ادب وفن

المكان.. التأثيرات والتنوع / جاسم عاصي

يعمل كتاب "يوميات فندق ابن الهيثم" لجواد الحطاب على مستويين من الأمكنة. الأول: مكان الحرب والثاني: مكان المدينة المجاورة لساحة القتال، بمرافقه المتعددة ومنها بيت العائلة. لذا نجده يشتغل على نمطين من توصيف المكان، هما مكان طارد ، وآخر جاذب.
فساحة الحرب بما تحمله من صور الموت ، لكنها لدى الراوي تتأرجح بين مستويين من الأحاسيس ، وهي إدراكه وشجبه لأسلوب الحرب في فض النزاع ، فهي وسيلة مدمرة ، لأنها لا تخلّف سوى المأساة والدمار . بينما تكون أيضا ً حالة من الدفاع عن الوطن ، تأخذ الراوي قيم الشهامة والعزة المتركزة في الوطنية .
أما مكان المدينة ، فهو حامل لكل العلاقات الإنسانية المتجسّدة في صور الأصدقاء ، وصور الأمكنة الجزئية كالمقاهي ، باعتبارها جامعة للألفة . ثم بين الأسرة ، وصورة الأم والحبيبة . يضاف إلى ذلك صورة المكتب الإعلامي الذي يعمل فيه الراوي مراسلا حربيا.
أما "فندق ابن الهيثم" فهو الحاضنة المتمثل فيها التدوين ، بالرغم من أنه لا يكون له حضور دائم في النص ، إلا أنه علامة مهمة تكمن فيه خلاصة رحلة الراوي مقاتلا ً وساردا ً.
ولعل عبارات القاص محمد خضير، من خلال قصته "الحكماء الثلاثة" التي نشرها في جريدة القادسية آنذاك ، وقد أهداها إلى جواد الحطاب تُلّخص أيضا ً أهمية المكان من جانب التوثيق ، باعتباره المكان الذي تنفتح داخله سريرة الشاعر ــ المقاتل والمراسل ــ وتعمل على توثيق فعل الشاعر كما هو وارد في القصة من جولات حكماء سومر في مدينة تنتهكها الحرب. لذا نرى أن القاص وازن وساوى بين فعليّ الحطاب والحكماء . ما يهم في نظره هنا هو التوثيق. ونرى نحن أن للحطاب رؤاه وموقفه المنعكس في ما كتب في يومياته المثيرة ،والملغومة بالشعر كما سنرى . وعبارة خضير مهمة وهي القائلة :
" .... قال ذلك هنا ...
قصائد .. ويوميّات .. وحكايات ..
يا أصدقاء .. إنها مفكرة عجيبة .. دوّن فيها الشاعر الشاب
عناوين أصدقائه .. وأسماء كُتب قرأها .. وأرقام هواتف ..
وحساباً لم يُسدّد .. ومواعيد إجازته .. مفكرة غريبة ..
في الليالي الباردة التالية .. حبست نفسي في غرفة الفندق ..
وانكببت دون انقطاع على جمع أشلاء المفكرة .. وترتيب الأحداث ..
والأسماء الواردة فيها".
هذه الشهادة النصية، لا نذكرها تفويضا ً لوضع نص الكتاب ضمن دائرة المستساغ والمقبول والمبرر، بقدر ما نؤكد على حق الذي يخوض التجربة وتدوين حيثياتها ، من دون النظر إلى كل الإشكاليات التي لا تشكّل أمام الإبداع أي شيء من المعاني. فالنص الإبداعي، حاضنة تحتفظ بحقها التاريخي والنفسي والاجتماعي والسياسي الذي تأخذ بملَكة المبدع إلى الحقيقة النصية . وأرى أن جواد الحطاب، مثلا ً قد دخل الحرب شاعرا ً . هذه الصفة الرفيعة قادته إلى تجسيد ما لم يستطع غيره تجسيده . بالرغم من أننا نؤمن بالتنوع في الرؤى ، وصدق المشاعر ، وهي الدوافع الخفية التي تقود المبدع نحو تحقيق رؤاه وانطباعاته في ما يرى ويعيش .
إن كتاب "يوميات فندق ابن الهيثم" كتاب مكان. نص متنوع كُتب عن المكان . دفاعات نصية عن حرمة المكان ، ودرء محاولات تشويهه ودفعه باتجاه الاندثار والمحو . تختلف الآراء والرؤى . وهذا حق طبيعي في تاريخ البشرية ، لكن من غير المستساغ أن تتعدى تلك الرؤى والآراء على مثيلاتها في الحراك الإيديولوجي . فلكل صياناته ودفاعاته . وأرى أن ما حدث ضمن أحداث اليوميات ، ليس إلا تسجيل أسلوب الدفاع عن الأرض والوطن ، والقيّم العراقية والتاريخ والحضارة. هذه الهواجس ، خربتها السياسة، والسياسة العدوانية ، ولم تتطاول عليها إرادة "الشاعر ــ الصحفي ــ المقاتل" من خلال يومياته . من هذا نرى أن الكتاب شهادة تتضمن معلومات ، تُرقى إلى الوثيقة في أشد مستويات رفعتها .
ذكرنا أن الكتاب يتأرجح بين مستويات عديدة ، لعل أهمها :
ــ كونه وثيقة تاريخية .
ــ كونه كتاب يحمل رؤى ذاتية حول ما كان يجري .
ــ إنه يحمل رؤى موضوعية ، لما كان يتوسل به من أحداث اجبارية يوميا ً ، سواء كانت في ساحة الحرب أو في مرافق المدن كبغداد والبصرة ، وحصرا ً في الشوارع والمقاهي .
ــ إنه ذو محمولات مكثفة ومتنوعة ومتداخلة من رؤى شعرية ، لأن كاتبها شاعر.
ــ إنه كتاب يحمل فيوض الآخرين ممن كان معه في الجبهة أو في المدن وحصرا ً في الفندق المذكور . أي في مشاركاتهم من مثل ( "محمد شاكر السبع ، محمد مزيّد" من كل هذا نتوصل إلى أن ما يقرّب الكتاب من نص المكان، ليس بما يذكره من الأمكنة فحسب ، وإنما من الصيرورة التي دفعتنا إلى قراءة هذه النصوص المكانية، وهي زاوية التجاوب والتخاطر بين الذاتي والموضوعي. بمعنى كيف نكتشف الذاتي في الموضوعي وبالعكس . وهذا يقودنا بطبيعة الحال إلى العلاقة مع المكان ، حتى من دون ذكره مباشرة في سياق مجريات النص . إذاً نحن نرى أن المرايا التي يحملها المدوّن في تجواله ، وهي اللغة الشاعرية الرصينة ، هي التي تدفعنا نحو ما تعكسه على وجه المرآة ، مدققين في خصائصها ، مكتشفين أسرارها الممكنة ، والتي تقود إلى الحفر في الرؤى لمعرفة طبيعة المكان . إذا ً يترك المكان في الذات متعلقات متنوعة ، حال متابعتها بدقة ، تجعل المتابع يقف على الدقائق الدافعة ، وهي خفية بلا شك . وأرى أنها هي التي تعكس العلاقة الشعرية بالمكان . وهي التي تؤكد أيضا ً تنوع صوره وحيثياته ، في جمالياته ودفئه وحميميته من دون ذكر اسمه . فلوجوده أثر وتأثير . وهذا ما سار عليه كتاب اليوميات هذا ، حيث نجده يقلّب ذاته وموقفه وأحاسيسه بين مكوّنات مختلفة ، طاردة منها الخوف ، ومبقية أحيانا ً على الشجاعة . لكنها بالمحصلة النهائية ، استدراج للجوّاني الذي تكشفه اللغة بثرائها وتنوع مستويات أدائها .
عتبات ودلالات
عتبات الكتاب ، تشتغل على بنية تؤكد الأساس الذي بنيت عليه اليوميات ، في كوّنها تصوّرات ورؤى أنتجها المكان المهدد بالمحو والمصادرة من لدن الحرب. لذا كانت الدفاعات التي اتخذت من اللغة سبيلا ً لكشف ما هو خارج الصورة ، من مشاهدات ، ومن داخلها أيضاً ، ضمن الأحاسيس الإنسانية التي يمتلكها المدافع عن أرضه ، شاعرا ً ومراسلا ً صحفيا ً . ذلك لأنها لغة أسفرت عن بنية المكان ولم تغادره . فعنوان مثل "يوميات فندق ابن الهيثم" ينطوي على مكان معيّن في المدينة الجنوبية ، المهددة بالاجتياح العسكري. فهو جزء من مدينة ، يُشير وجوده على خصائص كثيرة ، يكشفها النص عبر ما يدوّن من يوميات . فهي يوميات تعني سجّل تاريخي ، والفندق مكان بديل ، أو علامة دالة عن المكان ــ المدينة ــ . ويمكن اعتبار الفندق خزانة المعلومات ، كما وصفها القاص محمد خضير من اندهاشه وهو يطّلع على اليوميات وفي نفس المكان ــ كما ورد في مطلع القراءة هذه . تعينها على أنها "دفتر حرب" فقد حاول المدوّن تخصيصها ، لكي لا يتشظى الناظر إليها في منعطفات القراءة ، وإنما يأخذها ضمن محمل تخصصها في ظاهرة تاريخية معينة امتدت مجرياتها ثماني سنوات مريرة . أما العتبة القائلة :
إلى: " ......... "
القنابل تتساقط، والأفكار كذلك أيضا
وبسرعة الرصاصة يسير قلمي على الورقة
لا حبا ً بالكتابة نفسها ...
لا طلب الأوسمة .. وأنواط ... أو نظرات معجبين
ولا احتجاجا ً على الموت قط ..
ولكن ..
أردت لأحرفي أن تظّل دوار نهارك
لئلا يشعر بالوحشة حين يجيء الليل"
وهذا الإهداء ينطوي على إخفاء اسم أولاً المهدى إليه ، لكي يفتح باب القراءة من دون حدود . كذلك لكي يرمز بالنهار والليل ، للحياة وصفائها من جهة ، وينطوي على تحد من خلال القدرات الذاتية من جهة أخرى . أما القصيدة ، وهي آخر العتبات فهي تحمل أصوات احتجاج، انطوى عليه شعر "الحطاب" بشكل عام . وهنا يبدو احتجاجه واضحا ً إزاء الحرب ، وشجبه لها ، لكنه لا يفرّط بتوازنه المبدئي في مواجهة حقيقة الحرب ، وأهدافها .