ادب وفن

سابرجيون.. رواية رثاء للأماني الضائعة / جمال العتابي

"سابرجيون"، عنوان لرواية صدرت مؤخراً للكاتب عامر حمزة. الغرابة في العنوان تثير التساؤل والبحث عن معناه.. فضلاً عن طريقة الاعلان عن الرواية في شارع الكتب كانت هي الأخرى تعزز التساؤلات عنها، بعد ان تصدرت احدى الزوايا يافطة كتب عليها "الرواية الأكثر جدلاً".. فتساءلت مع نفسي وقلت: ربما هي طريقة جديدة ابتكرتها دار النشر لتسويق بضاعتها، معتمدة على الغرابة في العنوان، ان قراءة النص ستوفر للقارئ جهداً في معرفة واكتشاف أسرار الرواية واحداثها لذا عمد الكاتب كما يبدو أن لا يمنح القارئ فرصة التعرف على معنى عنوان روايته "سابرجيون" الا بعد حين، اذ سيقوده الى مديات واس?ة وفسيحة. متجولاً وباحثاً في صفحاتها عن مغزى "سابرجيون" والى اية لغة ينتمي؟ وفي اي معجم لغوي نجد مرادفاً له؟ تبدو المهمة ليست سهلة كما يتخيل القارىء، ولا الروائي كذلك على استعداد لتقديم اجابات جاهزة عن عمله الفني أو يسرد الحكاية كاملة.. لذا تظل التساؤلات ملازمة للمتابع بحثاً عن قضية ما تعالجها الرواية.
فبعد قراءة لأكثر من اربعين صفحة من صفحاتها نتعرف على "سابرجيون كخدرين ينوشي باللغة الاثورية ، وتعني جوالاً أروح واجيء لوحدي".
هنا يرفع الروائي الستار عن شخصية "بيبا" الذي يبكي بصوته المؤثر غربته ووحشته ووحدته، ليقدم اغنية سابرجيون كونها من المع اغاني المطرب بيبا، والمفردة بمعنى المسافر أو الجوال أو المتنقل من مكان لأخر لوحده وقد اختار الروائي هذه المفردة لاعتقاده بانسجامها مع موضوع الرواية حسب هامش.
تدور أحداث الرواية في حي الآثوريين، احد أحياء "الدورة" في بغداد، وهو الاقدم في التأسيس، والأول، والأجمل.. لم تكن الدورة سوى انعطافة لنهر دجلة في جزئه الجنوبي من بغداد، يحيل الأرض التي يلف حولها إلى شبه جزيرة.. اختيرت لتكون مستقراً للوافدين الجدد من الحبانية، وكردستان، ومناطق أخرى. من قوميات وأديان وطوائف عديدة.. من العرب والكورد والكلدو- آشوريين والأرمن، وقدمت التشكيلة البشرية.. مثلاً رائعاً في تقاسم الحياة.. والتآخي والتآلف في الحياة العراقية على مدى أكثر من نصف قرن. وانا اعرف ان الروائي عامر حمزة.. عاش ط?ولته وصباه وشبابه وكل سنين عمره في هذا الحي.. فقدم خلاصة تجربته باستهلال لوصف المكان، المولع فيه، العاشق لكل تفاصيله. فجاء جزءاً من نسيج الخطاب الروائي ومفسراً لأبعاده، ورؤى الكاتب للمكان، اختار الشوارع، والمدارس والبنايات، والشبابيك والحدائق، والنهر ليعقد علاقة بينه وبين الاشياء وكان لأغلب الأوصاف دلالة فيه، استذكار صورة الحي ، وجود الصبيان، النساء، العذارى، الفتيان الدور الفسيحة، شارع باريس، شارع العشاق، في الحي مادة فكرية و تسميات مألوفة جداً.
عمد عامر الى تقديم صورة عن المكان لتسليط الضوء على ما هو جميل، فانشغل فيه، واخذ حيزاً واسعاً في روايته: انه يستقصي الامكانات الجمالية للمكان الذي عاش فيه ثم يودع التجربة بكل ما استطاع تذوقه ويسعى الى ان يجلو طابع الاشياء ذاتها والوجود الكامن فيها. ان ثراء الحي بالناس واكتنازه بسحر البيوت المسالمة والتفاف النخيل والأشجار وأوراق الديدونيا والياسمين والآس والشمس والسواقي والثمار، ودورة الاعياد وذهاب ايام النذور المتكررة ومجيئها ، وربيع عطر الأقمشة العزيز، ورائحة الأمسيات الفاتنة وأمل الأمسيات القادمة..
تبدأ اولى خطوط الحكاية مع "فكتور" ذات الوجه المشرق الأبيض الحالمة بالرجل ذي البياض الخارق، وقصة العشق بين رومل وميري.. "البداية" كما يسميها عامر، استرجاعاً لأيام الصبا الأولى. حينما بدأ "سعد الأسود" يقص لأقرانه من الصبيان حكايا تلصلصه على بيوت الجيران، والغرف ذات النور الخافت، كان اولئك الصبيان يتوقون لمعرفة كل شيء في عالم لا يعرفون نهايته، وهو غايتهم لفك اسرار العالم من حولهم ، لكنهم وهو يتفاخرون بما فيهم، ترافقهم المخاوف منذ سماعهم اصوات ازيز الطائرات ومشاهدة "حفلات اعدام الجواسيس". فراح نبض قلوبهم يعنف ?دورهم.
استهل عامر حمزة روايته بحوار جميل بين سعد الاسود واقرانه، حوار جيد التناسق ، يوحي لأول وهلة ان ثمة الكثير مما يمكن ان يمنحه الكاتب . لكن ما ان ينتهي هذا الحوار في الصفحات الاولى من الرواية. فأنه يتوقف نهائياً ولا نجد له اثراً في الرواية حتى نهايتها .فافتقدت الرواية للاسف الشديد الى عنصر مهم في تقنيات السرد وهو مجال حر وخصب للاداء الروائي المكتنز بالتجربة الحية التي تعين على الاختيار الحساس للتفاصيل في غير ما اكتظاظ وفي سياق منسجم فالحوار يمنح الاحداث صورتها المتحركة والديناميكية والبناء الروائي تماسكه وثقل?.
لذا ارتكزت الرواية على سرد الضمير الثالث "هو". ورصد المشهد بحرية كاملة دون منافسة من صوت اخر .. وراح يتأمل في حقيقة الصورة وابعادها لوحده ، بما يسمح بتضمين السياق معنى أو مغزى ، يمكن ان تتكفل به الشخصية الروائية قدر ما يمكن ان يكون من موقف أو "رؤية" الكاتب ذاته.
يصعب تمييز شخصية محورية يمكن ان تأخذ دور البطل.. في الرواية، فهناك عدة شخصيات تتقاسم الأدوار، وان اختلفت في مستويات الأداء والتأثير والفاعلية. فـ "اوسي" المحب من طراز خاص، الذي فقد عقله حين هاجرت حبيبته الاولى ، التي تطابقت صورتها مع "ميري"، و "بيتي" اجمل جميلات الحي، "جوكي" الفنان في أخلاق الانوار الملتهبة ايام الاعياد ، الطيار "بوخانس" باناقته المفرطة، "الاب توما"، "روميل" العاشق المتطلع لإطلالة "ميري" في شمس الشوارع ، وليم الخياط . تظل شخصيات الرواية مفعمة بالحيوية، كما لو أننا عرفناها في الحياة الواقعي?، مقاطع وصفية جميلة. تحضر العديد من الشخصيات الذين يثيرون الاهتمام، منهم من يقفز مباشرة الى دائرة الضوء.
ان "الثيمة" الرئيسية التي ارتكزت عليها الرواية تتلخص بعنوان الاغنية.. لذا تتابع الصور وهي تعكس الهاجس الذي تعيشه اجيال الحي . بدأ بالصبا، ثم الشباب، الذي يؤول الى النضج والكمال، السعي الى الهجرة، والسفر والتجوال كما يبدو انها ولد معهم ورافقهم. البحث عن الحرية، والحياة بعيداً عن القسوة المبكرة والعنف، التي بدأت ملامحها تتضح منذ انقلاب 68 وما تبعه من احداث مريرة ، حروب عذابات، تهجير، سجون:
"اخذت الايام تضرب نفوسنا بعنف قسوتها، فقد واصل بعضنا سير خطاهم في طريق خيارهم الاصعب.." لتبدأ لحظة الانعطاف، التاريخي والسياسي، اولئك الفتية يعيشون مرارات رحيل الاصدقاء بعيداً. الى اماكن لا يعرفونها... فيقفوا مذهولين من صمت البيوت ووحدة الازهار وموت الممرات وذبول الشبابيك.
"محمد" شخصية الراوي مثلاً ، احدث تحولاً في تفكير مجاميع الشباب وسلوكهم لما يتمتع به من قوة احساس متفرد، راح يهديهم كتباً لروائيين عالميين، محمد يخفي صمته وذبوله قصة حب خاسرة.
من هنا تبدأ رحلة الاسئلة عن جدوى الوجود والحرية الضائعة والمستقبل المجهول لدى تلك المجاميع من الصبية � الفتيان � الشباب.
انها مسيرة الموت التي بدأت منذ تلك الخطوات الاولى نحو المجهول الذي قاد الوطن الى المحرقة والخراب..
فتبدأ سلسلة جديدة من الخيبات والانكسارات. ايام رعب وخطف وموت بعد عام 2003، ذبح (ابونا توما)، طوابير الموتى المقتولين بلا ذنب، وطوابير تلحق بهم...
ما بعد حرب 91 وايام الحصار، خيبة المثقف وانكساره، المتمثلة بشخصية محمد بعينيه النرجسيتين، بقهر روحه وذبول ابتسامته، بعزلته. شخصية "محمد" معذبة، قلقة، تفرض عليها حساسيتها المفرطة الوقوف الى جانب عنفوان الشباب وانفعالاتهم.. و"محمد" صدى للواقع الاجتماعي كله، هو بالضرورة صوت الانسان الملتزم المعذب.
تقف رواية "سابرجيون" بين العديد من الروايات التي تتناول مرحلة مهمة من تاريخ العراق المعاصر، بصفحات قليلة تجاوزت المائة والعشرين، ارتفعت فيها الاصوات كلها و تمددت بنغمة موجعة، تتخذ الانين تارة والصراخ تارة أخرى، الروائي المشارك بالاحداث، يجمع بين البساطة والتعقيد بين الفصحى والعامية، هو منهج يستصفي مجموعة انغام في خليط من الأصوات.
لكن خلل السرد عند عامر يتمثل في التكرار الممل للمفردة.. فهو لشدة انفعاله.. يلجأ الى تأكيد المفردات عشرات المرات.. ليحيل نصه الى خطابية وتقريرية على حساب جمال العبارة وتلقائيتها.
فهناك امثلة عديدة لهذه الظاهرة .. المبالغ فيها حد الاسراف.. ففي عملية حسابية بسيطة وجدنا مثلاً ان مفردة "الحياة" تكررت عشرين مرة في صفحات 74، 75. ومفردات "محمد"، "الاغنية"،"بتي" تكررت كذلك بنفس العدد أو أكثر، "اغفاءة"، "ابونا"، لعشرات المرات، وغيرها الكثير.
ان موضوع الرواية يتسع لاحتمالات تقنية وجمالية ابعد مدى في السرد والمعالجة، الا ان عامر حمزة وقع في مطب التكرار الذي لم يكن ضرورة يقتضيها النص، فراح ينقضّ على الاساس الذي بدأ به روايته وهي بداية طيبة. ويبدو لي انه لجأ الى هذا الاسلوب في الضربات المتوالية للمشهد، في الإعادة عمداً او بدونه واحسب ان ليس ثمة حاجة للتأكيد والتكرار والحرص على انسيابية العبارة وخفتها، دون ان يعكر صفو الصورة وحساسيتها.
اعتقد ان الروائي لم يكن بحاجة الى ان يفعل ذلك وهو لديه امكانية تنويع اسلوبه، دون ان يتعب نفسه بهذا الاضطراب. لكنه بهذا التكرار قدم عرضاً لشخصيات تبدو عديمة الحيوية. وحركتهم غير مناسبة فنياً.
استعان عامر بنمط من التكرار في اكثر من موضع للعبارة "اطلت علينا من بين اشتباك اوراق الديدونيا الخضراء واوراق دم العاشق الحمراء...". وحسب رأي احد النقاد الغربيين فان التكرار هنا يسهم كتقنية في خلق ايقاع معين للرواية، من حيث السرعة أو البطء لذلك لا يمكن ان نعد التكرار مجرد تقنية شكلية، أنما بنية وظفها الراوي لانتاج دلالة في العمل الروائي..
ووفق هذا الرأي فأن ما اشرنا اليه من خلل في تكرار الأسماء، لا يقع ضمن هذا التعريف.
فالحوار وسيلة سرد اساسية تعبر عن أفكار الشخصيات ورؤاها المختلفة. كاشفة عن وعي الشخصية وأعماقها. وتسهم في بناء ورسم الأحداث ونموها.. وهو ما يطلق عليه غائب طعمة فرحان بإنارة اللحظة التاريخية والحياتية التي يضطلع بها العمل الروائي"
تعاملت الرواية مع الحقائق مباشرة وكانت صادقة مع نفسها، وعامر حمزة حشد جمعاً من الناس يعرفهم جيداً في حي من احياء بغداد، وكل هذا الحشد من الفتيان والشباب والرجال والنساء يمثلون العالم الذي ينتمون اليه تمثيلاً قوياً. الرواية ليست حكاية واحد منهم، بل أنهم اتحدوا جميعاً من اجل رغبات وأحلام وأماني، بحياة لينة أليفة. وقد وظف المكان "الحي الاثوري" معادلاً لحرية أبنائه في ممارسة طقوسهم واختيار اسلوب حياتهم، ان الزمن المشبع بالأحداث المتصلة بعضها ببعض، يقود هذا الحشد الى نهايات غير سارة في خاتمة الرواية. الخياط رحل?وحيداً في غرفة من اثر خيبته الكبيرة في العثور على احد، سعد الاسود المقتول في الحرب، الاب توما المقتول ذبحاً، كاكا سردار المقتول في المزابل، "اوسي" الذي فرّ من جديد، الفرح، يغادر الحي، يخيم الظلام على أبوابه، والصمت على شبابيكه، فتيان وفتيات غادروا واختاروا المهجر. سوى
"محمد" الذي يخرج من عزلته ووحدته متذكراً كل شيء يجوب شوارع الحي، يغني أغنية حياته الاولى والاخيرة جوالاً أروح وأجيء لوحدي.
ان جوهر التناول الغني عند عامر تلخصه هذه الأغنية لجيل، يرقص، يردد الأغاني الأجنبية .تذوق طعم الدفء الأنثوي الخالد، دخل الحياة من بابها الحالمة ليمضي في الممرات اللانهائية الأخاذة..فجأة يفقد الأحبة والأعزاء، يعيش الم الغربة والفراق، عوّد سمعه لأغنيات جديدة.. للحروب والمعارك التي لا تنتهي، وسيارة "اللادا" التي ظلت تجوب الشوارع بالعرسان، بدأت تجوب الشوارع بالقتلى المتدثرين بعلم الموت الأحمر والأسود والأبيض.
لقد أدرك عامر تغير الواقع، و"سابرجيون" رواية لا تكتفي بواقع حي من احياء الدورة بل هي رواية لواقع العراق، إذ يغترب الإنسان وينفصل عن تاريخه، وحياته وذاته ليدفع ثمناً غالياً من جراء ذلك.
ان الروائي يقدم صورة لهذا التدهور الذي اصاب الحياة الاجتماعية والسياسية في فترة ما بعد السبعينيات من تاريخ العراق. والرواية تلخيص لزمن ضاج بالإحداث.. ترتقي في بعض مقاطعها الى مستوى لغة الشعر، ولرثاء الأماني الضائعة في الريح.
ختاماً اقول ان عامر حمزة ما يزال امامه متسع من الوقت لكي يطور منهجه الفني واننا على ثقة من انه جدير بما يملكه من موهبة ومن دراية ومعرفة، قادر على ان يقدم رواية جديدة ذات ملامح فنية مكتملة.