ادب وفن

«آلام السيد معروف».. مقطع من الرواية غائب طعمة فرمان

للغروب فتنة لدى السيد معروف لا تعادلها فتنة أخرى في الدنيا كلها. كان اذا استقبله في ركنه المنزوي في المقهى المطل على النهر لم يعد يستهويه أي شيء آخر فيما حوله؛ لا الطيور التي كانت ترف فوقه منقضة على صدر النهر، مصعدة في السماء الشفافة، حتى تغيب عن الدنيا، لأنه يعرف أن الطيور ستعود في آخر الأمر الى وكناتها، ولا الغمام السابح كالقطن المنفوش لأنه سرعان ما يندمج في الأفق ويتبدد، ولا الطائرات التي كانت، أحيانا، تلوح من خلف صف النخيل في الجانب الآخر من النهر، وتحلق وتصفر، وتغيب عن العين، لأنه كان يعرف أنها ستحط ف? مطار من مطارات العالم الواسع.. أما هذا الغروب الساجي فيظل يطوي الآماد، ويعانق الآفاق، ويظل يلازمها الى ما لا نهاية، هاربا من ظلامية الليل التي كان السيد معروف يكرهها كرها شديدا، فيود لو يلاحقه الى الأبد، معانقا مثله الآفاق، دون أن يشهد الليل الكئيب، أو الظلام المتوحش، فالعمر مع رحلة الغروب، يتمدد ساعات يعوض عن خسارة يوم قضاه بين أربعة جدران وراء آلة طابعة عتيقة منحوسة تسبب له آلاما بالمفاصل، ومغصا بالمعدة، ووشوشة في الأذنين، وزغللة في العينين. شيء في الغروب شجي وبهيج وفاتن وعنود فيه سحر الديمومة، وفتنة ال?زل ومطال الأجل لا مثل الشروق الخاطف سرعان ما يسلم زمامه الى شمس لاهبة، وهواء وغر، والغروب بعد كل شيء، صار رمز حياته. حياة السيد معروف الآيلة الى الغروب، حياته الشاحبة المتراجعة المتقلصة، المتراكضة، كالغروب نفسه نحو هوة أفق غامض، دون أن يستطيع أن يمسك بها، أن يوقفها ويتأمل فيها، كما لا يستطيع ان يوقف الغروب، ليتأمل فيه. وكان السيد معروف يدرك، في قرارة نفسه أن من اليأس أن يتعشق المرء الغروب لا الشروق.لكنه يعود فيقول لنفسه : كيف يعشق المرء شيئا لا يذكر أنه رآه في مجده المروي والمحكي عنه، في أي يوم من أيام حيا?ه. فقد كانت الشمس تنبع من وراء ألف جدار، في مدينته الملتفة على نفسها، كالشرنقة المتلاصقة الجدران، الضيقة الأزقة،المدينة التي تربى فيها وقضى شبابه، ويقضي الآن كهولته العامرة بالإيمان. الشروق بداية نهار لاغب، موقر بالتعب، وحرق الأعصاب، دون أي جدوى ولا أية فرحة، ولا أي ثقب صغير في السماء يمكن أن يرى فيه نجمة ويستطيع بثقة أن يوسعه إذا لاح له في المنام. أما الغروب فقد كان يراه في مجده الأرجواني، كلما جاء الى مقهاه، أي كل يوم تقريبا، في سماء صافية صاحية من خلال سحب مهلهلة الأذيال، يسهل على الغروب الهارب أن يضرم ?يها النار، وحتى حين كانت زوابع الرمل تهب قادمة من أمنا الصحراء يتمرغ الغروب كل مساء على صدرها الحنون الرحب ذي الأثداء الألف من كثبان الرمال، فتتلون ذرات الرمل بصبغة كدرة من لونه الناصل الحمرة، فترى الغروب يرقص في شوارع المدينة، ويلون الوجوه والأشياء والهواء نفسه، ويتجلى بكل عظمته المهيبة المدججة برمال الصحراء. وكان السيد معروف يأتي الى الغروب كالمستجير هاربا من مشاكل بيته الصغيرة والعويصة في نفس الوقت، سارحا في مراعيه الوردية بنعاج خياله، فيتخيل الأراضي والبحار والجبال والوديان والأنهار والبحيرات والمدن وا?قرى التي مر بها الغروب، ويظل يتابع مساره مثلما يتابعه اليوم.
في البداية سيختفي وراء خط النخيل، تاركا الجانب الشرقي بين مخالب ليل مفترس، ثم يتعدى حدود المدينة العريقة بسرعته الضوئية الخارقة، ويطل على مشارف الشام، ثم يدخل فاتحا دمشق، مجتاحا عمان، وبعد ذلك يتسلق جبال لبنان، أو عقاب لبنان، على حد قول الخالد الذكر شاعرنا المتنبي، ويضرج مسالكها الخضراء، وذراها البيضاء، ثم يسقط على مياه المتوسط الزرقاء الشفافة على ما يتصورها، ويظل السيد معروف يمتطي صهوة جواده، ويتسلم مفاتيح المدن التي يغزوها الغروب الفاتح بأمر الله.
اليوم خرج السيد معروف من البيت مهموما تلاحقه أنات أمه، وتوجعاتها المزمنة. كانت السماء صاحية، والشفق يلون ذرات الغبار العالقة بالهواء. وفي الشوارع حركة مرحة ضاجة، والناس صاخبون منفعلون، وكأنهم يتهيأون لمغامرة مع المساء، على بعد أمتار. سيتسلق درجاته الثلاث، ويسلم رافعا ذراعه لصاحبه ذي اللحية الخفيفة البيضاء، ويقطع القاعة المتشنجة برنات قطع الدومينو والطاولى "النرد"، ويدلف من باب الزجاج يؤدي به الى شرفة واسعة، أشبه بشناشيل، واجهتها المطلة على النهر بنوافذ زجاجية ترتفع عن أرض المقهى بحوالي متر، وتنتهي بنصف دائ?ة من الزجاج الملون أشبه بالمروحة اليدوية وسيجد الطلاب منكبين على كتبهم، والصمت والهمس يدغدغان الأعصاب ويهيئان النفس الى صلاة ومناجاة. سيسلم على بعض من يعرفهم، بإنحناءة خفيفة لا تقطع على الطالب خيط أفكاره الرقيق، ويتجه الى ركنه المعهود، مصلاه، ويقابل الشمس في انحداراها الانسيابي خلف أهداب الأشجار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــ
* زاوية نصف أسبوعية، نعيد فيها نشر أزاهير الشعر والقصة القصيرة والمقالات وفصول روائية لكبار الأدباء والكتاب العراقيين لتعريف الأجيال الجديدة بعيون ابداعهم.