المساء الندي يرخي سدوله على حقول الرز الممتدة قصيا حيث يلفظ الافق آخر انفاسه... والتي راحت بعد نهار باذخ الأشراق ترتدي ثياب العتمة رويدا رويدا مجبرة ودون قناعتها... متخلية عن صخبها النهاري ومجدها الذهبي الموشوم بطيش سنابلها التي هدأت هي الاخرى الى حد كبير..وكفت عن رقصاتها الجنونية. وراحت تميس بغنج مع نسمات شمالية تهب بنعومة وفتور.... القمر المدخن يفيض باشعته الزاهرة مجالدا دخان المواقد (الكوانين) الذي بدأ يتعالى من كل صوب حيث يعد المزارعون عشائهم المكون من ارغفة (الرصاع )1 والشاي ومن حالفه الحظ حصل على (زوريات)2 وضعها على كوانين (المطال) لتستوي على جذوات تؤججها الريح في هذا الفضاء المفتوح لتنث دهنها النزير وترسل رائحة عبقة تستفز الانوف والبطون... لم تزل الحياة تمارس ايقاعها النابض ولم تفقد حرارتها على الرغم من يوم عملهم الطويل الذي يبدأ مع الفجر.. او كما يسموه حسب توقيتهم (مع طكة البريج)....ويستمر طوال النهار حتى تؤوب شمسه الى بحيرات الحمرة المغربية التي تتشكل لتكون لائقة بمجد الشمس الآفل..هؤلاء المحتشدون في عراء الحقول المشبع برائحة الكد والتعب والامنيات يسرقون من الزمن استراحة بسيطة يعدون فيها عشائهم ويحتسون شايهم.لينفروا بعدهاا الى العمل ثانية والذي يستمر حتى منتصف الليل او حتى انتهاء عمليات دوس السنابل وتخليص بذورها من السيقان....هرع هؤلاء الفلاحون من قراهم البعيدة والقريبة مسوقين بفقرهم الازلي الذي تدق اجراسه بضراوة بعد ان تنفد مخزوانتهم من الحنطة والشعير أو الطعام بشكل عام فيتطلعون الى حقول الرز التي حان قطافها توا... وتبدأ هجراتهم الصغيرة...إذ يفدون من المناطق المجاورة بعدت ام قربت، ويسكنون اطراف القرية التي يحلون عليها حتى انتها ء موسم (النيسان)3 ليعودوا في النهاية الى ديارهم وكأنهم يمتلكون العالم ففي (عدولهم او اجربتهم )4 ما حصلها عليه من الرز والذي يمكن ان يكفيهم حتى قدوم موسم (الدجن) فقد أطمئنوا بان ايامهم القادمة حافلة بالرصاع والرز..اذ يعيشون في هذه المتوالية من الحياة القاسية والعوز الدائم...لكنهم لا ينسون حبهم للحياة في ذات الوقت..وتبقى مفاهيم الحب والعشق والمراة والزواج والشرف والشجاعة مفاهيم راسخة في ثقافتهم رغم كل شيء....بل يواجهون ظروفهم الصعبة بالمزيد من الصبر والتحمل وعشق الحياة والسخرية احيانا..وقد ربطت كل الثقافات الرافيدنية بين الحصاد والخصب..فهي من المترادفات الاكثر حضورا في حضارات وادي الرافدين فديميتيرا" ربة الأرز و الثمار و الحصاد اليونانية، و"هيرا" ربة الزواج و الخصب اليونانية، و"عشتار" ربة الخصب و الجنس البابلية، و"إنانا" ربة الخصب و الجنس و الحب السومرية، و"فرايا" ربة الجنس عند شعوب شمال أوروبا و التي تمجد طاقة الجنس و وجهها الاخر هو فريجا و هي الأم المخصبة و"إيزيس" في مصر الفرعونية و القبطية , عادة ما كانت هذة الاله يرمز لها برموز مشتركة بين هذة الحضارات..اجمالا ان الحصاد وفي مطلق الثقافات الانسانية هو الرمز والمدخل للخصب والجنس والزواج حيث كان يرمز لهذة الالهة بكوكب الزهرة و احيانا النجمة الخماسية او الزهرة خماسية الورقات اضافة الى القمر وهو الرمز الأكثر شيوعاً للربة الأنثى عند الحضارات القديمة ودون انقطاع او قطيعة هاهو ناهي السرهيد ابن الجنوب العراقي وبعد الاف السنين جاء من ابعد قرى شمال المحافظة يجاهر بصوته الرخيم يعيد متوالية الحصاد والحب، ويردد اغنيته التي حفظها الجميع لجمالها ولكثرة ما رددها إذ يطلقها كل ليلة بصوته الصادح الجميل لتشق سجوف الليل وتبعث النشوة في قلوب الجميع (الدواويس) ( والناكولات )واصحاب الحقول...وينتشر الحماس في الجميع كلما اوغل في اغنيته ووصلت الى ايمائاتها الحسية وتلمحياتها الشبقية المكشوفة، اذي ترنم فيها بشغف ويتصاعد حماسه هو الاخر مع تنامي معاني اغنيته
يزرك يبو نجوم خل الحصاد بليل
ونذب الهدوم ونخالف الذرعان
وهنا يخاطب السرهيد السماء ذات النجوم الزرق او الاله المتعالية على طريقة اجداده السومرين والبابلين في ان تجعل الحصاد ليلا...ليشتبك جسده مع جسد من يحب بعد ان ينزعا ملابسهما ويتوسدا اذرعة بعض
ولا تخفى على احد في هذا الدارمي البسيط العلاقة المتلاحمة بين الحصاد والحب..بين سنابل الخصب التي حصدتها المناجل وبين الاجساد المشحونة بالحب والرغبة الطاغية باللقاء..والتي تسعى الى حصادها الخاص من بساتين الاجساد والارواح...دون تردد او حياء يدعو السرهيد الى ان تلتحم الاجساد عارية تحت سماء الحصاد الزرقاء المرصعة بنجوم لامعة كحبات عرق الفلاحين او الفلاحات او امالهم او توقهم الابدي الى الجنس والزواج،...فتنهال عليه صيحات الاعجاب من كل صوب...ولعل النسوة اكثر جمهوره تاثرا واستحسانا وحبا لمعاني اغنيته... لرقتهن وحرماناتهن المتراكمة....ففي حمى ايام الحصاد تتفتق المشاعر وتنضج العواطف وتتصاعد مناسيب الرغبة والحب...فهي الايام التي يجتمع فيها الرجال والنساء دون حواجز او موانع كبيرة...فتزهر الاغاني وابيات الشعر،.... يغني الرجال وتغني النساء..وتتقارع ابيات الشعر وخصوصا الدارمي..فالتعب والاجهاد والعمل الشاق يدفعهم ايضا ليواجهوا كل هذا التعب والجهد بالحب والاغاني والشعر..
بدرية الشابة الجميلة التي تعثر حضها في اكثر من مشروع خطبه اكثر الحاصودات جرأة واكثرهن قدرة في التعبير عن مشاعرها فلا تخشى شيئا و تتناغم مع دعوات السرهيد فتغني
شفت الزين بالبيدر يجدس
وعنده ريحة خضيرة اتعطس
ان جاك الشيب ريت الشيب يدرس
ولعنك بالعزب اول شبابه
تتشجع الاخريات وهن يمشين بالترتيب الواحدة تلو الاخرى على شكل رتل يحملن (الباث) سنابل الزرع على رؤوسهن من الحقل الى البيدر فتقول احداهن او يرددن بشكل جماعي
الشايل نكله8 يحطه هناه
او اخرى تردد وهي تستحث الحاصود على حصد اللوح من الزرع
فتقول هاللوح يجيب ام دلاعة 9
وتعني بذلك ان هذا اللوح الذي تدعو لحصاده ممكن ان يأتي للفلاح بزوجة جميلة بحليتها (دلاعة)
فيجيبها هو وقد تمغنط شوقا باشارتها الى ان اللوح الذي يعمل فيه سيكفيها مهرا..وبعدها سينثرا حبهما واشواقهما على مخدع الزواج.....تسري فيه حمى العشق والرغبة في صاحبته...يتاجج عزمه ويزيد نشاطه ويخاطب ارضه الصغيرة التي عمل فيها منجله لقطف سنابلها فيقول
تمددي يا شكتي 10وآنه وراج بمنجلي لاكسر كفاك
اي مهما تتمددين يا ارضي الصغيرة انا وراءك ساكسر قفاك واقطف كل سنابلك منجلي هذا
فيتساوق معه حاصود بالقرب منه ليهزج بثقة
منجلي يا بو كطع منجلي يكطع كطع
ويداعبه حاصود سمع ما قيل من غزل وتحدى
كمل ماطك يا بو الرغفان
طابك عيش وراس الكطان
اي دعك من الثرثرة ايها الرجل فانت تأكل (طابك) عيش وراس السمكه الكبيره (القطان) ولم تكمل لوحك لحد الان
وعلى مقربة منهم ايضا حاصود يسخر من زملائه لجديته في العمل وعدم مشاركتهم الحديث فيقول (مدنك واسبك صحباني)
وعلى مسرح هذا الكرنفال الجميل تفتح هذه الترديدات او الاهازيج الطريق اما م الصبايا (الحديثات) للتعبير عن اشواقهن، فهي ليس حصاد سنابل فقط انما حصاد اشواق ومشاعر وتعبير عن البؤس والمعاناة التي يعيشها الفلاحون
فتقول احداهن
اخذني وطير بيه اعله البوادي
عزيز الكلب بسمك هالينادي
الم لك بيدر آنه من حصادي
واغني بشوك والمنجل بديه
وتتذكر اخرى كيف حاول صاحب الحقل التحرش بها ماسكا يدها واخذ سوارها (ملوى ) ليجبرها على الرضوخ لرغباته الجسدية...فتحتد وتدافع عن نفسها وشرفها بقوة...وتوقفه عند حده مدافعة على شرفها..ولكنها محكومة بالفقر وهو صاحب الحقل الذي تعمل فيه....فتكتفي بتحذيره وتغفر له فعلته
زرعك منكلش بيه خاله اطني ملواي
بالك تعود انوب مغفوره الك هاي
ولكنها لم تزل تشعر بالاهانة والانتهاك فتوجه اللوم الى حبيبها الذي تركها ورحل الى المجهول....وبقت هي بانتظاره فتكمل
خليتني يهواي شتله بثنيه
والراعي والحاشوس يفتر عليه
او تلك التي تستعجل الناكولات على العمل بسرعة والحصول على استراحة للاكل وشرب الشاي
همن لا يبرد غوريجن عيش الرصاع متانيجن
وتلك المعتدة بنفسها والتي ترى انها اكثر حيوية وقدرة على العمل من صويحباتها..لكنها تخجل ان تقول ذلك مباشرة فتهزج مستعيرة لسان امها التي تشيد بابنتها وقدراتها وجلادتها في انجاز العمل
تكول امي علي وياها بتي ما تلكاها
تكول امي هلا بيها كحيله وعيب الاجيها
واخرى يستبد بها الجوى ويتملكها العشق وهي تتذكر حبيبها فتغني
خلوني يهل هواي راعي بغنمكم
اكل وشرب ما اريد بس شوف ابنكم
او بضلوعي وتهبشين موش اعله جاون
همج وهم البيض كلهن تساون
وتستمر في بث شكواها او الاستعانة على تعبها لتقول
مثل البطل 11وجيت نار اعله راسي
ولفي خذنه البيض ونكسر باسي
او تلك التي تطلب من الله ان يصاب الحقل بآفة أو يحترق كي لا يصاب حبيبها الحاصود بالتعب وهو يقوم بعملية الحصاد
ريت الشلب بيه دود باول نثاره
يالتعب الحاصود ليله ونهارة
وتستمر في تمجيد حبيبها ومدحه للحد الذي ترى فيه ان ما يزرعه يختلف عن الاخرين
زرع اليزرعه هواي ريزة وكلبدون
جل اليضل بالكاع مرود للعيون
ويتناهى صوت ناهي السرهيد ثانية من بعيد بعد أن اعطى لكل الساهرين من رجال ونساء الحصاد دروسا في الحب وقد ازداد حدة ولمعانا فيقول
كتلني الشاد بالهامه وباري
وعليكم حفيت اجدامي وباري
انا اشجندوب اتانيكم واباري
اخاف من الشمس تطلع عليه
فتردد "عشتار" ربة الخصب و الجنس البابلية، و"إنانا" ربة الخصب و الجنس و الحب السومرية معه ذات الاغاني مترقبة مواسم حصاد قادمة تشعل فيها حمى الحب والخصب في الجميع...ويلعن في سرهن الجرارات والمكائن الزراعية التي تحول مثل هذه الكرنفالات الى ذكريات بعيدة لا تزهر الا في الذاكرة