ادب وفن

في "الثقافة الجديدة": جهاد مجيد: المثقف المانع

من الشائع جدا ان الدراسات العلمية تعاني من دقة المصطلحات واستخداماتها, وهذه بدورها تشيع عدم دقة التعاريف والمفاهيم وبالاخص في دراسات العلوم الانسانية منها, وأكثر سيادة لهذه الظاهرة في النقد الادبي والفني؛ وذلك ناجم من طبيعة المصطلحات والتعاريف والمفاهيم؛ فالاساس في هذه انها تتطلب امرين اثنين لا مناص من توفرهما, اولهما: أن تكون جامعة مانعة. وثانيهما: أن تكون الحقول التي يجري اعمالها في حيثياتها منضبطة قابلة للتحدد والتحديد. ومن الصعوبة ان يتوفر هذان الشرطان في حقلي الادب والفن؛ فالحركات والتيارات والظواهر فيهما مثل قطعة المطاط اذا ما ضغطته من جهة يتقلص لكنه يستطيل ويتمدد من جهة اخرى او ككتلة من (الموطة) لاتمكث لتتأملها طويلا بل ستموع, لذا يتعذر ان تصب في مفاهيم وتعاريف ومن ثم مصطلحات جامعة مانعة .
في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي قفز الى الساحة الادبية العراقية مصطلح منسوب الى سني العقود وتحديدا الى السنوات العشر التي تشكل القوام الزمني لكل عقد في محاولة استسهلها عدد من النقاد لاستيعاب حركات وظواهر وتيارات ادبية عراقية في المصطلحات العشرية الحشرية تلك فملأوا كتاباتهم بمصطلحات الأربعينات والخمسينات والستينات, واشاحوا بأنظارهم وعقولهم عن حقيقة ساطعة هي أن السنوات العشر لكل عقد تنتهي بينما تستمر الظواهر الادبية والفنية بتياراتها وظواهرها واسمائها عصية على الانحشار في شوال العقد .
شاعت محاولات حصر حركات أدبية وفنية في عقد ما احيانا قد تتوفر فيها سمة مشتركة تنتظمها لكنها لاتقوى ان تكتنف ظواهر اخرى مجايلة لها في سني العقد العشر ذاتها.
ان هذه المحاولات بادية القسرية وتفتقر الى الدقة بل بعيدة عن الصواب والدليل ما تقدم ذكره وهو استمرارية تلك الظواهر واشكالها وممثليها في عقود اخرى, وقد يزعم احد ممتشقي هذه المصطلحات ان منطلقه في التسمية استنادا الى زمن بداية كتابها, لكنه يجافي الحقيقة؛ فلو دققنا في الامر تاريخيا في ما سعوا حشره في مصطلح الخمسينات او الستينات ـ هكذا درجوا على اطلاقها وليس الخمسينيات والستينيات ـ نجد زمن ولادة ونشأة اولئك الكتاب قبل العقد الذي ينسبون اليه فلو دققنا في الاسماء الادبية الكبيرة التي اصطلح عليها بكتاب الخمسينات نجد ولاداتهم الادبية ونتاجاتهم الابداعية قبل العقد الذي ينسبون اليه مثل عبد الملك نوري ومهدي الصقر وغائب طعمة فرمان وغانم الدباغ وكذلك الحال للكثير ممن عدوا (ستينيين) كموفق خضر وغازي العبادي ويوسف الحيدري والملاحظة ذاتها تصح على الاسماء الشعرية وعلى العقود الاخرى صعودا ونزولا .
في مناسبات عدة يذكر بعض الادباء ان الامر بدأ كدعابة اطلقها احد الادباء المعروفين بها, ولكن سرعان ما شاعت وانتشرت وأخذت تترسخ في الكتابات النقدية وتتعزز في الحياة الثقافية ومرد ذلك لعدة اسباب منها ان ابرز الاسماء النقدية في تلك الفترة بعيدة عن النهج الاكاديمي لذا لم يولوا مسألة دقة المصطلح وكيفية صياغته او الركون اليه الاهتمام المطلوب على الرغم من قدراتهم التي برعت في فحص النصوص وتشخيص مزاياها وتقويمها وكذلك الاسهام في بلورة مسارات الحركة الادبية آنذاك .
ظل الخلاف مستمرا في هذة القضية على مدى الاربعين سنة الماضية ولقد سبق لنا أن ادلينا بدلونا في الصراع مع تلك التسميات ولعلي كنت اول من خالفها وجهر بالاختلاف مع ابرز دعاتها وكان ذلك تحديدا منذ عام 1971 في مساجلة مع اول الكتب التي سعت الى تكريس التسميات العقدية والتعكز عليها براحة للاصطلاح على ظواهر وحركات ومسارات واعتمالات ثقافية عصية على الاستسهال والمجانية وعدم الدقة. ورأينا كان ومايزال عند توصيف اية ظاهرة ادبية أوفنية او الاصطلاح عليها أو اطلاق التسمية عليها ينبغي النظر في المنعطفات التاريخية المتزامنة معها والكشف عن مؤثراتها المباشرة وغير المباشرة سلبا أو إيجابا واستلال التسمية او الاصطلاح ارتباطا بالمراحل التي سادت المجتمع, كأن نقول ادب ما بعد الحرب العامية الثانية أو ادب مابعد نكسة حزيران عام 67 .
ان النقد الاكاديمي لم ينجر الى مثل هذه المصطلحات والتسميات الهلامية فالدكتور علي جواد الطاهر نأى بنقوده عنها وهو حين تفرس في ملامح تبشر بمشتركات تنبئ عن ولادة ما جديدة لم يحشرها في نسبة عقدية فاطرها بعنوان (واذ يولد جيل) لم يذهب الى تجييل (عقدي) بل انتبه ونبه الى تزامن حضورها في الساحة الثقافية كأسماء جديدة شابة واعدة وقد استخدم عبارة (في الخمسينات وفي الستينات.. الخ) كتعاقب زمني تتبع ما ظهر فيه من عطاء ادبي لمختلف الادباء ومن مختلف المراحل وذهب الباحث عبدالاله أحمد هذا المذهب في كل أبحاثه الاكاديمية القيمة أو كتاباته النقدية اللاحقة في المجلات او الندوات والملتقيات الادبية ولم تخرج كتابات الناقد عبد الجبار عباس عن هذا المسار فلا يذكر التسمية العقدية الا للدلالة الزمنية لا التجييلية .
ومن النقاد البارزين ممن شهدوا ظهور هذه المصطلحات ـ قيد التناول ـ وواكبوا تمظهراتها التي اُتخمت بها كتابات اللااكاديميين الناقد شجاع العاني وهو ناقد جلّ أبحاثه ضمن اطار المؤسسة الاكاديمية وحتى تلك التي قدمها خارج المؤسسة الاكاديمية لم يلجأ فيها الى استخدام تلك المصطلحات المطاطية، لقد قدم العاني ابحاثا في جوهر الظواهر الفينة في السرد العراقي وعلى مر عقوده المتعاقبة .
اما النقاد غير الاكاديميين الذين تمترسوا حول التجييل العقدي وابرزهم الناقد الكبير فاضل ثامر في محاولة تفتقر الى الدقة والمنطق لحصر الظاهرة الفنية في سنوات العقد العشر ونسبة مسألة البحث عن التجديد الشكلي الى السنوات العشر الستينية وهو قول ينطوي على الكثير من الضعف بل وعدم المصداقية. فمسألة التجديد والبحث عن اشكال جديدة لم يخل منها اي عقد من العقود التي مر بها الادب العراقي. كما ان اية محاولة فنية مهمة لا تنتهي في العقد الذي تبدأ فيه وكتابات فاضل ثامر ذاته تقول ذلك. وفي مقال د.الطاهر آنف الذكر يشير وهو يتفحص قصص الكتاب الجدد آنذاك والذين اطلق عليهم (البروستيون) الى انهم انغمسوا في استخدام المنلوج الداخلي والحقيقة ان المنولوج الداخلي استخدم من قبل الكتاب الذين يطلق عليهم (الخمسينيون) وعلى نحو واسع من قبل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وما تزال مثل هذه الكتابة مستمرة الى يومنا هذا عابرة السنين والعقود والاجيال لا في الادب العراقي حسب بل العربي والعالمي وهي تتأتى ضمن السياق الطبيعي لتطور الاشكال الفنية. ان الستينيات التي منها انطلقت التسمية وبسببها لا يمكن ان تطبع بضرب معين من الكتابة, كانت عقدا مضطربا ومتقلبا وتقلبت فيه الرؤى والاشكال بعدد احداثه الكبيرة وتأثرا بها فلا سيادة لضرب دون سواه من ضروب الكتابة فيوصم سني العقد العشر كلها بسماته ويوصم بها فنقول ادب ستيني, أو شعر ستيني, أو قصة ستينية ونؤسس عليها خطأ (اديب ستيني.. شاعر ستيني.. قاص ستيني) فهذا كلام مجاني لايعني شيئا محددا الا بالتواطؤ اللفظي المتواتر والمتغاضي عن الدقة لدى بعض النقاد. فالادب في ستينيات القرن العشرين تحديدا شهد تحولات متعددة وعميقة ارتباطا بالتحولات العميقة التي فجرتها الاحداث الكبرى لذلك العقد. فالكتابة الادبية التي ظهرت في النصف الاول من العقد وتحديدا غبّ انقلاب شباط الدموي في عام 63 اتسمت بقيم الخيبة واللامبالاة والعبث والبحث عن ملاذات ذاتية بدافع النرجسية والتحلل من قيم المجتمع وكانت يافطتها العريضة (الآخرون هم الجحيم) فتطامنوا مع الانقلاب الذي غيّب كتابا عراقيين كثيرين في السجون والمنافي ومعتقلات التعذيب، كتابا شيوعيين وتقدميين ووطنيين ديمقراطيين الذين بالتأكيد كانت كتاباتهم التي شهدتها سنوات ماقبل الانقلاب وهي ستينية أيضا مغايرة لكتاب مابعد الانقلاب الذين عضدوا الانقلاب الدموي ضمنيا وخير من أدان هذه الفئة من الكتاب الناقد فاضل ثامر نفسه حين قال (ان القاص الستيني لم يعجز عن اختيار جهة الانحياز بل فضل الاستقرار والامان على ان ينحاز الى الجهة المطالب ان ينحاز اليها, آل الى عدم الاصطدام بالسلطات المتعسفة وحلفائها الرجعيين والعملاء, بل شرع يصبّ كتاباته في قوالب لا تهز مواقعهم ولا تمس مصالحهم بل تمر عبرها او تجري الى جانبها في تناغم تام وبذلك ابتعد عن مسؤولياته التاريخية مما يشكل ادانة تاريخية له ـ قصص عراقية معاصرة)، ألست محقا حينما اعلنت على رؤوس الاشهاد وفي احدى المناسبات الثقافية العامة (اذا كان المقصود بجيل الستينيات هؤلاء فلا يشرفني الانتماء الى هذا الجيل) وقد اثار قولي هذا دهشة لدى البعض فالكل يتغنى ويتفاخر بنسبة نفسه الى (الستينات) حقا ام زورا، وكانت هناك ردود افعال متباينة بعضها غاضب، وبعضها مستغرب او مستفهم، لانه خروج على خانات النقد الجاهزة .
لقد قوض زلزال نكسة حزيران عام 67 الارضية الهشة لكل البنى الفوقية في المجتمع العربي وكشف زيف انظمته ومؤسساته فسقطت كل رؤاه الرجعية المعشعشة فيه والليبرالية المصطنعة التي ولدت الافكار السلبية من نرجسية وعبث وانحرافات مختلفة في الفكر والفن مما ادى الى تواري الكتابات التي كانت تعكسها وتدفقت سيول من الكتابات الرافضة للهزيمة والمجسدة لقدرة الجماهير على التخطي والانتصار على اسبابها ومسببيها من ارجاء الوطن العربي قاطبة .
واتسمت كتابات الرد على النكسة الحزيرانية لا بتقدمية رؤيتها حسب بل وبرقي اشكالها الفنية؛ كانت تنضيجا وتصعيدا وتطويرا لأرقى التجارب الفنية في العقود الادبية كافة كانت عودة اصيلة الى الينابيع مع تقدم كبير في وسائل الاداء الفني.
اذن فعقد الستينات في القرن الماضي شهد مخاضات مختلفة وولادات مختلفة واندثارات مختلفة فحين نقول ادب ستيني فأي ادب نعني؟ الذي كتبه الادباء التقدميون قبل الانقلاب الشباطي الاسود في السنوات الثلاث الاولى من الستينيات ام السنوات الاربع التي اعقبته ام السنوات الثلاث الاخيرة منه بعد نكسة حزيران 1967 وكل فترة من هذه الفترات تختلف عن سواها جملة وتفصيلا كما تقدم وما يجمعها فقط كونها ستينية ولكن لا ولن يجمعها المصطلح النقدي المطاطي المايع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجلة "الثقافة الجديدة" العدد 368
أيلول ـ ت1 / 2014