في النهاية مجبر على ان يواجه بحس متزن الشروط الحقيقية للحياة وعلاقاته بنوعه الانساني». وهو اول من كشف ان الاسباب وراء اغتراب الانسان في ظل التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية الاستغلالية تكمن في ملكية وسائل الانتاج، وان الصراع الطبقي هو القوة المحركة في المجتمعات القائمة على استغلال الانسان للإنسان. وهكذا «حوَّل ماركس الاغتراب من ظاهرة فلسفية ميتافيزيقية، كما كان عند هيغل، إلى ظاهرة تاريخية لها أصولها التي تنسحب على المجتمع والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية «.
لقد كان ماركس المفكر الوحيد الذي اعتبر الاغتراب ظاهرة تاريخية وليست ظاهرة حتمية ابدية حيث ربطها بملكية وسائل الإنتاج، وان ظهور الاغتراب احد نتائج التشكيلات الاقتصادية الاجتماعية الاستغلالية، ولكن الاغتراب يأخذ مداه الاقصى في ظل التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية حيث يغترب العامل عن قوة عمله لأنه يبيعها في سوق العمل، ويغترب عن طبيعة عمله الذي يفترض ان يكون مصدرا لانطلاق ذاته وإبداعه فيتحول في العلاقات الرأسمالية الى شكل من اشكال السخرة التي تثلم منه الكثير كل يوم، ويغترب عن الاخرين من حوله لان جوهر العلاقات الاجتماعية في الرأسمالية قائمة على التنافس لا التعاون، ويغترب عن طبيعته الانسانية حيث يفقد السيطرة على محيطه وبيئته فأصبح كائنا متكيفا لا مسيطرا، ويغترب عن الدولة التي صنعها بنفسه « لتنظيم اموره وفض النزاعات بينه وبين الاخرين
ومن جهة اخرى اكد ماركس على « إن اغتراب العمل وصل ذروته في المجتمع الرأسمالي، وأن الطبقة العاملة هي الطبقة الأكثر اغتراباً و أن العامل الذي يستخدم كجزء ملحق بالآلات و يتحول الى شيء «. ولم يكتف ماركس بذلك بل طرح بديلا لمجتمع الغربة الرأسمالي وهو الثورة الاجتماعية التي تزيح علاقات الملكية التي انتجت تلك الغربة.
3. الاغتراب في ظل العولمة الرأسمالية: بعد انتقال التشكيلة الاقتصادية الرأسمالية من رأسمالية المنافسة الحرة الى الإمبريالية حصلت تحولات عديدة في العلاقة بين الطبقة البرجوازية وبين البروليتاريا. وبغض النظر عن اسباب تلك التحولات فإنها ادت الى ما يسميه «هربرت ماركوز» «اندماج الطبقة العاملة بالمجتمع البرجوازي»، الامر الذي انعكس على درجة الاغتراب لدى العامل في البلدان الرأسمالية المتطورة. فلم يعد مصطلح الاملاق ينطبق عليه، وأصبح عاملا « متبرجزا « كما يطلق عليه البعض، فهل ظاهرة الاغتراب التي ربطها ماركس بالملكية غابت او اضمحلت؟.
ان تجربة القرن العشرين والعقد الاول من هذا القرن تثبت عكس ذلك، فدرجة الاستغلال زادت كثيرا عما كانت عليه بعد ان عمت سيطرة الرأسمالية على عالمنا وانعكست على ارقام الفقر على المستوى العالمي، اضافة الى الحروب، و زيادة التمايز بين الدول على كل المستويات وانقسام العالم الى عالم اغنياء يزدادون غنى وفقراء يزدادون فقرا.
وما أريد أن أصل اليه هنا هو ان ساحة الصراع تعولمت ومعها تعولم الاغتراب، ليتجاوز مفهوم العلاقة بين الرأسمالي صاحب المصنع، وبين العامل في هذا المصنع الى العلاقة بين ضحايا الرأسمالية في كل مكان من عالمنا من جهة، وبين الدول الرأسمالية الكبرى والشركات العالمية المتعددة الجنسيات المرتبطة بتلك الدول من جهة أخرى، وهي غربة لم يشهدها العالم من قبل، فهي تنتج الجوع والحروب والتمايزات بأنواعها. والتخفيف او الخلاص من هذه الغربة لن يتحقق إلا بتحقيق مشروع « حلم « الشهيد المفكر مهدي عامل بانعتاق البلدان الطرفية «البلدان التابعة» عن بلدان المركز «البلدان المهيمنة» كخطوة اولى لبداية اعادة ترتيب العالم كله من جديد، عالم اللاغربة.

تطبيق عملي على الاغتراب.. قصيدة المجرشة لملا عبود الكرخي نموذجا

تم اختيار هذه القصيدة لأنها تضمنت جميع انواع الاغتراب ويبدو ذلك في ابياتها العديدة. فمثلا يقول الملا عبود الكرخي على لسان امرأة:
ذبيت روحي اعلى الجرش وادري الجرش ياذيها
هذا البيت الذي استهل الشاعر به قصيدته يتناول اخطر مقولتين فلسفيتين وهما الحرية و الضرورة، فالمرأة التي تطحن القمح وهي تدري جيدا ان الجرش يؤذيها ويأكل من جرف صحتها الجسدية والعقلية الكثير ولكنها مع ذلك تأتي كل يوم الى المجرشة لتطحن القمح وتطحن انسانيتها أيضا، وهذا هو جوهر الاغتراب. انها تعلم بالمصير الذي ستؤول اليه جراء هذا النوع من العمل و لكنها مضطرة في الوقت نفسه الى ان تؤديه. وهنا نستذكر مقولة «انجاز» «الحرية هي معرفة الضرورة» و مقولة ماركس واضحة في هذا المجال حين قال: «تبدأ مملكة الحرية حين ينتهي العمل المحدد بالضرورة»، وبهذا يربط ماركس بين عمل يحقق ذات العامل ويفتح امامه طريق الخلق والإبداع وبين عمل يحطم ذات العامل ويجعله محبطا بائسا مغتربا يكره حاضره وينتظر نهايته المحتومة.
وفي بيت آخر يقول الكرخي:
ساعة و اكسر المجرشة والعن ابو راعيها
في هذا البيت تجسد مستوى الوعي في تحليل اسباب التمايز الاجتماعي، فالشاعر او المرأة مثلهما مثل عمال المانيفاكتورات الاولى في انكلترا حينما حطموا آلات الغزل الجديدة التي حطمت انتاجهم الحرفي ظنا منهم انها السبب في الكارثة التي حلت بهم، فمن حرفيين الى عاطلين يجوبون الشوارع. فالاغتراب هنا ليس تعبيرا عن علاقة صراع بين مالك وسائل الانتاج و بين بائع قوة العمل بل بين المرأة العاملة الضحية ولكن المتدنية الوعي وبين ماكنة طينية او حجرية هامدة لا حياة فيها.
ولم يكتف الكرخي بذلك الذي اشار اليه في البيتين الشعريين السابقين بل يغوص في اعماق المشكلة فيضيف قائلا:
هم هاي عيشة وتنكضي وحساب اكو تاليها
هنا يصبح الاغتراب قدرا لا ينتهي، لذلك تلجا هذه المسكينة الى السؤال الكبير: هل هناك حكمة تكمن وراء هذه المهزلة ؟ وهو سؤال كبير يخفي تهكما فلسفيا حول قضية الوجود والمصير.
وحين تتفاقم حيرة المرأة المغتربة وتنسد الابواب يأتي جوابها صادما:
ساعة واكسر المجرشة واكَطع من الدنيا الامل
هذا البيت يجسد حيرة الانسان في هذا الوجود، حيث القي الانسان على هذه الارض معاقبا من زاوية النظر الدينية، منبوذا بغير ارادته، تعتمل في داخله مشاعر الخوف من المجهول من زاوية الوجوديين، فأصبح محبطا عاجزا عن تغيير ما حوله مستسلما لأقداره المرة، ولن يتحقق له الخلاص إلا بالموت حيث سيعود الى عالم ملكوت السماء حيث اللاغربة.
ويختتم الملا عبود الكرخي هذا الحوار العميق بالقول:
عقلي انذهل جسمي نحل روحي السكَم لافيها
هنا العقل منذهل والجسم ناحل والروح مريضة.. انها النهاية الماساوية لمجتمع الاغتراب.
لقد كان ماركس مصيبا تماما عندما اكد على انه وعند تطور العمل، وخصوصاً العمل في ظل شروط الإنتاج الرأسمالي، يقصي الإنسان عن قواه المبدعة، فتصبح موضوعات عمله موجودات مغرَّبة تقوم بالتحكم به وتصير قوى مستقلة عن المنِتج. ان العامل الذي يستخدم كجزء ملحق بالآلات، يتحول الى مجرد شيء عبر تبعيته لرأس المال. وصرخة المرأة اعلاه، والتي جسدها الملا عبود الكرخي في «المجرشة»، هي تجسيد حي لاغتراب المنتج عن وسائل الانتاج والذي سببه شكل الملكية الاستغلالية السائد. ومن المؤكد ان الاغتراب لن ينتهي إلا بانتهاء هذا النمط الاستغلالي من علاقات الملكية باعتباره جذر المشكلة وأسّها العميق.