أحس بنشوة وارتياح الضمير وهو يدفع امه الجالسة في عربة المقعدين متقدماً على مرافقيهم ببعض الامتار، وذلك من بداية نقاط التفتيش الرئيسية للمدينة الى مرقد الامام (ع ) ، وأزداد شـعوره بالفخر كلما تترامى اليه نظرات الزائرين ... والزائرات من بلدان الجوار ذات العيون الزرقاء الخضراء ، السمائية السوداء ، والعسلية الزائغة بعض الشيئ ، ممشوقات والوجنات وردية... ، مرتديات ببساطة البرقع المزخرف الازرق ... النيلي ... الابيض . ومن المحتمل قد كن من اللاتي شـاركن في المظاهرات ضد الشاه .. ذهب الشاه .. ولحق به صدام .
السماء زرقاء شذرية صافية ، الجو معتدل بعض الشيئ ، القبة والمنائر الذهبية وقد زينتها الانوار تلوح للناظر من بعد ، أخذ يتطلع الشارع العريض،البنايات ، المارة من الناس ، يسرق النظر الى يمينه ويساره ، لقد تغير الكثير والكثير ، الا الذكريات الجميلة ، وبعض الشرفات ، غاص بالتفكير بعمق .. تتقلب فيه مسلسلات خزائنه وملفات ذكريات الطفولة والشباب ... . قبل ايام ... بمحض الصدفة علم بأن ابا حسن (حبيب البي) من مدينة كربلاء . أعتلى تفكيره ؛ مزاح ونكات الشهيد النصيرابو كريم وأمنياته ؛ ... ، لقد رحل الشباب والشباب ، أنقلب المكيال والميزان ، تلبس الرعاع الهمج والطارئون الجدد بالصدفة لباس الدين ، لا تسئل يا أبو كريم .. نمْ كي ترتاح .
توقف بعض الشيئ عن الدفع عند تقاطع الشارع الفرعي حيث تتداخل فيهما حركة تيارات الهواء ، ولكي يلحق به المرافقون ، لم تعد تشم رائحة نشارة الخشب من شارع النجارين ... ، لازالت أعمدة البيوت القديمة الخارجية صامدة في جوفها خزين من الذكريات والاسرار، أبواب موصدة .. متروكة او مهجورة ، وشبابيك غلفت من الداخل بالطابوق ، على مايبدو بان سـاكنيها قد رحلوا منذ زمان .. . حل ربطة العنق الحمراء وأعطاها لاحـداهن من الاخوات المرافقات له . مسح جبينه برفق وأحس ببعض الشيئ من الراحة .
تسائلت أمه ؛ أتعبت من الدفع ؛ اجابها ؛ كيف له التعب وهو يستنشق رائحة ماء الورد ... والعطورتخترق خياشيمه وتعطره كلما مر به ســربٌ من الحـورالعين الارضي ، يهيم في سـحر العيون الذي لم يره منذ ما يقارب الاربعين عام ، (اللهم صلي على محمد وآل محمد ) ؛ يوما اختارها الشباب شفرةً لتنبيه الاخرين بحيث لا تثير حفيظة الزوجات حينما تمرق فاتنة مثيرة الجمال . اليوم سوف يجتاز برضى الامتحان ! ، رضى الله ورضى الوالدين ، حينما يلتقـون ايام عشوراء للزيارة ، يستمعوا الى الردات الحسينية ذات المغزى والمطالب السياسية ، خصوصا في موكب العباسية ، والتي يتناقلها الزوار الى محافظاتهم بعد انتهاء المراسيم ، لتصبح قضية تتسارع الحـكـومة والسعي لحلها .
والله ياأماه اسـتطيع ان ازوّرك اليوم كل المراقد وادور بك كل هذه المسافات حتى اوصلك الى مرقد الحـرالـرياحي ، كي تغفـري لي بعدي لكل هذه السنين . راوده شعور بخفته كانه أصفى من كل اثمٍ ما قـد علق بالضمير . نعم ... الكل يشهد بأن أياديكم بيضاء وضمائركم أنسانية حية حقا ً، تحترمون الطقوس والشعائر الدينية ، بل انتم من صلب عوائل دينية معروفة بالكرم ، الاخلاق ، الثقافة ، العلم والحكمة ، مفتوحة دواوينها ومجالسها للمحتاج والفقـيرنهارا ومساءا .
أطاف بامه الضريح ، وحال أنهاء الزيارة انكبت الاخوات سجداً ، ركعاً ، قعداً ، ركعة بعد ركعة ثم الاعادة من جديد ، تطلع الى ساعته اليدوية عدة مرات ؛ عسى ان يفهموا بأنهم اطالوا بالصلاة بغيرالمعتاد ، فهو أبن العائلة الدينية يفهم ..الصلاة ، يعرف الشعائر والطقوس .. يحترمها ، حيث الركعتين محبذتين عند الزيارة ، لمه هذه المبالغة والتأليه ، مالذي جرى لهؤلاء الناس لا يعرف ، بالامس كانت أحداهن متقدة الفكر والعلم ايام دراستها في الجامعة ، أهتماماتها الادبيــة ، جمال أحاديثها ، حيويتها ، عمق وموضــوعية طروحاتها وتحليلاتها ، جرأتها ، معارفها الادبية ، حبها للشعر كأبيها ، وأمها حينما تنظمه لمناسبات عاشوراء . قرأت للزهاوي ، الرصافي ، الجواهري ، غائب طعمة فرمان ، جبران خليل جبران ، طه حسين . ..
أتعلمين كان جدك المعمم ... عادلاً ... صادقاً ... غير مغالياً يصلي صلاة المغرب والعشاء في البيت ومن ورائه الاصحاب ، وهب قطعة أرضه لفقراء الفلاحين ، اتعلمين بانه لا مغالاة في الدين ، وبان الصلاة لله وحده ، ماالذي جرى لكم تغــيرتم بشكل غير معقـول وغير مفهوم .
عاود تفحص الساعة ليشعرها بأن الوقت قد مر طويلا ، نفذ صبره وسئلها : أغدا هـو يوم القــيامة ؟ . يا أختاه لا خوف .. ان الجنة ليست بقطار يفـوتك ويتعدى محطاته ، بل ان الجنة تفتح ابوابها للمحسنين يوم القيامة ، يوم لا ينفع مال ولا بنون الا من اتى الله بقلب سليم . بضمير حي انساني .
هل انهم بحق يرجون التقرب الى الله ورغبتهم في الجنة ؟ . هل انهم يشعرون بقرب الآخرة فيكثروا في الصلاة التي تدخلهم الجنة ؟ .. .
لا يعرف لمه روى لاخته ؛ بان احد عماله الهندوس اثار انتباهه ، حيث حضوره مبكراً قبل بقية العمال ، وبانتهاء العمل عصراً ؛ يتوضأ نفس الوضوء ، يلبس ثيابه النظيفة ويبدأ صلاته ، ذات يوم وجده يقرأ لشاعر الهند طاغــور، علم بانه انهى المدرسة الثانوية وقرر العمل لمساعدة والديه ، كان شاباً اميناً ، صادقاً طيب النفس ، دقيقاً في عمله ، يحسن الفهم والتفاهم ، هادئاً ، يبادر بالتحية والسلام يطبق كفيه عموديا على فمه كانه داخـل معبده ... وعلى ما يبدو اراد ان يوضح لها ؛ بان العامل الهندوسي لا يعلم بان احدا يعرف بانه يؤمن ، حيث يقيم صلاته وعبادته بعيدا عن الانظار ، اي ان مسئلة الدين ندعها بين الانسان وربه .
افترش سطح البيت بعد رجوعهم ، استلقى ووجهه نحو السماء ، سرح يراقب النجوم لساعة متأخرة من الليل يتداخل لسمعه النقيق خارقا ستائر السطح ، يناقش نفسه ما مر به الشعب بمحن .. الوضع الاقتصادي للناس .. الاواصر الاجتماعية .. معاملة الناس عموماً ...الخشـونة والجلف ،.. ان الذي يجري هو نتاج الحروب وسياسة البطش والتهميش للنظام السابق والتي لم تعالج أثاره بصدق ، وتلاه الجهل المطبق بالدين والتعصب الطائفي الاعمى لدى بسطاء الناس والذي دفع به شيوخ المنابر مابعد السقوط ، وردود افعال ممن أعتمروا العمة محدودي الثقافة الفقهية الذين تصدروا ويتصدرون المشهد اليومي السياسي مستغلين الظروف المحيطة بالوطن .. فاللوم والعتاب والحساب يقع على النظام السياسي الجديد ومراجع الدين الفقهاء ، على ما آلت اليه الاوضاع التي يعاني منها الشعب .
.. ، .. بـلادي وان جارت .. عزيزة .
هبت نسمة أخر الليل باردة ... وغط في نوم عميق .