ادب وفن

كامل حسين.. لوحة تضج بالأسئلة / ياسين النصير

على مُشاهد هذه اللوحات أن يُعيد تركيب كتلها وألوانها وفق بنية هارمونية بصرية، فاللوحة دون هذا التركيب تفلت من الرؤية، ولا تعطيك إلا إنطباعا أوليا من أن عالم الألوان الصاخب والضاج بالحركة، هو عالم كامل حسين الرومانسي، كما يبدو من النظرة المباشرة للوحته، في حين أن ما تحت الرؤية الانطباعية ثمة بنية مأساوية تتغلغل في تكويناتها.
تعبّر لوحة كامل عن تلاحم وتداخل بين أفكار قد تتمثل بتشخيصيات ما، إذا ما نظر إليها عن بعد، وقد تكون مجموعة من الأفكار والمشاعر والرؤى العشوائية وقد تجمعت في فضائية اللوحة، كما لو كانت سديميات صغيرة تبحث عن تكوين بدت للرؤية أنها عبارة عن أقدام مقطوعة غير راسية على ألأرض، هذا ما يمكننا أن نتلقاه مباشرة عن وضعية كتل وألوان اللوحة، لكن الرؤية الأعمق للوحاته تعطيك تصورا ليس من موضوع يتشكّل في هذه الحياة، كل المواضيع هي اللاموضوع، وقد قذفت مادته الخام لعالمنا عفويا كجزء من إدوامة القلق، وها هي كتله تتجمع على سطح الحياة الاجتماعية لتؤلف خطابا ما، وقد يكون - وهو كذلك - أن هذا الخطاب هو مجرد تلميحات عن قلق يحيط بنا، حيث يصبح صخبها البصري إشارة حادة على عدم الاستقرار، ويكشف تداخل كتله وألوانه عن عالم سديمي غامض، مبهم، قد يكون إشارة لعالمنا اليومي الذي نملأه بالمشكلات والآراء غير المكتملة.
ثمة رؤية أعمق من هاتين الرؤيتين، الانطباعية والتراجيدية، تلمحها في التشكيلات التي لا تظهر للعيان، في تلك البقع المتشكلة خلف البقع والكتل والألوان الظاهرة، ولكن تكشفها الظاهرة الإجتماعية التي تؤلف سياقا معرفيا لفهم النصوص الفنية الغائبة بقصدية، إن تأسيس رسالة ما، يتطلب مستويين من الظواهر، مستوى معلناً وغالبا ما يكون غامضا ومشوشا وسطحيا، ومستوى غائراً مختفياً وغامضاً تؤشر عليه بعض تشكيلات لونية مبهمة وغير محسومة، ونجد مثل هذه الظاهرة لخطاب الفنية أولا في النقاط المختفية في اعماق اللوحة حيث انطلقت منها أوليات الخلق بشحناتها المبهمة، هذه النقاط تعكس تكوينات أولية تشكل طين اللوحة ومادتها الخام، وثانيا ليس من حوار بين تلك الكتل والألوان الأولية، قذفت للعالم دون حوار أو خطاب إلا خطاب مادتها.
إن ما يجري هو أن الكتل الأولية تغير حجمها وحركتها، مشكلة نغمات تعبر بها عن صخب واضطراب الواقع. وحين بنى الفنان على تلك النقاط التأسيسية شيئا ما، وعرضه لهواء الواقع، تبعثرت وتشظت قيمها وتكويناتها، وها هي النقاط الأولية تعيش في عالمها الافتراضي غير الواقعي، لا تؤلف فيه اي سياق غير سياقها التكويني القديم،وكأن الماضي بثقافته ونصوصه مايزال مهيمنا على خطاب اللوحة المعاصر. ونلمح أيضا فوق مستوى الكتل اللامستقرة وهي كثيرة، ان ثمة خطوطاً توصل فيما بينها، ملئت هذه الخطوط بالألوان الحارة، لتشكل فضاء هندسيا ومعماريا قد يعزل بين كتلة وأخرى بياض مضمخ بأرضية كابية، أو أفكار لا تعرف الحوار. لتشكل هي الأخرى مساحة جرت عليها عجلات الزمن الموضوعي المغاير لزمن تشكيلاتها الأولية، هذه البنية المعمارية التي نشاهدها متداخلة تارة، ومعزولة الكتل تارة أخرى، هي بنية نحتية ذات سطح وملمس خشن، وواحدة من الثيمات التي تؤسس للأعمدة، او للقوام أي الأنا التي لا تحاور ،كما لو كانت نواياتها الأولى بنى اسطورية تتحكم بالحاضر، فالبنية المعمارية الهندسية جزء من عقلنة اللوحة الحديثة وتحديها للواقع المضطرب محاولة منها لتشييده وفق خطاب فني معاصر،لتجعل رؤيتنا كما لو أنها تقاوم التفتت والاستلاب، ولا تريد مغادرة مدارسها وتياراتها القديمة، وما تموضعها في حياتنا المعاصرة إلا تعبيرا عن تشكيلات اجتماعية مضطربة وعن قيم وكيانات لا تشكل خطابا عقلانيا، فالخطوط والاعمدة والمجال والمساحة والموضعة، هي بنى في لوحات كامل حسين غير مستقرة، مما يعني ان ألفنان يوطن ألوانه وكتله ونقاطه وخطوطه، قلقه الاجتماعي.
لاشك أن الفنان وهو يقدم هذه التشكيلة الملتبسة التي تغيِّب قدرات الرؤية العادية عن قصد، يطلب من المشاهد أن يتثقف بالوقائع اليومية للحياة العراقية أولا، وأن يبحث فيها عن ما يشدُّ أو يفرق بعضها البعض، من أجل تشييد لحمة كتلية دون أن يتغطى اضطرابها وعنفها بالالون المبهرجة واللغة اليومية. إن تواصل الانقطاعات في بنية اللوحة لا يعني ان الفنان يؤسس لكتلة متجانسة، بقدر ما يعطي انطباعا بالتشظي والتفتت ، فليس من لغة او لهجة يمكنها أن تجمع كل هذه التناقضات اللونية والمبعثرة الكتلية والخطوط المتقطعة والنقاط السديمية المبهمة،في ثيمة مستقرة، إننا لم نلمس اي سياق مفاهيمي يساعد المشاهد على تلمس طريقة لفهم ما يجري، إنما كل ما يحدث هو تصادم الخطوط والكتل والنقاط خالقا منها ألوانا حارة تنسجم وطبيعة المشاعر العنيفة المغطاة برومانسية خارجية، والمتدفقة الاصوات العالية التي نسمعها في الشارع، والمشحونة بالانقطاعات التي تمنع الاتصال بين عوالم كامل فؤاد السديمية، وكأن الدخان الخارج من أعماقنا إلى سطح الحياة اليومية يمكنه أن يصنع وهما لعالم الجمال المختفي وراء السنتنا وحالاتنا، كل شيء - وكما يبدو - يعيش قلق اللحظة، ولا تغرنك الألوان المبهجة التي اسماها موسيقى اللون، فالموضوع الخفي هو مجموعة غير متجانسة من مأتم الألوان وها هي تغادرنا إلى سديمية اللوحة كما لو كانت تشيّع رومانسيتها الريفية في صخب مدينة مفترضة، فوهج مشكلات الواقع الإنساني الغامض،- نموذجه الواقع العراقي والعربي- تدفع أبصارنا لخارج محيطنا ، محاولة منه أن يخفي بالبهرجة البصرية عالما من التناقضات التي لم يستطع الفنان إلا أن يغمرها بالاضواء، في حين أن ما تحتها يضج بحركة مجهولة، ولذلك لا تشكل هذه اللوحات أية موضوعات مفاهيمية يمكن أن يحيلها المشاهد إلى قضية واضحة ومكتملة، بقدر ما عمد الفنان إلى بث التساؤل القلق.
في الجانب الآخر من اللوحة تقرأ ليس الوضع النفسي للفنان، ولا الوضع الاجتماعي الذي مهما غربت اللوحة ألوانها وخطوطها عالم الواقع ، إنما الماساة التي تبقى قائمة فينا، فالرسم العراقي وقد تبددت طرائقه الاكاديمية السابقة في مجالات تجريدية جديدة ومعقدة أصبح هو القضية الاجتماعية قبل أن تكون لوحاته تجريدات تشكيلية لا تفصح عن مفاهيمية مباشرة. لوحة كامل حسين قراء في أسئلة بعضها مجرد اسئلة، والبعض الأخر لم يجد اجاباتها بعد. لذلك كرر الكثير من ثيماته فبدت تشكلات لوحاته تشكيلات لعالمنا المبهم.