ادب وفن

ابا زيد وداعاً / أ. د. علي عذير / ليبيا

أبا زيد رحلتَ وكان في الليل متّسعٌ وفي العمر بقيةٌ رحلتَ بآلامك صامتاً بعيداً عن وطنك الذي أحببته حدّ الثمالة حين امتزجت دموعك وآلامك معاً , نعم ترجع بي الذاكرة أكثر من ثلاثين سنةً حيث كنت تلميذاً لك في نهاية السبعينيات في كلية التربية جامعة بغداد استمع إلى النقد الحديث وأنت تدرّسه بطريقة النقّاد المحترفين في زمن كان لا يليق بك حيث كان البعثيون يحاصرونك فيما تكتب يريدون منك خلع مبادئك الجميلة ولبس خرافاتهم القذرة لكنّك كنتَ أبيّاً تراوح بين الجامعة وجريدة الجمهورية تُلهم طلابك العلم ممزوجاً بالوفاء تغضب بع? الأحيان لكنك تكتم ذلك الغضب وأنت محاط بحرّاس يحرسون تلك الفئة الصدّامية الباغية وهكذا تتألّم بصمت وبطء شديدين وكان منّّا من يحسّ بآلامك . نعم سيدي ظُلمتَ كثيراً ولكنّك كنتَ إنساناً قبل أن تكون مبدعاً وناقداً من طراز رفيع . كنتَ تحسّ بآلام الفقراء المعذّبين وتنشد لهم السعادة والفراش الوثير والسعادة في وطن حرّ . كنتَ جريئاً في آرائك غير مبالِ الأمر الذي أزعجهم فخافوك وأبعدوك موظفاً في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية أربع سنوات أرادوا أن يُخضعوك لما يريدون وبعد أن يئسوا عدتَ إلى الجامعة من جديد حينها كنت أنا ?نهيت دراستي الماجستير عام 1987 م ورأيتك من جديد وعانقتك وطال عناقي ممزوجاً بدموع كنت لا أميّّز منها ما هو للفرح والحزن . وكم لرأيتك فرِحاً بي وأنت تراني أريد الالتحاق بطلبة الدكتوراه ثمّ حصل الفراق بيننا حيث رُميتُ أنا في السجن ومن بين تلك القضبان اللعينة كنت أسأل عنك وكان الركبان ينقلون لي سؤالك عني وسلامك عليّ وفي نهاية التسعينيات كان لقائي بك جميلاً حينما قابلتك من جديد تحت ضوء الشمس وكثرت لقاءاتنا فيما بعد كنت أسبوعياً آتي من النجف حيث كنت أعمل أستاذاً في جامعة الكوفة لالتقيك تلميذاً وفياً وصديقاً مخلص?ً نشرب الشاي ونضحك كثيراً ثم نفترق وهكذا . ولم أنس يوم نصحتَ لي من بعض الناس وقلت لي يا عليّ أخاف عليك من فلان وفلان لأنّهم بعثيون ليس لهم وفاء خذ حذرك فالدولة تراقبك وفعلاً حصل ما قلتَ حيث اعتقلوني وأودعوني الظلمات من جديد ثم حدث الفراق الأخير بيننا إذ سافرت أنا بعد عزلي من جامعة الكوفة متأبّطاً آلامي وجروحي رحلتُ من دون وداع لأي أحد خائفاً أترقّب ولم أرك بعد ذلك سوى اقتناص الأخبار عنك وفرحت جداً حينما أعلموني أنّك ترأست جامعة البصرة فرحتُ كثيراً وقلت مع نفسي الآن عاد الحقّ إلى نصابه . ومضت السنون بنّا وأ?ا أردّد مقولتك الخالدة على طلابي في الدراسات العليا في الجامعات الليبية عن الشاعر الكبير الجواهري رحمه الله (شاعرٌ عباسيّ أخطأه الزمن ) . نعم فوجئت وأنا أفتح الفيس بوك بعد انقطاع طويل بسبب مرضي وأجد مقالة الأخ الوفيّ جداً الشاعر المبدع هادي الحسيني وهو يكتب عن رحيلك لم أصدّق ثم قرأت تأبيناً لأخي وصديقي الأستاذ الدكتور عليّ جاسم سلمان من الجامعة المستنصرية. وهكذا رحلتَ أبا زيد بعد رحلة طويلة مع مناهج النقد القديمة والحديثة أفدتَ طلاب العلم في العراق والأردن واليمن رائداً من روّاد النقد الأدبي وأستاذاَ جليلا? ومربياً قديراً صادقاً لا تعرف المداهنة وحنيناً لا تعرف البغض .
 رحلتَ بآلامك بعيداً عن نخيل البصرة الفيحاء وليالي دجلة الجميلة تصارع الألم وتجود بنفسك وحيداً لكنّك لم تمُت سيدي وهاهم أبناؤك يرثونك بدموعهم قبل كلماتهم وستبقى حيّاً في ذاكرة الزمن يترنّم بذكرك الشرفاء كلّما تذاكروا النقد فيما بينهم , ومناضلاً حافظ على مبادئه وكأني بك على قول أبي تمّام :
فتىً كلّما فاضت عيونُ قبيلةِ دماً ضحكتْ عنه الأحاديث والذكرُ . ..