ادب وفن

صمت الشاعر.. الشجرة،ثرثرة الآخر.. الببغاء / حميد حسن جعفر

بدءا بالثريا/ العنوان، يعمل الشاعر مهند عبد الجبار على وضع القارئ ضمن عملية التناقضات أملا بخلق فضاء للاستفزاز، في محاولة منه لإدخاله ـ أي القارئ ـ وسط فضاء التأويل، والبحث عما يريد ويبتغي الشاعر ضمن إشكالية العناوين وما تخبئ خلفها من حالات التحايل وخلق الإيهام.
إن الصمت قد يشكل لدى الشاعر معادلا موضوعيا لأوضاع عديدة من الثرثرة والاجترار، أو حالة من حالات طحن القرون/ القعقعة. وقد يشكل حالة من حالات الصراخ والرفض وانعدام القناعة. لأن الصمت هنا ليس حالة عوق، أو حالة مرضية بقدر ما هي حالة قد تكون مفروضة أو قد تكون مقصودة، استطاع الشاعر أن يستفيد من قدراتها، وما تخفي من لغات على إثارة الآخر/ الخصم، ووضعه وسط خضم من التفسيرات، لما يوحي هكذا صمت/ لغة من دلالات ومن قوة المعنى وبلاغة الكلام. فالصمت هنا ليس نتاجا لحنجرة، أو لصندوق الصوت، كما تسمى الحنجرة، بل هو نتاج فكري.
ورغم هذا فالشاعر يعتمد الفكر في إنتاج النص، بقدر اعتماده على ذهنية النص الصوري، والذي يسميه الشاعر والناقد جمال جاسم أمين بـ «قصيدة الصورة» في مقدمته لنصوص الشاعر «لقنوا الببغاء صمتي».
***
هذا الموقف ـ الموقف الذهني ـ من تشكيل النص ذهب بمخيال الشاعر بعيدا، حيث يجد نفسه بصحبة اللاواقع/ الفنطازيا، حيث تذوب وتتلاشى الوحدات المادية المكونة للحياة، ويتحول الواقع المعيش الى شيء هلامي.
إذ تبدو النصوص ـ مواد وتشكيلات بلاغية غير معنية بالثيمة أو الموضوع، كنواة من الممكن أن تتشكل مفردات النص على سطحها.
من المتعارف عليه إن الكائن البشري/ الطفل بمقدوره أن يتعلم القول/ النطق خلال السنوات الخمس الأولى من حياته، ولكن هل بمقدور العالم أجمع أن يعلم هذا الكائن الصمت خلال خمسين عاما؟ هذا ما لم يستطع أن يثبته المهتمون بشؤون وظائف الأعضاء. فالانسان الصامت صندوق مغلق لا يمكن التكهن بما يتشكل ما بين أضلاعه ولكن متى أطلق عصافير لسانه، كشف أوراقه، وأعلن أسراره.
عند هذه النقطة، يحاول الشاعر أن تظل أوراقه/ أوراق الشجرة طلسما، وكلامه متماهيا وراء حالة من الخرس، وضجيجه لابداً/ متخفيا كما لو كان حالة انطفاء بحاجة الى من يوقد عشبها الجاف.
وإذا ما كانت هنالك أوراق مكشوفة، فهي لا تشكل سوى اضاءات، لا تدل على نفسها، بقدر ما يمكن أن يستدل القارئ عبرها على عتمة الحياة وتشابكاتها، وضرورة خلق حالة من الإزاحة وصولا الى ما يقف، أو يتشكل تحت اللحاء، من مسارات ونسوغ، من الممكن أن توصل القارئ الى واحدة من اثنتين؛ إما الى الجذور/ العمق أو الثمرة/ السمو. وكل من الحالتين من الممكن أن تمنح هذا القارئ حالة الدخول إلى المتعة.
***
إن الشاعر في صناعته لمنظومة الأسئلة التي كثيرا ما كانت تشكل البوابة المعتمدة في دخول القارئ الى رياض القصيدة، ما كان يقصد منها تفتيت/ تشظية الواقع، وإعادة تشكيل واقع آخر، ينتظم تحت لواء المدينة الفاضلة. بل إن هكذا أسئلة لا تعتمد الواقع متكأ لها، لأن ميتافيزيقية/ ميتاواقعية الحياة حالة متخيلة، تعتمد الابتعاد قدر الإمكان عن المرجعيات المتوفرة في عقلية/ ذهنية المتلقي.
خمسة وعشرون نصا تنتمي لقصيدة النثر حصرا. ورغم اتساع الفضاء الذي تتحرك على جغرافيته، إلا أن القارئ كثيرا ما يحسّ بأن القصيدة محاصرة، بعيدة عن الجغرافية، بعيدة عن التاريخ، لا حوادث، لا وقائع. واذا ما استطاع الواقع المعيش المندفع نحو أقصى الملاصقة مع الإنسان/ القارئ، أن يبرز هنا أو هناك، فإنه يظهر تحت حالة من الرمزية التي هي بحاجة الى كم من الاستنفارات للذخائر لكي تتمكن من البروز/ الظهور، وبشكل مغلف بالحياء كما لو كانت عورة.
***
إن من أهم ما تتميز به هذه النصوص هو القصر والاقتصاد في المفردات. هذا التحجيم الذي وضع الشاعر نفسه بين جدرانه هو واحد من الكمامات التي لم تستطع القصيدة أن تطلق حناجرها لتغرد بعد أن وجدت نفسها وسط صناعة شديدة القسوة. بل يبدو إن النص الشعري لدى مهند عبد الجبار يعاني حالة من البخل الذي كثيرا ما يتحايل على قدرات المخيلة في صناعة الشعر.
هذا البخل لا ينتمي إلى حالة من الجفاف أو العقم، بقدر انتمائه إلى حالة من الاقتصاد باللغة من أجل صناعة ذهنية قادرة على الوصول الى استقبال ضمن حدود المستويات المتعددة لاستهلاك النص الشعري.

«2»

إن مهند عبد الجبار شاعر يعمل على تجميع النقائض، لا من أجل خلق حالة من التوافق، بل من أجل إنتاج تناقضات لا تنتمي لما قبلها إلا ضمن اللامعقول.
إن «كيف تساقط ربيع يديك؟»، و»متى تلتئم جراح الفجر؟»، و»ألم تكن عملا شاقا هذه القناعة؟»، و»ما الذي تركته ذكراك المخضبة بالندى»، هذه التساؤلات لا تنتمي لحالات العقلنة، بل إن الشاعر يعمل على تدمير عقلانية الحياة المنضوية تحت ألوية الحروب وما تنتج من إلغاء، وموات. فالشاعر يؤكد على ضرورة أن يكون القارئ وسط حالة من القلق، الذي لابد له من أن يعكر ذخيرة الماضي، ويبلبل سكونية المطموس، من أجل خلق حالة اختلاف يتمكن عبرها من الدخول الى فضاءات أخرى تتسع له رغم اختلافاتها.
فالشاعر لا يعتمد تركيبة أو معمارية متداولة، إذ إن القارئ سيجد العديد من النصوص توفر حالة مكانية/ ظرفا مكانيا، أو حالة زمانية/ ظرف زمان، من أجل إطلاق حركة مجساته.
فـ «منذ الكهوف الأولى».
و «بعد شراء الذمم».
و «حين أخفق في الظل».
و «قبل نزوح الغروب».
و «خارج نطاق الأمل».
و «منذ ولادة العشب».
و «عندما شيدتك».
ورغم إن هذه الظروف لا تنتمي للحراك/ للفعل، ورغم التكرار الذي قد لا يورث غير الملل، إلا أن ما بعد العتبة/ البوابة سيجد القارئ/ المتلقي نفسه وسط حالة صحراوية لا تنتمي للقحل، وانعدام العلامات بل يكون انتماؤها لإعادة تشكيل إحساس القارئ بضرورة صناعة جغرافية جديدة، تعتمد بقايا الإشارات الضوئية التي تـُعتمَد في الحصول على الوقت/ الزمان، وعلى ما يلغي الذاكرة من بوصلة/ أو من اسطرلاب إذا ما اعتبرنا الصحراء حالة برمائية مياه/ رمال بل ربما سيجد القارئ أمامه الكثير من العلامات المنتمية الى التضليل أو التعتيم حركة الرما?/ الأمواج، حركة الغيوم والظلال.
وما عليه ـ أي القارئ ـ سوى الاعتماد على صناعة الإزاحات، وخلق حالة من الاحتيال على علامات قد تنتمي للحيوان حينا وللنبات حينا آخر، وقد يكون هناك فجر كاذب.
فالشاعر وسط هكذا ظروف/ مداخل ـ أجواء، قد يكون واقفا تحت حالة من تناص شعري متقد، ينتمي لحالات روحية ومادية لم يستطع أن يطلق عليها الرصاص، فعبأ قصائده بفيوضها.
وإذا ما كان لشبه الجملة الظرفية حيز من إيقاف الفعل وتحجيم حراك الجملة، فإن شبه الجملة المتشكل من الجار والمجرور كان يعمل فرض سطوته.
فـ «على مدار اللوعة».
و «في الميلاد».
و «في لحظة ضعف».
و «في نواة التمرد».
و «بغفلة من الروح».
و «بموقفها المشرف كالرمح».
أشباه الجمل هذه تكاد تشكل قوة مضادة/ معطلة، وهي التي منحت النصوص الكثير من السكونية لعدم امتلاكها هكذا تشكيلة بلاغية لسلطة التغيير والتبدل. إلا إن الشاعر يحاول أن يعوض إلغاء الفعل بحضور واضح لصناعة النص المرئي/ الصورة ـ مادة الذهن المنتمية الى المخيال. تلك الصناعة التي دفعت بالشاعر الى إلغاء الفعل/ الواقع ضمن حالة من حالات عدم الاعتراف بالسائد أو المتفق عليه وسط الحس الجمعي للقراءة، حيث تتم عملية إلغاء التفرد، والشطب على الواقف خارج حركة الموجة. فالفعل كصيغة انتاجية للحراك يكاد أن يغيب كليا من الواجهة?لولا:
«أواظب على النعاس».
و «تراكمت عليه السنون».
في هذين المنتجين/ البوابتين لاثنتين من القصائد سيجد القارئ أن «أواظب» فعل لا ينتمي لصناعة الحراك بقدر انتمائه للغيبوبة المحتملة وتسيد الركود واستمرارية حالة ما قبل الانطفاء. وكذلك الحال مع «تراكمت» حيث تكون الأفعال لازمةً لا تحتاج الى صناعة المفعول به.
وبذلك لم تستطع اللغة التي يصنع الشاعر من مفرداتها وتراكيبها صوره الذهنية لم تستطع أن تكشف عن متانة وقدرة الحالة الذهنية التي تنتمي إليها ضمن انتمائها الكلي لحركة الأديان السماوية والأرضية، والتي تعتمد كليا على الميتاواقع، لصناعة واقع/ مدن أخرى أكثر جرأة على صناعة الجمال.

«3»

وسط هكذا استحكامات لا تنتمي للشعر، وإن لم تكن منتمية بالأساس إلى اللاشعر، يتحرك مهند عبد الجبار محاولا صناعة تيار ذي مرجعية خاصة. إن هكذا مخاضة قد لا تمنح الصياد الذي يدخلها أسماكا حية/ قصائد بقدر ما تمنحه أشنات وحيوانات/ كائنات مائية نافقة.
إلا إن صاحب الصمت استطاع أن يسرق الخزين، وأن يذهب بعيدا بعيدا وسط أماكن متخيلة لم تمنحه إلا شذرات من ملامح وإشارات قد تتعب القارئ كثيرا من أجل الوصول الى أعماق قد تحتوي على كائنات لم تنقرض بعد، أو الوصول إلى الضفاف الأخرى.
إذ إن هكذا أماكن/ جغرافيات تفتقر للعلاقات الدالة. إذ كثيرا ما تضع الآخرين وسط متاهات لا نجاة منها إلا بالاستعانة بالفراسة/ الذكاء، واقتفاء الأثر/ الذخيرة.
إذ إن القارئ كثيرا ما يتحول وسط هكذا نصوص إلى مجموعة فرائس أمام مجموعة شراك، وما عليه سوى أن يمتلك الحركة المدروسة. فصناعة القصيدة هو المبدأ الذي اعتمده الشاعر في تقديم نصوصه. فمنجز كهذا لا يمكن أن يكون محكوما بالبراءة عند مواجهة القارئ البريء، وما على المتلقي إلا أن يكون بمستوى الكتابة، لتتشكل المعادلة التي يجب أن تعتمدها الحالة الإبداعية، ألا وهي معادلة القراءة/ الكتابة.
***
إن صمت الشاعر/ الشجرة صمت صارخ، صمت قادر على صناعة لغة عالية النبرة في «لقنوا الببغاء صمتي» كقصيدة، والتي يتحول عنوانها الفردي/ الخاص الى مرجعية جماعية لأربع وعشرين قصيدة أخرى، لما له من قدرة على كسر الحواجز، والإتيان بالمغايرة، أو الغريب.. وعبر الاستفادة من علاقة الطائر/ الببغاء الكثير الثرثرة بالشجرة التي تعلمت الصمت منذ أن كانت حبة أو نواة أو بذرة. تلك الشجرة التي بإمكانها أن تتحمل «إثم الخريف» و»منزلة الربيع». تلك الشجرة التي تحاول أن يترجم صمتها وليتحول الى قانون يبث سلطته على جميع سكانها. وإذا ما كان?الصمت يشكل حالة حوارية، بين أطراف العملية الإبداعية/ الربيع فانه حالة لا تُقبل، وغير معترف بها، ولا تشكل حالة قوة بالنسبة للطرف الآخر/ الخريف/ الحروب وما تنتج، أو ما يمكن أن ينتمي للخريف.
إن "أحلام ـ الشاعر ـ الندية" من الممكن أن تمنح الشاعر والقارئ معا الكثير من معاني الشعر. فهكذا نص يعتمد على مرجعية بشرية إذا ما أدرجه المتلقي والمنتج ضمن حالة من الاحتفاء بالإنسان، أو حالة رثاء لهذا الإنسان.
هذا النص يتمتع بقدرة واسعة على استدراج الأسى وتحويله الى ركن من أركان الفرح والبهجة. حالة بها يتمكن هذا الإنسان/ المحتفي بموته من رفع قامته، وحتى قامة النص نفسه، باستطاعته أن يمد يديه ليتعرف على تحولات الكائن البشري.
ولأن معظم القصائد لا تعتمد الموضوع/ الحدث وسيلة للكتابة، فإن القصيدة لم تستطع أن تكون غامضة أو ملغزة. وإذا ما كان هناك بعض الالتباس في الاستقبال، فإن منشأه يعود إلى تطرف الذهنية في صناعة الصورة، وبالتالي ظهور حالة الإحساس بالغرابة لدى المتلقي.
القصائد هذه قصائد مكشوفة، رغم عدم مباشرتها، ورغم عدم انتمائها الى حالة التسطح، ولكنها بحاجة إلى ذهنية متوقدة، ذهنية قارئ عضوي، قارئ منتج، قادر على مجاراة الشاعر في إنتاجه للنص.
إن وجود مرجعيات واقعية اعتمدها الشاعر في تشييد حالات مهارية في الكتابة، استطاعت أن تمنح النص الكثير من المتع. وان القارئ لم يُبحر وسط فضاءات من الضبابية، أو وسط زوابع ترابية تكدر عليه صفاء الرؤية، ولن توفر سوى حالة من العزلة، وسط ضجيج وقلاقل لا تنتمي سوى للافتعال.
ولأن الشعر يشغل مساحات واسعة من تجارب الشاعر، استطاعت هذه النصوص أن تبتعد عن التخاذل أمام تجارب القارئ.
إن مهند عبد الجبار شاعر بحاجة إلى قارئ يحاذيه، قارئ غير اعتيادي. وهذا ما يحسه الكثير من الشعراء حين يجدون أنفسهم وسط هكذا مأزق ثقافي/ قراءاتي. إن عافية القراءة حالة روحية وفكرية من الممكن أن تنتمي للاستثناء رغم وجود مساحات واسعة من القراء الذين من الممكن أن يكونوا قاعدة عريضة. إلا إن الشعر ورغم أهمية الكم يظل بحاجة إلى النوع؛ والقارئ النوعي لا يمكن أن تنتجه ميكانيكية القراءة. لا يمكن أن تنتجه الببغاوات التي يحاول الشاعر/ الشجرة أن يستبدل الثرثرة بالصمت الأكثر معرفة. الصمت المنتمي لمخيال يشتغل بعيدا عن النف? في القرب المثقوبة.

"4"

رغم انتماء قصائد "لقنوا الببغاء صمتي" الى القصيدة القصيرة ـ غير المركبة ـ ذات الصوت الواحد/ صوت الشاعر، ورغم انشغال الشاعر بحالة التكثيف والاختزال، والاقتصاد باللغة، وبالتحجيم كذلك؛ رغم هذا وذاك، يجد القارئ أن الكثير من هذه القصائد ينضوي تحت لواء الجملة الطويلة الموزعة على عدد من الأسطر، رغم عدم وجود علامات الوقف أو التواصل أو الانتهاء؛ مثل النقطة أو الفارزة وما شاكل هذا.
فالكثير من هذه القصائد تتشكل من جمل لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة. فالقطع/ النهاية الذي قد يتشكل داخل النص/ الأسطر، قطع مؤقت سرعان ما يجد القارئ تواصله مع بقية الجمل والتراكيب، رغم انشغال الشاعر بحالات من الاعتراض والاستدراك والتعليق، والتي قد لا ينتبه، أو لا يستجيب لها القارئ؛ بسبب عدم استخدام الشاعر لعلامات الكتابة: "الأقواس، الفوارز/ الفارزات، علامات التنجيم بين المقاطع، أو علامات الاستفهام والتعجب، النقطتين، والشارحة، والنقطة". عند هذه النقطة أو تلك تظهر حالات التداخل التي على القارئ أن يفككها أو يوقف ز?ف بعضها على سواها، ليجد نفسه وسط حالات كثيرة من التراكيب المنتجة لحالات الفوضى والارتباك.
فالنص الذي يكتبه مهند عبد الجبار، وضمن هذه المجموعة، يبدو عليه الكثير من عدم التنظيم. وهذه الحالة قد تصيب نتاجات الكثير من الشعراء.
إذ إن اللغة العربية تعتمد كثيرا في جماليات الإلقاء والإرسال والقراءة والكتابة كذلك على العلامات التي توفر للقارئ أو المستمع أو المتلقي الكثير من الأحاسيس النفسية التي تعتري الشاعر، أو الشخصية التي يستند عليها النص الشعري. ومن غير هكذا حالات إجرائية يتحول الكلام/ الكتابة الى مجموعة هائلة من الحروف والكلمات والعبارات والجمل والتراكيب الى حالة أميبية، لا تمنح القارئ سوى اللهاث، وعدم الفهم؛ مما يسبب حالات من الارتباك، واتهام المنتج بعدم الوضوح.
***
فـ "أحلام ندية"، والمتشكلة من سبعة عشر سطرا، سيجد القارئ إن الثلاثة عشر شطرا الأولى والتي تنتهي بكلمة "أبي" تنتهي بنقطتين، والأسطر الأربعة الأخرى، تنتهي بنقطتين وعلامة استفهام. وقصيدة "غموض" والمتكونة من ستة عشر سطرا، سيجد القارئ إن الثلاثة عشر سطرا بينها نقطتان والثلاثة أسطر الأخرى بينها نقطتان أيضا، ليتساءل: لماذا هاتان النقطتان؟ وما مغزاهما؟
في قصيدة "الهدير صرخة" والمتكونة من سبعة عشر شطرا لا تحمل أي علامة من علامات الكتابة، ولكنها تحمل مفارقة إن الشطر الأول ينتهي بنقطتين: "منذ الكهوف الأولى..".
وفي قصيدة "مخالفة" والمتكونة من سبعة عشر سطرا ينتهي السطر الثالث بنقطتين، والسادس كذلك بنقطتين، والسطر العاشر بنقطتين. بل إن العديد من الأسئلة ـ علامات الاستفهام ـ لم تحصل على حقها في رسم علاماتها.
1. كم اصطحبت أياما ثملة.
2. كيف يهبني أجفانا.
3. من الذي.......
4. من سيخفق باجتياز نهاية الأمل.
5. فلماذا... / يتهرب الحب من الميدان.
6. متى تلتئم جراح الفجر.
7. كم انصبّ الأرق على رؤوس الشوارع.
8. فما جدوى لأن أحظى بعباءة بالية.
9. ألم تكن... / عملا شاقا / هذه القناعة.
10. هل كان ميراثا شاسعا/ من الغياب.
إلا أن الشاعر لم يستطع إلا أن يستثني تساؤله الذي افتتح به قصيدة "نوارس الوحشة":
"ما الذي.. تركته ذكراك المخضبة بالندى؟
ليعود ثانية الى علامة الاستفهام المحذوفة
أترى هذه العربة".
"أليس المبغى/ انتهاك لحرمة المرايا".
إن وضع القارئ وسط هكذا تيه قد يفقد القصيدة قوة الاستجابة لإرساليات الشاعر، إضافة لصعوبة الاستقبال. وما بين هذا وذاك، قد يفقد العمل الأدبي/ الإبداعي ارتكازاته على مخيلة طافحة باللاواقع، وعلى ذهنية شديدة البحث عن اللامتوقع.

"5"

الاقتصاد والكثافة عنصران مهمان في صناعة القصيدة لدى مهند عبد الجبار في محاولة من الشاعر للإشادة بالحذف، حذف الزائد، من الكتلة الكلامية التي يشتغل عليها حاله حال المثالين أو النحاتين حين يستخدمون أزاميلهم في إزالة ما لا حاجة لهم به من الحجر وصولا الى الكائن/ الصورة المتخفي وراء الغبار/ الذي لا وظيفة له سوى إخفاء الجمال والوضوح. هذه الحالة قد تقترب أحيانا من التطرف حد البخل ما يضعف النص ويدخله في فضاء فقر الدم، أو سوء التغذية.
العديد من القصائد المنتمية لمبدأ الاقتصاد والحذف هذا يجدها القارئ قد لا تتكون إلا من جملة واحدة أو لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة من الكلمات.
***
فقصيدة "سطح اليأس" تتشكل من جملة واحدة، على الرغم من أن الشاعر عمل على خلق حالة تقطيع ـ تقسيم ـ تفكيك، ليتشكل منها أحد عشر شطرا، ومن قبلها قصيدة "مباغتة" التي تتشكل من جملة واحدة، وكذلك الحال مع قصيدة "احتيال"، وقصيدة "مفارقة" تتشكل من جملتين الأولى فعلية تبدى بـ "تراكمت"، والثانية شبه جملة من جار ومجرور.
قصيدة "أوجه تشبه" تتشكل من جملة واحدة.
قصيدة "في ذاكرة الريح" تتشكل من خمس جمل، الأولى تبدأ بـ: "منذ ولادة العشب"، والثانية تبدأ بـ: "منذ كم"، والثالثة تبدأ بـ: "الآن أصبح الوهم غيمة"، والرابعة: تبدى بـ: "الآن"، والخامسة تبدأ بـ: "فعلى البراعم التي تغفو".
إن الكتابة وفق هكذا هندسة، أو وفق هكذا أشكال معمارية لم تكن وليدة لحظة الكتابة، إذ لابد من وجود حالة قصدية ـ في لحظة الكتابة تختفي حالة التخطيط أو التصميم، أو رسم المخطط. إن الشاعر وسط هكذا معمارية لابد له من امتلاك المبررات التي تجيز له الدخول الى اللعبة الصعبة، متجردا من العديد من الأحكام، بعد أن تمسك بشرط الكتابة الإبداعية، والتي قد تضع المخيال كعنصر أساسي ومتفرد في صناعة القصيدة.
***
مهند عبد الجبار شاعر يجهد نفسه والقصيدة كثيرا من أجل صناعة نص ذهني يعتمد الصورة في حواره مع الآخر/ القارئ. نص قد يمد مجساته الى حقول المعرفة والفكر. وحين يحصل هذا يجد القارئ نفسه محملا بإشكالية البحث عن الواقع، وسط تلال من الصور والتراكيب، التي لا تنتمي إلا لواقع مصنوع، رغم استناده وفي كثير من الأحيان على موقف قد لا يكون مضادا ـ بالضرورة ـ لحراك معين أو لموضوع قائم.
فالحروب لم تستطع بكل القوة الالغائية التي تمتلكها ـ ونعني بها قوة الموت ـ أن تحجم الفعل الشعري، بل قد تكون مصدرا مهما من مصادر حصول حالة الرفض لكل ما تنتج من دمار روحي أو جسدي.
بل إن النص الذي يكتبه مهند عبد الجبار وحين تكون الحروب حالة معرفية له، سيكون هذا النص من أقدر النصوص على خلق حالة اصطفاف بشري معارض. هذا الاصطفاف لا تصنعه حالة الفراغ، بل إن الامتلاء سيكون له دور الدليل والإضاءة وسط جغرافية الصحراء، وزمنية الظلمة.