ادب وفن

متواليات الجوع والخراب في بلد النهرين / علي ابو عراق

بعد أن أمحلت الأرض ومات الزرع وشف الضرع وسكتت أغاني الحصاد.... وخيمت غيوم الضنك والكدر والعوز على العراق من شماله إلى الجنوب وهو موطن الخير والأنهار وجنان الماء ، وفيها النهرين الخالدين والأنهار الصغيرة الكثيرة التي لا تعد والأرض الشاسعة المتفجرة الخصوبة...ولكن وفي غفلة من الزمن تجتمع الظروف المدمرة وتتعاضد عوامل الموت والخراب من القحط والفيضانات والزلازل فتحدث المجاعات التي تفتح الأفق على ما تشاء وتشتهي الفواجع وهي كثيرة بل هي تكاد أن تكون متواليات لا تنقطع.. بسبب جشع وإهمال الحكومات وتحكم الإقطاع والطبقات المهيمنة.. فضلا عن عوا?ل أخرى فيذهب ضحيتها الآلاف من الناس وخصوصا الفقراء منهم... ويكونوا طعما سهلا للإمراض والأوبئة التي تفتك بالجميع طبعا بعد أن يغرز الجوع أنيابه... وظهرت المجاعات في وسط وجنوب العراق والبعض الآخر كانت أكثر انتشارا وأوسع فتكا فشملت الدول المحيطة بالعراق. ولقد تعرض سكان وسط العراق أيضا إلى المجاعات و الطاعون على الرغم من خصوبة أراضيه ووفرة أنهاره وتنوع تضاريسه، ومن الصعب إحصاء هذه المجاعات وما يتبعها من ويلات لكثرتها وما تخلفه من آثار تنعكس على حياة الناس اليومية ومن جميع المناحي...حتى ظلوا يؤرخون مواليدهم وموا?هم وأحداثهم الكبرى وأماكنهم بهذه المجاعات والأمراض مثل (سنة ام مصران) التي راح الناس فيها يتنافسون بل يتعاركون على مصارين الذبيحة التي يذبحها الأغنياء ويتعارك على مصاريفها وفضل لحمها الفقراء وسنة (الخسباك) التي يقع فيها الناس وهم واقفون ويموتون هكذا.. وهذه المفردة لم تزل موجودة في الجنوب على وجه خاص والبصرة على وجه التحديد إذ حينما يتعرض شخص ما إلى نوع من التعب او المرض أو الخسارة المادية... يقول حينما يسأله احدهم (تخسبكت)، و(نهيمة ) اي من يصاب بالنهم إذ لا يشبع من طعام، وسنة (ام زوعة) التي يموت او يتداعي ?يها الإنسان بعد ان يتقيأ وسنة الفيضان او الغركة وهي السنة التي تعرضت فيها بغداد ومحافظات أخرى للغرق ، وسنة (فرهود اليهود) وهي السنة التي حرضت جهات مرتبطة بالصهيونية على سرقة كل ما يملكه اليهود العراقيين من مال ومتاع بعد انفجار قنبلة اتهموا بتفجيرها وهجروا إلى محافظات عراقية أخرى... وجاءت من بعدها الهجرات الأخرى التي قذفت بهم خارج الوطن قسرا وتعسفا وعدوانا ليعيشوا الشتات الأكبر،.... كما سميت ساحة (ام البروم) التي تقع وسط البصرة إثر مجاعة اجتاحت البصرة وفتكت بساكنيها.. فقام بعض موسريها ذو الحس الإنساني والأخ?اقي بطبخ الطعام في برم أي قدور كبيرة لذا سميت (ام البروم )..ولم يزل هذا الاسم حيا حتى الآن ويعرفه كل عراقي تقريبا،....كل هذه الظروف تركت جروحها الغائرة العميقة من البؤس والعذاب في ذاكرة التاريخ العراقي...ولكن بعضها تجاوز هذا المستوى من حيثيات البؤس والبشاعة والخراب.. وأنتقل إلى مستوى الخرافة والرعب واللامعقول.. ففي أثناء إحدى المجاعات التي حدثت في الموصل سنة 1917...كانت هناك حادثة عجيبة شاع خبرها في كل مكان وظل الناس يتحدثون عنها زمنا طويلا, وهي أن رجلاً من أهل الموصل اسمه عبود كان يصطاد الأطفال بالتعاون م? زوجته, او يشتريهم, فيذبحهم ويصنع من لحومهم طعاماً يسمى ((قلية)) ويبيعه للناس في دكان له. واستمر على ذلك بضعة اشهر الى أن انكشف أمره أخيرا عن طريق الصدفة. ولما ذهب رجال الشرطة إلى بيته وجدوا في حفرة فيها مائة جمجمة وعظاماً كثيرة.وقد سيق عبود وزوجته الى المحكمة, وهناك انهارت الزوجة واعترفت أمام الحاكم بما اقترفت هي وزوجها من الفظائع... وقالت في اعترافاتها أمام الحاكم..."جعنا واحتملنا الجوع إلى حد لا يطاق, فاتفقنا اخيراً على أكل الهررة, وهكذا كان, وبقينا نصطادها ونأكلها إلى ان نفدت من محلتنا, فبدأنا نأكل الك?اب ونفدت ايضاً وكان لحمها أطيب وأشهى من لحم الهررة, فجربنا أكل لحوم البشر"....الخ
وكما يقولون ان الجوع كافر...لكن هذا لا يبرر مثل هذه الفعلة الشنيعة....
تحت هذه الظروف أو مثلها..... خرج فلاح جنوبي وهو يحمل في قلبه وصية شفوية من رئيس عشيرته شيخ العشيرة الكبيرة التي كانت أراضيها تعادل أمارة لا يحدها النظر وقطيع من الخراف والبقر يسد عين الشمس كما يقولون يرعونه عشرة من الرعاة النشطين... ومضيف لا يخلو من الضيوف ليلا ونهارا... وقمقم بعلو قامة رجل يتوسط عشرات (الدلال) مختلفة الأحجام الذهبية اللون التي ترسل لونها الذهبي مع تلظي جمرات الموقد الذي يجلب نظرات الضيوف بعد انتشار عبق القهوة المثقلة بالهيل... وبعد سنين كانت بمثابة مواسم للوفرة والازدهار... وبعد أن كانوا ?مدون المدن المجاورة بالحنطة والشعير والدخن واللحوم والأسماك وكل الخيرات التي تجود بها أرضهم الطيبة الشاسعة.. سحقتهم مجاعة أفقرتهم تماما و وقع هو وعشيرته فريسة للمرض والجوع.. بعد إحدى هذه الصولات المدمرة السوداء للقحط... فقد كل شيء... أرضه وضرعه وباع حتى أفرشة مضيفه الواسع الذي كان موئلا للطالبين والمحتاجين والرؤساء والعابرين... وكان ينبض بحرارة الضيوف وإنشاد الشعراء والسمر الجميل وأبناء العشيرة،... لم يعد مبتهجا لاستقبال الضيوف أو أطعام العابرين وغادرته كل بشائر البهجة.. ووصل الأمر بالشيخ إلى درجة العجز عن?التصرف والتفكير... ولكنه وبعد أن اشتبكت عليه الأمور..تذكر صديقه الشيخ الكبير من شيوخ الفرات الأوسط ذو السمعة العالية والكرم الذي يضرب به المثل والجود الذي لا يخفى على احد... حمل احد أبناء عشيرته المقربين رسالة شفوية.. فليس ثمة مخرج لكل هذا العوز والضنك.. خرج هذا لا يلوي على شيء.. خطواته تتسع بنشاط وحيوية على الرغم من أن حزنا من طراز جديد يسربله من رأسه حتى قدميه إذ بعد أن تناول قليلا مما تبقى من فتاة رغيف اسود كان قد تقاسمه البارحة مع زوجته... استيقظ ببطن خاوية منذ الصباح الباكر... خرج يمشي مشيا كالركض متج?ا إلى جهة الغربية وشمس الصباح التي تسلقت الافق تغمره بالأشعة والدفء تدفعه دفعا...فقد فتك الجوع بعائلته وعشيرته وشيخه.. وربما في هذه الرسالة الشفوية ما يخفف من وطأة هذه الكارثة..... كانت رسالته محددة.... هو أن يقرا بيت (ابو ذيه) على مسامع الشيخ الكبير...وينتظر ردت فعله.. ويقفل راجعا دون ان يقول أي شيء آخر..... ووصل إلى مرابع الشيخ ألفراتي الزاهية ومضيفه الواسع جدا.. وكان القوم قد باشروا بصلاة المغرب فانخرط معهم في الصلاة بعد أن اغتسل من وعثاء السفر وتوضأ..وصلى بروح منكسرة وهو يتذكر أهله وعشيرته والكوارث الت? تقطع أوصالهم مقارنة بالعوز الخفيف الذي لم ينهك هؤلاء القوم.. وكان العشاء الفاخر الذي نقل إلى الضيوف دليلا على أن الجوع لم يعض هذه العشيرة بقوة... فصواني الرز الكبيرة الطافحة بلحم الضان والدهن الحر. تشي ببقايا الرفاه الذي لم يزل يحل في بيوت هؤلاء و(ديرتهم)... شعر بالأسى على أهله وعشيرته وبشيء من الحسد على ما تتمتع به هذه العشيرة..وتناول عشائه الفخم الذي لم يتناول مثله منذ أشهر..وصورة عائلته التي لا تجد الخبز (الكفار) لم تفارق ذهنه... لكن الجوع وروائح الطعام الزكية أنسته ولو لفترة قليلة معاناة أهله فاقبل عل? الطعام وتذكر المثل الذي يقول (عند البطون تعمى العيون).... وبعد العشاء وتناول القهوة وانفضاض الكثير من الضيوف والسمار والعابرين... سأله الشيخ الفراتي عن ابن عمه وأحوالهم وهل ان ربوعهم عامرة وأيامهم زاهرة.... فأطرق إلى الأرض ولم يقل شيئا لفترة حسبها الجالسون طويلة جدا وهم يرمقونة بنظرات الاستغراب... لكنه أخيرا نطق وهو يغالب حيائه وقال بصوت جهوري حزين
لفت سنة الصعيبه وسنة خله
وخاف أعله الاجواد أتصير خله
عضني السبع محد كال خله
أخذ وجه النزول وكطع بيه
فهم الفراتي أن صديقه قد عضه الجوع والفقر الذي شبهه بالأسد وانه يمر بأصعب سنواته إذ بعد كل ذاك العز والرفاه والوفرة اصبح خالي الوفاض هو وقومه...
فأوعز لرجاله ان يحملوا جمالهم بكل ما يستطيعون وبكل ما يوجبه الجود والكرم من حنطة ورز وحبوب ودهن وسوق قطيعا كبيرا من غنمه ودوابه لإجارة هذا الرجل الكريم الذي أذله العوز وسحقته الفاقة هو وقومه وحمل الرجل هو الآخر رسالة شفوية إلى ابن عمه وشيخه.
الفحل لو طالن كرونه يردمن
كريم ودهن صينتك يرد من
أريد البيض يم راسك يردمن
ويكولن هذا ابو جفوف السخيه
وملخص قوله (انأ افهم ان الجوع والعوز كفحل الدواب (الجاموس) يستشرس بقرونه الطويلة القوية ويذل الكرام الذين كانت أواني طعامهم طافحة بالطعام الفاخر المشبع بالدهن الحر والذي يرجع لوفرته في الصواني بزنة (المن).... أنا اعرف انك كريم والزمن جار عليك وما أبغيه تبقى بوارف عزك وعالي مقامك..وأن البنادق حينما ترحل عن هذا العالم ستلعلع طلقاتها اعترافا بكرمك)
رجع صاحبنا يسبق القافلة التي حملها الفراتي بكل ما اتسع من جوده وكرمه.