- التفاصيل
-
نشر بتاريخ الإثنين, 16 تشرين2/نوفمبر 2015 18:38

ثمة الكثير من الأسئلة تُثار الآن حول وظيفية الانتلجنسيا العربية إزاء ما يحدث من خراب قومي، فهل بات المثقفون العرب أكثر هشاشة في التعاطي مع قيم الإصلاح والتنوير؟ وما هي سمات مواقفهم في مواجهة صعود الأصوليات الجهادية والتكفيرية، التي لا تؤمن بأي وظيفة خارج نسق النص؟
وهل هناك رؤية واضحة لاستشرافات المستقبل؟ وإلى أي حدود يمكن ترسيم خريطة إجرائية لسمات ثقافية مضادة، وفاعلة وبعيدة عن ضواغط مفاهيم الجهاد والأيديولوجيا؟
وما هو دور المؤسسات الأكاديمية والبحثية في صناعة الضدي، وفي حماية العقل العربي من سلطة الوهم والعسكر والميليشيا؟
هذه الأسئلة تثير من الفجيعة أكثر مما تستنفر خطابا للحوار والكشف والتعرية، لأن ما يحدث يتجاوز المعقول، ويضع التاريخ المدونات والسرديات والسير والأسفار- تحت مشرحة الفقهاء وأمراء الجماعات، ولا شأن للعقل بكل ما يجري، حتى بتُّ أضع الكثير من علامات الاستفهام إزاء ما كتبه الراحل محمد عابد الجابري، والراحل محمد أركون، وما أثاره حسن حنفي والطيب تيزيني وهشام جعيط، وكل الذين انحازوا لبضاعة العقل، فهؤلاء الذين تبنّوا تحفيز مشغل نقد العقل العراقي، وتعرية تاريخ المحنة والهشاشة، بدا درسهم وكأنه شكل لجرح نرجسي نستعيده في الخفاء، وندرك من خلاله حجم الخراب الذي تعيشه الأنتلجنسيا العربية، وواقعها المأزوم بعطالة النقد، والطاعن باستيهامات المثقف المُقنّع بقناع الضحية، والباحث عن ملاذ لغوي أكثر من ملاذ وجودي، حتى إن كان في المنفى
الصناعات المضادة للعقل تمثلت بـ "الدولة الأمنية" و"الدولة الأبوية" و"الدولة الريعية" و"دولة المعسكر" وأن مُخرجاتها الثقافية والقيمية تجلت في مظاهر فادحة للفقر والجهل والتخلف والتابعية، حتى تحوّل الكثيرون داخل نسق هذه الدولة إلى أتباع ومريدين ورعايا، مقابل غياب فكرة المواطنة التي وسمها البعض بالفكرة الكافرة، والبُدعة الدافعة للضلالة والنار.
هذه الصناعات تحولت إلى قيم حاكمة، وإلى أطر وحوابس مانعة للتفكير الحر ولسيرورات التحول الاجتماعي والديمقراطية، وأن بعضها تحوّل إلى مظاهر استلابية خاضعة لمهيمنات اللاوعي العصابي، لاوعي الملة، والجماعة، الذي يعني تغييبا واضحا للإرادة ولقوة الذات، وللاستعمالات الآمنة للحريات والحقوق ولقيم الديمقراطية والعدالة والمساواة والمطالبة بشرعنة الدولة المدنية، الدولة الجامعة، والدعوة إلى تأمين مجالات حقوقية وإنسانية لـ "الملاذ" الذي يمكن أن يؤمه المواطن، بوصفه ملاذا اجتماعيا وسياسيا وثقافيا وهوياتيا.
تغييب الملاذ فرض بالمقابل واقعا قهريا للسلطات والجماعات، الذي أخضع النظام العام إلى مرجعياته وتوصيفاته، وعطلّ أية فاعلية حقيقية للمواجهة، أو لإمكانية اصطناع ملاذات مضادة.
جسّد هذا في جوهره هشاشة الأنتلجنسيا العربية، وهشاشة مؤسساتها، وغياب وظيفتها العضوية التي تحدّث عنها غرامشي كثيرا، إذ تحولت المجالات الثقافية، وتحت عوامل تاريخية وصراعية إلى فضاءات للعزلة والمتاهة والمنافي، وإلى تكريس الكثير من مظاهر الاستبداد والعنف، التي انخرط فيها العديد من المثقفين الذين قبلوا بوظيفة المثقف التابع والمهرج والطائفي والمنافق والخائف.
وسط كل هذا العالم الذي يمور بالعنف لم يجد المثقف العربي الشجاع فرصة أو مجالا تعويضيا وإشباعيا سوى البحث عن ملاذات "شعرية" ليطمئن على خزائن روحه من الخراب، وعلى ما تبقى من توازنه القومي واللغوي، إذ تصطنع الدول والجماعات حروبا كلية تمسّ الجسد والنص والفكرة والمعنى.
لعبة البحث عن هذا الملاذ الاضطراري بدت وكأنها الأقرب إلى ممارسة طقس أوديسي، فيه الكثير من التطهير الرمزي، والبحث اللا مجدي عن الحقيقة، فما يحدث في المدن العربية الآن لا يشبه كل الحروب التي قرأنا عنها، أو ربما التي عشنا بعض حرائقها، إنها توغل فنطازي في الانتهاك والموت، وتعرية وحشية لكل الأقنعة التي كان يتقنع بها "مشعلو الحرائق" وهذا الأمر ليس تعبيرا عن محنة تاريخ ما، أو حتى غواية لاستعادةِ أوهامٍ مفقودة عند السلطة أو المعارضة، بقدر ما يبدو الأمر وكأنه تعبير عن هواجس مرضية للمثقف الضحية، وعن إحساس بإيهام بالعصاب الرهابي، الذي تحولت دوافعه إلى عوامل وحوافز لارتكاب المزيد من الجرائم الأخلاقية والدينية والوطنية والقيمية والنزعات الاضطهادية للغيري والمختلف..
الملاذ الشعري ليس هروبا باتجاه الخلاص من العنف المضاد، أو حتى ليس تخلصا من أزمة التعبير عن فرضية "الوعي الشقي" بل هو محاولة لمراجعة الوقائع الثقافية، ولأزمة المثقف وعزلته وفشله في صناعة نسقه الفاعل، فضلا عن كونه مراجعة إجرائية لعلاقتنا بقاموس لغتنا الشعرية التي عرفنا أسرارها كثيرا، التي باتت اليوم وكأنها غريبة عنا، مثلما هي مراجعة معرفية لكل تاريخ الاطمئنانات المغشوشة، وللأفكار التي كنّا نسوّقها على أساس أنها جوهر الوعي والمعرفة، وجوهر الأسئلة..
فما الذي يجري حقا في المشهد الثقافي؟ مثقفون وثوار سابقون وأنصاف فلاسفة ومعلمون وعارفون وروائيون وشعراء يتحولون إلى حكواتيين لتاريخ الطوائف، وإلى مدونين ليوميات تاريخٍ ظل معروضا للشك دائما، وللاختلاف والتضليل، لأنه تاريخ الحاكميات المرعبة، وتاريخ الجماعات العصابية، ولا علاقة له تماما بعوالم المهمشين والمسحوقين وضحايا السلطات والأيديولوجيات والميليشيات والمعسكرات.
هذا التحول المثير للغرابة أفقد المثقف الكثير من شروط وظيفته الحقيقية في تداول المعرفة وإبانة تحولاتها، وفي امتلاك القدرة على فصل الوهم عن الحقيقة، وفي توصيف الأشياء في سياق علائقها، مثلما أعاده- هذا التحوّل- إلى السرير "الفرويدي" بوصف هذا المثقف مريضا، نكوصيا ويعاني قمعيات موت الوعي وموت الأب، والإخصاء الروحي واللغوي، وأن اعترافاته هي تعبير عن كل هذه الهواجس اللاوعيية والنكوصية والراسبة في أعماقه اللسانية والتعبيرية، التي تجعله أكثر تعرضا للهشاشة، وللتخلي عن أي إحساس عميق بالاطمئنان، مقابل أن تتحول المرجعيات اللغوية في سياقها المجازي والاستعاري إلى وظائف كلية تمسّ الجهاز الثقافي، وتعبّر عن عطالة منظومة التعبير، وضعف قدرتها في ممارسة دورها الإشباعي الكاشف عن طبيعة الضواغط النفسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية التي يعيش تحت رهابها هذا المثقف..
العديد من الأسماء، ومن مرجعيات ثقافية مختلفة- عربا وعراقيين- وقعوا في هذا المأزق الفرويدي، حيث الصراع العميق بين الأنا العليا، والأنا العائلية اللاوعيية، الذي تكشف من خلاله الكثير من المظاهر غير المنضبطة لتشكيل مظاهر الوعي الثقافي بدءا من قراباته اللغوية، وانتهاء بالتعبير عن نمط التفكير وبناء الأحكام والمواقف..
فما نقرأه في الكثير من المدونات الثقافية يستدعي مراجعة وفحصا عميقين، ليس لأننا نعيش أزمة صراع مجتمعي، بقدر ما أننا نجد أنفسنا أمام غرائبية "موت المثقف القديم" مثقف المطابخ الحزبية والطائفية، الذي فقد رهان وعيه العضوي، إذ لم يستطع- للأسف- مواجهة أسئلة الوجود والمعنى، ولا حتى التخلص من فوبيا القرابات اللاوعيية الكامنة في ذهنية التحريم، وذهنية السلطة، وذهنية التاريخ، وذهنية الطائفة أو القومية، ولا حتى ذهنية الضحية، أو ذهنية الوهم..
إزاء هذا المعطى تبدو عملية البحث عن الملاذات الآمنة في اللغة أكثر رعبا مما نتصور، لأن اللغة، بوصفها جهاز التفكير والتعبير، تحولت هي الأخرى إلى سرير مرضي مصاب بأمراض الحرمان جرّاء الرقابة وغياب حرية الرأي والفكر، مثلما تحولت أيضا إلى منطقة لتوليد المزيد من الأوهام والفخاخ، باعتبار أن هذه الأوهام هي تعبير لاشعوري عن فكرة التعويض وعن اللذة المفقودة، وعن الإحساس بالتطهير من الأثم الميثيولوجي العالق بـ "قتل هابيل" الذي يعني قتل الشريك الأخلاقي والوطني والمعرفي.